كما تابعنا الأسبوع الماضي، ففقد اندلعت الحرب المكسيكية الأميركية عام 1846، عندما أصر الرئيس الأميركي جيمس بولك على التحرش بالجيوش المكسيكية في الشمال للدخول في حرب مفتوحة بهدف الضغط على الحكومة المكسيكية للتنازل عن أراضيها الشمالية الغربية. وقد نجح بولك في إقناع الكونغرس بإعلان الحرب على المكسيك وخلال أشهر قليلة استطاع حشد ثلاثة جيوش الأول بقيادة الجنرال زاكري تايلور، والذي استطاع إلحاق عدد من الهزائم بالجيش المكسيكي والتوغل حتى مدينة مونتيري وجيش آخر صوب الغرب بقيادة «كيرني». واستطاع جيش تايلور أن يحتل الأراضي المكسيكية التي كان الأميركيون يطمعون فيها، بينما فرض الحصار على الساحل الشرقي للمكسيك بقيادة الجنرال سكوت ودعمه الرئيس بعد ذلك بقوات إضافية من جيش تيلور والتي توترت علاقته به تدريجيًا بسبب شعبيته المتزايدة. وقد استقر رأي البرلمان المكسيكي على إسناد قيادة الجيش إلى السياسي العجوز سانتا آنا والذي دخل في معركة غير حاسمة مع تيلور في الشمال، ولكنه اضطر إلى الانسحاب بعدما استدعاه البرلمان للسيطرة على حالة الفوضى في العاصمة المكسيكية بسبب تشتت الرأي واختلاف السياسيين، وهكذا بدأ الحصار العسكري التدريجي للضغط على المكسيك للتنازل عن أراضيها.
لقد استطاع سانتا آنا أن يفرض السلم الداخلي في العاصمة المكسيكية ودحر الفوضى المحيطة بها وتوحيدها على هدف مقاومة الأميركيين. ولكن هذا التحرك كلفه الكثير من الوقت والجهد لجيش منهك بالفعل، وبالتالي فلم يتمكن الرجل تجهيز الجيش بالشكل المطلوب لمواجهة الجيوش الأميركية، فلقد صدرت توجيهات الرئيس الأميركي للجنرال سكوت بإنزال بر مائي لبدء الغزو الأميركي من الشرق لمحاصرة العاصمة المكسيكية. وهناك دارت معركة «فيرا كروز» الشهيرة والتي استسلمت فيها القوات المكسيكية بعد دفاع مرير بسبب نقص العدد والأغذية بعدما دب فيها اليأس من وصول أي إمدادات من سانتا آنا. وبمجرد أن استطاع سكوت السيطرة على الوضع بدأ يجهز جيشه للتحرك الفوري صوب العاصمة المكسيكية، ولم يكن أمام «سانتا آنا» إلا التحرك بجيشه صوب الشرق لمواجهة الجيش الأميركي بعيدًا عن العاصمة، وقد اختار الرجل منطقة ضيقة معروفة باسم سيروا جوردو بين الجبال لحشد دفاعاته، ونظم الرجل جيشه، ولكنه ترك ميسرته اعتمادًا على أنها منطقة مرتفعة يصعب على الجيش الأميركي اقتحامها، وركز كل جهده في الوسط والميمنة. وهنا وقع الرجل في خطأ تكتيكي شديد سرعان ما استغله القائد الأميركي سكوت فأرسل قوة استطاعت الاستيلاء على هذه المنطقة المرتفعة ووضع المدفعية فيها. وعندما اندلعت المعركة في صباح اليوم التالي فوجئ المكسيكيون بالمدفعية الأميركية المرتفعة تنهال عليهم، ورغم الصمود المكسيكي القوي والدفاع المستبسل للجنود، فإن الأمر كان قد حسم بالفعل لصالح الأميركيين وهزم المكسيكيون هزيمة نكراء اضطر بعدها سانتا آنا لسحب قواته والتوجه نحو العاصمة من أجل تدشين الدفاعات الأخيرة لمواجهة الجيش الأميركي.
وبدأ الجنرال سكوت في تحريك جيوشه صوب العاصمة المكسيكية منتظرًا الإمدادات التي لم تصل له بالشكل الكافي، ولكن جيشه كان متفوقًا بكل المعايير على ما تبقى من الجيش المكسيكي، وهنا أرسل الرئيس بولك مبعوثه لتجديد عرض شراء الأراضي المكسيكية مرة أخرى. ولكن المقاومة المكسيكية لم تكن قد انتهت بعد، فسرعان ما جهزت الجيوش المكسيكية نفسها للدفاع عن المدينة، وساعدهم على ذلك لواء من القوات الآيرلندية المنشقة عن الجيش الأميركي والرافضة للمحاولات الأميركية للاستحواذ على الأراضي المكسيكية، ولكن المقاومة لم تكن قادرة على وقف الزحف الأميركي ضد العاصمة، وفي سبتمبر (أيلول) 1847 حاصر سكوت العاصمة المكسيكية ولم يبق أمامه أية مقاومة إلا في إحدى القلاع الحصينة المعروفة باسم «كاستيو دي شابولتيبك» والتي احتمت فيها المقاومة الباقية، ولكنها لم تكن لتصمد أمام المدفعية الأميركية. وعندما لم يتبق للدفاع عنها إلا بضعة متدربين عسكريين هدأت المعارك ورفض هؤلاء الشباب الاستسلام وآثروا رمي أنفسهم من أعلى القلعة بدلاً من ذلك، وعند هذا الحد انتهت المقاومة المكسيكية واحتل الجيش الأميركي العاصمة المكسيكية انتظارًا لإذعان البرلمان للتنازل عن الأرض.
