تجري الاستعدادات في الأوساط الثقافية والأدبية في أميركا للاحتفال بمرور 130 عاما على نشر رواية «أدفنشارز أوف هاكلبيري فين» (مغامرات هاكلبيري فين)، التي كتبها الروائي الأميركي مارك توين، في وقت تشهد فيه العلاقات بين البيض والسود توترا متزايدًا.
وبدأ هذا التوتر، كما هو معروف، باشتباكات في فيرغسون، ولاية ميزوري، بعد أن قتل شرطي أبيض شابا أسود. وتبعه هجوم على كنيسة للسود في شارلستون (ولاية ساوث كارولينا)، فقتل تسعة منهم فيها.
وبعد هذه الحوادث، استخدم باراك أوباما، أول رئيس أميركي اسود، كلمة «نيغار» (عبد) في مقابلة صحافية، فأثار نقاشا إضافيا، خصوصا أن الكلمة محرمة في النقاش العام وسط الأميركيين (لكن، طبعا، ليست ممنوعة في النقاش الخاص). ولكن قبل أوباما بـ130 عاما، استعملها مارك توين في هذه الرواية كثيرا جدا. وظل ذلك من أسباب انتقاد الناس، خاصة السود، لها. وتتعدد الآراء حول هذه الكلمة: ماذا عن استعمال السود لها في أحاديثهم الخاصة؟ وحتى في أغانيهم العامة؟ ولماذا إساءة، بينما أصلها موجود كلمة علم الأجناس: «نيغرو» (زنجي)؟ وهل يعارضها السود بسبب عقدة نقص؟ ويستعملها البيض بسبب عقدة استعلاء؟
لم يحسم النقاش بعد عن طبيعة مارك توين هذه (بطلاها رجل أبيض وشاب أسود) أهي رواية عنصرية، أو أنها مجرد رواية «تسجيلية» أو «تاريخية» أو «واقعية»؟ ولا شك أن النقاش سيستمر، مع التوتر الحالي في العلاقات بين البيض والسود.
* ملخص الرواية
* الزمان: النصف الأول من القرن التاسع عشر (قبل الحرب الأهلية بين الحكومة الفيدرالية وولايات الجنوب. بدأت الحرب بعد أن أعلنت ولايات الجنوب انفصالها لرفضها قانون إلغاء تجارة الرقيق. بعد ست سنوات، انتصرت الحكومة الفيدرالية).
المكان: مدينة سنت بيترسبيرغ (ولاية ميزوري)، على ضفة نهر مسيسبي. (اسم المدينة خيالي. لكن، يعتقد أن مارك توين قصد مدينة هانيبال، في نفس الولاية، وعلى ضفة نفس النهر).
* بطلا الرواية
* الأول: «هاك»: صبي أبيض عمره 14 عاما. من عائلة فقيرة، وكان والده مدمن كحول، فهرب منه. وعطفت عليه «مسز دوغلاس»، أرملة في المدينة وآوته، وحاولت أن تربية مسيحية.
الثاني: «جيم»، صبي أسود عمره مثل عمر «هاك» تقريبا. اشترته الأرملة في سوق علنية للرقيق. كان هو «عبدا مؤدبا»، وكانت هي «سيدة طيبة».
عندما التقيا أول مرة، نظر «هاك» نظرة احتقار إلى «جيم». لكن، كررت الأرملة «مسز دوغلاس» أنها تريد منه أن يعامل «جيم» مثلما تعامله هي.
خلال كل الرواية، ظل «هاك» الأبيض مترددا، ومحتارا، في نظرته إلى «جيم» الأسود. كان ضحية صراع بين جانبين:
الأول: ضميره (وتربية مسيحية تعتمد على الحب والتسامح والتعايش).
الثاني: الزمان والمكان اللذان عاش فيها (نظام عنصري رسمي منافق. يشتري ويبيع البيض الزنوج، وأيضا، يدينون بالمسيحية، ويملأون الكنائس كل يوم أحد).
بالنسبة إلى «جيم» الزنجي، كان الصراع صراع هوية (لا صراع آراء، وفلسفات، ونظريات). طبعا، كان يعرف أنه عبد يشترى ويباع. وطبعا، كان يريد الحرية. لكن، في الجانب الآخر، كان متأكدا من أنه لا يقدر على مقاومة النظام العنصري الرسمي، القوي، الظالم. بل، في الحقيقة، لأنه لم يدخل مدرسة، ولم يتعلم كثيرا، كان كل شيء بالنسبة له «عاديا» (وربما طبيعيا).
لهذا، لا بأس أن يقبل معاملة «مسز دوغلاس» الطيبة نسبيا. ولا بأس أن يصادق «هاك» الطيب نسبيا.
لكن، كان «هاك» و«جيم» يتشابهان في أشياء أخرى. كان كل واحد منهما لاجئا، لا يعيش في المنزل الذي ولد فيه، ومنبوذا، لا يعيش، ومتمردا غير متحمس للتربية المسيحية التي تتشدد فيها «مسز دوغلاس». وكان كل منهما مراهقا ومغامرا.
وهكذا، تغلبت «الطبيعة» (مرحلة المراهقة) على كل العوامل السابقة. تمرد الصبيان، وهربا من منزل «مسز دوغلاس». ووجدا زورقا على نهر مسيسبي. وقضيا شهورا يتجولان من مكان إلى مكان، ومن ولاية إلى ولاية. ومن وقت لآخر، يعودان إلى كوخ قديم (في جزيرة جاكسون) صار مثل منزل لهما.
مرة، في ولاية ميزوري، قابل «جيم» والده مدمن الكحول. ووقع في قبضته. فاضطر «جيم» لأن يرشو والده. أعطاه دولارات اشترى بها كحولا، وغاب وعيه، ولم يرَ ابنه وهو يهرب منه، مع صديقة الأسود.
ومرة، في ولاية كنتاكي، لبس «جيم» ملابس بنت (بيضاء). وأثار ذلك انتباه الناس وهم يرون بنتا بيضاء تمشى مع شاب أسود. وفي منزل «مسز لوفتاس»، لم يقدر «جيم» على أن يتصرف كما تتصرف البنت. وأثار ذلك فضول «مسز لوفتاس» واختبرته، واكتشفت أنه ليس بنتا. فهرب من المنزل.
ومرة، في ولاية إلينوي، عرف «جيم» أن الولاية «حرة» (تمنع بيع وشراء الزنوج). لهذا، قال لصديقه «جيم» أنه يريد أن يجد عملا، ويجمع مالا، و«يشتري حريته، وحرية عائلته»، لكن، بعد نقاش عن الحرية والصداقة بين صبيين مراهقين، اتفقا على أن صداقتهما أهم من أي شيء آخر. واتفقا على مواصلة مغامراتهما على نهر مسيسبي.
ومرة، في ولاية كنتاكي، رسوا زورقهما على سفينة مهجورة. لكنهما لم يكونا يعرفان أن مجموعة من اللصوص تسكن في السفينة. اعتقلوهما. وكادوا يقتلون «جيم» الزنجي بأن يعلقوه من فرع شجرة. لكن، ساعد «هاك» صديقه «جيم» على الهروب. ثم هرب هو.
وعندما التقيا، تعانقا طويلا. وبحثا عن زورقهما حتى وجداه. وأحسا أنهما، حقيقة، صديقان وفيان.
وحدث حين كانا في ولاية أركنسا، أن انضم إليهما رجلان كبيران في السن، ويحبا المغامرة مثلهما. وأحسن الرجلان معاملة «جيم» الزنجي. لكن، بسبب فضول الناس ونظراتهما نحو المجموعة (ثلاثة بيض وأسود)، وضع الرجلان قيدا في يدي «جيم» وصاروا يقولون للناس إنه «عبد هارب، اعتقلناه» ومرة، طلياه بطلاء أزرق، وسمياه «العربي المريض».
وفي كل الحالات، كان الثلاثة البيض يريدون حماية الزنجي من غضب الناس وهو يتجول معهم من مكان إلى مكان على ضفاف نهر مسيسبي. وهكذا، من مغامرة إلى مغامرة (أكثر من مرة، اعتقل الزنجي)، عاد الصبيان إلى منزل «مسز دوغلاس» التي كانت قد توفيت قبل شهور قليلة. وتركت وصية بأن تعتق الزنجي. وتوفي، أيضا، والد «هاك» كما توقع الولد، وفاة مأساوية. كان مخمورا، وذهب ليسبح في نهر مسيسبي، وغرق.
في نهاية الرواية، وهي على لسان «هاك»، صار «جيم» حرا. لكن، قرر «هاك» أن يوصل مغامراته. هذه المرة، ليسافر غربا، إلى مناطق الهنود الحمر. (ربما ليصادق صبيا هنديا أحمر، ويعامله مثلما عامل الزنجي، ويفتخر بأنه صبي يحترم نفسه، ويحترم غيره، رغم الاختلافات).
* ترحيب ونقد
* بدأ النقاش عن هذه الرواية بمجرد نشرها (في سنة 1884، نشرت في بريطانيا، لأن شركات نشر أميركية رفضتها، بسبب ألفاظها، والصداقة القوية بين بطليها، الأبيض والأسود). لكن، في سنة 1885، نشرت الرواية، أيضا، في الولايات المتحدة.
منذ البداية، دافع مارك توين عن الرواية. وقال في محاضرة عنها: «في الصراع بين القلب والعقل، انتصر القلب الطيب على العقل الفاسد».
وكتب مايكل هيرن، في كتاب «دراسة مغامرات هاكلبيري فين»: «أكثر من في أي رواية أخرى له، استعمل مارك توين كثيرا من الألفاظ البذيئة». وكتب ويليام هاويل، في كتاب «روايات مارك توين»: «لن تقبل كثير من النساء اللائي أن يقرأن رواية «مغامرات فين» بسبب الألفاظ النابية فيها». لكن، تظل معالجة الرواية للمشكلات بين البيض والسود هي أكثر المواضيع إثارة للنقاش:
كتب شيلي فيشار، في كتاب «مارك توين والثقافة الأميركية»: «لم يكن «جيم» (الزنجي) هو الشخصية الرئيسية المضطهدة في الرواية. كان صديقه (هاك/ الأبيض)، أيضا، مضطهدا. ويبدو أن مارك توين تعمد ذلك للكشف عن معارضته هو نفسه لممارسات العنصرية».
لكن اختلف مع فيشار آخرون. منهم ستيفن ريلتون، في دورية «الثقافة الفرجينية» تحت عنوان «جيم (الزنجي) ومارك توين»: «كان مستحيلا من مارك توين أن يتجاهل الأحاسيس العنصرية القوية وسط الأميركيين، خاصة في ولايات الجنوب، في ذلك الوقت. من كان سيقرأ هذه الرواية إذا لم يظهر فيها (جيم/ الزنجي) بالمظهر المتوقع من عبد؟ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، رغم قرارات الرئيس أبراهام لينكولن بتحرير الرقيق، لم تنته التفرقة العنصرية». وأضاف: «لهذا، لجأ مارك توين إلى الفكاهة بهدف التخفيف من حدة التفرقة العنصرية ضد (جيم) لكن، كانت هذه الفكاهة على حساب (جيم) المسكين».
وترتكز الكتابات الأخرى التي ترى أن هذه الرواية عنصرية على حقيقة أن جيم (الزنجي) لا يعرف حتى القراءة والكتابة، ولأنه يصدق الشعوذات، بعضها ديني، وبعضها غير ديني، صار وكأنه صورة نمطية لبعض الشباب السود، لأن «هاك» (الأبيض) تندر كثيرا على «جيم»، صار وكأنه صورة نمطية لاستعلاء البيض على السود. حتى إذا فعل ذلك مع «حسن نية».
وخلال العشرين عاما الأخيرة، انضم إلى الناقدين الجيل الجديد للمثقفين السود مثل شيلي فيشكين، التي كتبت في كتابها «مارك توين والسود» قائلة: «يستمر مثقفون بيض يعلقون على الرواية تعليقات سطحية. ويعود ذلك إلى أنهم لا يعرفون أي شيء عن حياة السود في ذلك الوقت». وضربت مثلا بهرب «هاك» من والده الذي أساء معاملته. وكان ذلك شيئا عاديا. لكن، عندما هرب «جيم» من العبودية، هز كل شيء: النظام، والتقاليد، والثقافة.
أما هنري هاربسون، مؤلف كتاب: «مارك توين وعصره»، فكتب: «من المفارقات أن شركة النشر الأميركية التي رفضت نشر الكتاب قالت إن السبب هو الألفاظ البذيئة في الرواية. وحتى بعد أن نشرت شركة أخرى الكتاب، قال كثير من البيض ذلك. ومنعت كثير من المكتبات الكتاب بسبب ذلك. لماذا لم يقولوا أي شيء عن (جيم)؟ ألم تكن كلمة (نيغر/ عبد) بذيئة؟». وأجاب على سؤاله: «لأن (جيم) لم يكن معترفا فيه، كان كل شيء له صلة به غير معترف به».
ومع ذلك، رحب بالرواية كثير من الكتاب الشهيرين، ومنهم نورمان ميللر، الذي قال (في دبلوماسية): «إنها رواية مقبولة». أما أرنست فتحمس لها كثيرا قائلا: «أحسن رواية أحتفظ بها. وأحسن جزء فيها هو سرقة (نيغر جيم/ العبد جيم)».