واقع الأمر أن الساسة المكسيكيين لم يستطيعوا الموافقة على التنازل المطلوب، ولم يكن أمام مبعوث الرئيس «بولك» إلا فتح مفاوضات ممتدة معهم لإقناعهم بعدم جدوى الاستمرار في المقاومة السياسية لأمر محتوم، ولكن الرجل فشل في إقناعهم، وهنا ضاق صبر الرئيس الأميركي وقام باستدعاء المفاوض، ولكن الجنرال سكوت أقنعه بعدم الامتثال للتعليمات لأنه لم يكن من المنطقي أن يختفي المفاوض في هذه الظروف السياسية الصعبة، وخاصة أنه كان عاقد العزم على ضرورة الانسحاب، وبالفعل بقي الرجل واضطر الساسة المكسيكيون للانصياع للأمر الواقع في 1848، فتم التوقيع على الاتفاق النهائي والذي بمقتضاه تنازلت المكسيك عما يقرب من نصف مليون كيلومتر مربع من الأراضي الشمالية والشمالية الغربية لصالح الولايات المتحدة الأميركية وهي الولايات المعروفة اليوم باسم كولورادو ويوتاه ونيفادا وأريزونا ونيو مكسيكو وكاليفورنيا وأريزونا وذلك مقابل خمسة عشر مليون دولار أميركي وتم مد حدود الدولتين إلى نهر «الريو جراندي» كما كانت واشنطن تريد.
هكذا انتهت الحرب المكسيكية - الأميركية بضياع ما يقارب من نصف الأراضي المكسيكية لصالح الولايات المتحدة، وانتهت معها ما وصفها بعض المؤرخين «بالحرب الإمبريالية الأولى» للولايات المتحدة والتي كان هدفها الأساسي هو امتلاك أراضي دولة أخرى، وكانت نتيجة الحرب موت ما يقرب من خمسة عشر ألف جندي أميركي أغلبهم من المرض وضعف الرعاية الصحية وهو ما يمثل قرابة ثلث القوات الأميركية التي شاركت في هذه الحرب بأشكال مختلفة على مدار السنوات الثلاث، وكانت النتيجة بالنسبة للمكسيكيين كارثية، حيث دحر جيشهم وأصبحت المكسيك في حالة عسكرية يرثى لها. وعلى الرغم من نجاح الرئيس الأميركي في تحقيق هدفه السامي بضم الأراضي المكسيكية فإنه فقد كل تعاطف مع مرور الوقت، بل إن الكثيرين بدأوا ينتقدونه علنًا لسياساته التحكمية ومواقفه العنيفة تجاه قادة الجيش، وهو ما جعله محاصرًا من الناحية السياسية في البيت الأبيض في الوقت الذي بدأ فيه التصعيد السياسي لغريمه الجنرال تيلور والذي استطاع الفوز بالرئاسة الأميركية بسبب مواقفه العسكرية والوطنية القوية. والملاحظ أيضا أن هذه الحرب كانت فاتحة خير لعدد ممن شاركوا فيها من قبل الولايات المتحدة، فلقد شهدت أدوارًا قوية لعدد من القادة الأميركيين وعلى رأسهم الجنرال روبرت ليي والذي أصبح فيما بعد قائد قوات الجنوب في الحرب الأهلية الأميركية التي أعقبت هذه الحرب.
وقد تركت هذه الحرب الكثير من الدروس الهامة وعلى رأسها أن الدولة التي تفتقر لجيش قوي لن ينفعها التشدق بالمبادئ والقوانين للدفاع عن أراضيها فقديمًا قال الرومان مقولتهم الشهيرة: «إذا أردت السلام فكن مستعدًا للحرب Si vis Pacem Para Bellum»، فالدولة التي لا تستطيع أن تحمي حدودها وأراضيها فإنها قد تكون معرضة لتجربة مثل التي تعرض لها المكسيكيون في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخهم والتي تركت فيها غصة تاريخية لا تزال تحلق بمرارتها في حلوقهم إلى اليوم، وهو ما دفع الديكتاتور المكسيكي الشهير بورفيريو دياز لقول جملته الشهيرة «مسكينة المكسيك.. بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة».
من التاريخ: نهاية الحرب المكسيكية ـ الأميركية
من التاريخ: نهاية الحرب المكسيكية ـ الأميركية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة