السودان: أزمات متلاحقة.. وابتكارات شعبية لمواجهتها

تهدد بـ«ثورة جياع» * مواطنون نقلوا القمامة إلى مقار حكومية * عائلات اتخذت هيئة الكهرباء مقر سكن لها

السودان: أزمات متلاحقة.. وابتكارات شعبية لمواجهتها
TT

السودان: أزمات متلاحقة.. وابتكارات شعبية لمواجهتها

السودان: أزمات متلاحقة.. وابتكارات شعبية لمواجهتها

ابتكر الخيال الشعبي السوداني حيلاً جديدة لمواجهة الأزمات المتلاحقة التي تعيشها - وعاشتها - البلاد خلال شهر رمضان الماضي والأشهر السابقة له وإبان عيد الفطر، فالعاصمة الخرطوم شهدت أزمات خانقة في مياه الشرب والإمداد الكهربائي والنظافة.
من بين الابتكارات: نقل مواطنين القمامة إلى مقار اللجان الشعبية، وهي لجان تابعة للحزب الحاكم وكدسوها هناك، وسد محتجون على قطوعات مياه الشرب الطرقات بأواني المياه الفارغة، ولجأ مواطنون إلى مكاتب إدارات الكهرباء في الأحياء للتمتع بما هو موفر بها من تكييف هواء، احتجاجًا على البرمجة القاسية التي فرضتها إدارة الكهرباء والناس صيام في صيف قائظ.
بعد أشهر قليلة من تدشين الرئيس عمر البشير لفترة رئاسية جديدة تكمل سنين حكمه إلى أكثر من 30 عامًا، أحاط بالبلاد سيل من الأزمات القديمة والمستجدة، وتفاقمت قضية تزويد المواطنين بالكهرباء ومياه الشرب في أنحاء واسعة من الخرطوم ومدن البلاد الأخرى التي تتمتع بتلك الخدمات، كما شهدت أنحاء واسعة من السودان أزمة جدية في المحروقات خاصة «الجازولين»، في الوقت الذي ارتفعت فيه تكاليف المعيشة وأسعار السلع والخدمات بصورة خرافية.
المواطنون في الخرطوم وبعض المدن واجهوا تلك الأزمات باحتجاجات متلاحقة ومبتكرة، وزاد الغضب الشعبي، وشهدت أحياء كثيرة من العاصمة مظاهرات واحتجاجات العطش والخدمات مثل خدمة الكهرباء وخدمة نقل النفايات.
وحمل مواطنون في ضاحية «أم بدة» أكياس القمامة إلى دور اللجان الشعبية، بينما أغلق متظاهرون في أحياء «الصحافة وجبرة والسلمة والأزهري والكلاكلات» جنوبي الخرطوم شوارع الأسفلت بأواني المياه الفارغة و«الأزيار» الفخارية احتجاجًا على انقطاع مياه الشرب من بيوتهم.
وعمد شباب للاحتجاج بطريقة ناعمة على قطوعات الكهرباء باللجوء إلى المقار المكيفة لإدارة الكهرباء في الأحياء، والتي تتمتع بخطوط ساخنة، لمواجهة البرمجة القاسية التي فرضتها وزارة الموارد المائية والري والكهرباء لمواجهة نقص التوليد الكهربائي.
وتداول ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لرب أسرة اصطحب أطفاله وفراشه إلى مكتب الكهرباء في «ود نوباوي» بأم درمان، وافترش الأرض هو وأبناؤه وشرع في تلاوة القرآن الكريم.
وفي ضواحي «أم بدة والفتيحات وأبو سعد» بأم درمان احتج الأهالي هناك على تردي البيئة وغياب شاحنات القمامة بأن جمعوا أكياس القمامة وذهبوا بها إلى مقار اللجان الشعبية في الأحياء حتى تضطر اللجان للتعامل معها، وسيروا المظاهرات احتجاجًا على انعدام مياه الشرب وقطوعات الكهرباء.
كما لجأ الكثير من المواطنين في أحياء الخرطوم إلى مكاتب إدارة الكهرباء هربا من النهار القائظ للتمتع بتكييف الهواء غير المقطوع أو الممنوع، وتدخلت الشرطة لتفريق المتظاهرين مستخدمة الغاز المسيل للدموع والهراوات.
واعترف والي الخرطوم المعين حديثًا عبد الرحيم محمد حسين، بوجود مشكلة في خدمة المياه في أكثر من 20 حيًا بالخرطوم، وتبعًا لذلك أطاح بمدير هيئة مياه الولاية وعيّن بديلاً له، وأعلن عن خطة إسعافية طويلة المدى لمعالجة مشكلة مياه الشرب في المدينة المحاطة بثلاثة أنهر.
كما شهدت أحياء «الجريف شرق، أبو آدم، حلفاية الملوك» اعتصامات في الميادين العامة احتجاجًا على نزع السلطات لقطع أراضي يملكونها دون تعويض، واصطدموا بالشرطة التي كانت تحاول تفريقهم، ما أدى لمقتل شاب في الجريف شرق، وقبله شاب آخر في منطقة «أم دوم»، فضلاً عن سيدة متأثرة بجراحها في «أبو آدم»، وما زالت الاعتصامات في مستمرة في الجريف، وقاربت شهرها الرابع من الاعتصام المستمر.
من جهة أخرى، شهدت الخرطوم وبعض ولايات البلاد الأخرى شحًا في المحروقات خاصة «الجازولين» الذي تعتمد عليه الزراعة والمواصلات العامة ومحطات توليد الكهرباء الحرارية، الأمر الذي استدعى من وزير النفط والغاز محمد زايد عوض لإصدار عدد من الموجهات لتسهيل انسياب المواد البترولية لمناطق الاستهلاك بولايات البلاد المختلفة لا سيما الجازولين.
وقال زايد إن المحروقات النفطية تشكل أهمية كبيرة لارتباطها بمتطلبات الحياة اليومية لذلك يترتب الالتزام بتوفيرها وتوزيعها لمواقع الاستهلاك بصورة سلسة ودقيقة.
ورغم نفي السلطات وجود شح في الوقود، لكن وزير النفط اعترف أمام البرلمان، بأن الحصار المصرفي يعطِّل أحيانًا إجراءات تفريغ ودخول البواخر الرابضة في عرض البحر إلى بورتسودان.
وتتهم وزارة النفط شركات الخدمة بالتلاعب في حصص الوقود، ما أدى لإصدارها لموجهات توقف بموجبها تعبئة الوقود في أوان غير مصرح بها، وهو الأمر الذي تعتبره نوعًا من «التهريب».
وهدد الوزير بسحب تراخيص الشركات التي تخالف ضوابط توزيع المحروقات باعتبارها أولوية قصوى لنجاح الموسم الزراعي عبر توفير الكمية المطلوبة من الجازولين لكل مواطن.
بمواجهة أزمة الكهرباء، قال وزير الموارد المائية معتز موسى للبرلمان الأسبوع الماضي، إن هناك نقصًا في التوليد الكهربائي، ما يوجب برمجة القطوعات التي لا يمكن تجنبها إلا بما سماه «الترشيد الطوعي للاستهلاك عند الذروة».
وطالب الوزير البرلمان بإعادة النظر في تعرفه الكهرباء، مؤكدًا أن التعرفة الحالية لا تغطي أكثر من ثلث الكلفة التشغيلية، لكن النواب رفضوا بشدة أي زيادات في تعرفة الكهرباء.
ومضت مهلة 20 يومًا حددها مدير الشركة السودانية لنقل الكهرباء جعفر علي الرشيد لتحسين الإمداد الكهربائي دون تحسن يذكر في خدمة الكهرباء، والذي أرجع الأزمة إلى تناقص التوليد المائي المتزامن مع فصل الخريف، متوقعًا انخفاض التوليد المائي من 1100 إلى 950 ميغاواط في سد مروي، ومن 280 إلى 120 ميغاواط من خزان الرصيرص.
سياسيا، تتلاحق الأزمات على حكم الرئيس البشير في دورته الجديدة، فالاحتجاجات الشعبية وارتفاع تكاليف المعيشة وسوء الخدمات تهدده بما يمكن أن يطلق عليه «ثورة جياع»، في وقت ترفض فيه المعارضة دعوته للحوار الوطني وتعتبرها مجرد محاولة لكسب الوقت.
ولم تفلح الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في أبريل (نيسان) الماضي في كسب شعبية جديدة للرئيس البشير ولا لحزبه، إذ شهدت مقاطعة كبيرة من قبل قطاعات واسعة من الشعب، والقوى السياسية المعارضة، بل يقول مراقبون إنها زادت أزمة نظام الحكم، وأشعلت الصراعات الداخلية فيه، بين تيار ذهب - أو ذُهب به – وتيارات جديدة أتت للسلطة توًا.
وكرست تجربة الانتخابات والتعديلات الدستورية التي سبقتها، السلطة كلها في يد الرئيس، بل وانتزعتها من حزبه، وأحالت تجربة الحكم الاتحادي لهباء منثور، إذ أصبح الرئيس يعين حكام الولايات، وأتيح له فرصة زيادة صلاحيات وحصانات الأجهزة الأمنية، ما جعل من التجربة وبالاً على كثيرين حتى داخل الحزب نفسه.
من جهته، قال تحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، إن على القوى الوطنية تصعيد ودعم الاحتجاجات المطلبية السلمية للمواطنين، الناتجة عن تردي الخدمات، وتطويرها إلى انتفاضة شعبية وعصيان مدني وإضراب سياسي.
وأكد التجمع المعارض في بيان أن «رفض السودانيين لسياسات النظام، التي توجوها وعبروا عنها بمقاطعة اﻻنتخابات، وبتصاعد قاعدة الاحتجاجات المطلبية السلمية، تؤكد عزلة النظام».
ورأى التحالف أن ذلك يتطلب دعم هذه الاحتجاجات السلمية المطلبية باعتبارها تمثل الإطار المرجعي لمفردات خطاب الاحتجاج السياسي في المرحلة المقبلة.
وتابع: «إن المطلوب من كافة القوى الوطنية الحية دعم هذه الاحتجاجات المطلبية المشروعة وتصعيدها وتنوع فعالياتها، لتشمل كافة القطاعات بمختلف مكوناتها الفئوية والاجتماعية، وصولاً لإنجاز العصيان المدني والإضراب السياسي والانتفاضة الشعبية».
وقال بيان التحالف إن بقاء النظام الحالي على سدة الحكم من شأنه أن يقود البلاد ويعمق أزماتها نحو استمرار الحرب بتداعياتها الإنسانية التي تهدد وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها، كما يمثل أكبر عقبة أمام إيجاد مخرج ديمقراطي أزمات البلاد: «رغم دعواته الملغومة والذرائعية للحوار، هذه الدعوة التي لم تعد تنطلي لعبتها وأهدافها على أحد».
وذكر أن «أي مخرج لأزمات البلاد ﻻ بد أن يترتب عليه ذهاب النظام غير مأسوف عليه»، مطالبًا بحشد طاقات السودانيين من أجل إسقاط النظام «كمدخل للتغيير الجذري الذي يلبي تطلعات الشعب السوداني».
وأشار البيان إلى أن الأزمة الهيكلية التي يواجهها الاقتصاد السوداني نتيجة انفصال جنوب السودان، وقال إن استمرار الحرب وزيادة الإنفاق الحكومي على أجهزة الأمن والدفاع والقطاع السيادي ومؤسسات الحزب الحاكم ورموزه ومحسوبيه، واستشراء الفساد، كل ذلك يفاقم الفقر والبؤس في ظل ضائقة معيشية غير مسبوقة.
وزاد: «يتزامن كل هذا الشقاء مع معاناة انقطاع التيار الكهربائي والمياه في الكثير من المدن والأحياء رغم أن المواطن يدفع فاتورة الماء والكهرباء مقدمًا».
وأفاد التحالف «لم تمر بلادنا في تاريخها المعاصر، بمرحلة تواجه فيها بتحديات كبرى، كالتي تعيشها الآن نتيجة سياسات النظام الديكتاتوري القمعي التي يتم تنفيذها تحت حراسة القوانين المقيدة للحريات».
وأشار إلى الانتهاكات الجسيمة والتجاوزات الممنهجة عبر «الاعتقالات والتعذيب والتعدي على الطلاب والشباب والنساء، بل إن التجاوز وصل حد الحكم بجلد المعارضين السياسيين عبر قانون النظام العام».
ورغم أن نظام حكم الرئيس البشير ظل يدعو الأطراف كافة للدخول في الحوار، فإن المعارضة لا تعتبر هذه الدعوة جدية، وترى فيها محاولة من النظام لكسب المزيد من الوقت لتجاوز أزماته، ليعود إلى سيرته القديمة.
أمنيًا، لم تستطع حكومة الخرطوم حسم التمرد عسكريًا رغم إعلانها مرارًا وتكرارًا عن عمليات «الصيف الحاسم» التي تتحدث عن حسم التمرد خلال عام، فالعمليات العسكرية التي تدور منذ أكثر من 4 سنوات في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وأكثر من 11 سنة في ولايات دارفور، لم تفلح العمليات العسكرية في كسر شوكة التمرد وتحقيق السلام وبسط هيبة الدولة.
وبسبب من آثار الحرب وانتشار السلاح بين الأهالي، فإن مناطق كثيرة في البلاد شهدت حروبات قبلية راح ضحيتها المئات، واستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، ووجهت الاتهامات في بعضها إلى «يد حكومية» تسند قبيلة ضد أخرى رغم النفي المتكرر الذي دأبت الخرطوم على إطلاقه.
من جهتها أعلنت الحركة الشعبية - شمال - الأسبوع الماضي عن إفشال عمليات ما يسمى بـ«الصيف الحاسم»، وأنها دمرت 12 متحركًا للجيش السوداني الحكومي في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان التي تدور فيها معارك عنيفة بين الطرفين.
وأعلنت الحركة رسميًا حسب تقييم ميداني أجرته عن وضع نهاية للهجوم الصيفي الحكومي والقضاء على 12 متحركا في جبال النوبة والنيل الأزرق وإفشال الهجوم الصيفي الحكومي، ومنعه من احتلال الحدود الدولية بين السودان وجنوب السودان أو الوصول إلى منطقتي «كاودا» و«يابوس» التي تسيطر عليها.
وكان الجيش السوداني أعلن مرارًا عزمه إنهاء التمرد بحلول الصيف الحالي، وأرسل مئات الجنود من الجيش وقوات الدعم السريع إلى مناطق العمليات في جنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث دارت معارك عنيفة زعم فيها الطرفان تحقيق انتصارات متوالية على الجانب الآخر.
دوليًا، فإن الخناق يضيق بنظام الحكم، خاصة موضوع المحكمة الجنائية الدولية، الذي بلغ ذروته فيما عرف بـ«أحداث جنوب أفريقيا»، ذهب الرئيس البشير للمشاركة في قمة الاتحاد الأفريقي التي عقدت في جوهانسبرغ الشهر الماضي، فأصدرت محكمة قرارًا قضى بمنعه الخروج من البلاد لحين البت في أمر تسليمه للاهاي، لكن حكومة جاكوب زوما رفضت الانصياع لأمر المحكمة وسمحت له بالعودة المموهة إلى بلاده.
من جهتها، جددت الولايات المتحدة الأميركية في يونيو (حزيران) الماضي وضع السودان في قائمتها للدول الراعية للإرهاب لعام آخر، رغم التحسن النسبي في العلاقات بين البلدين، فيما مدد مجلس الأمن الدولي مهمة قوات حفظ السلام المشتركة (يوناميد) لعام آخر، في الوقت الذي تطالب فيه الخرطوم بوضع استراتيجية لإخراج تلك القوات من البلاد.
اقتصاديا، تعيش البلاد أزمة نقد أجنبي طاحنة، فقد قارب الدولار الواحد من حاجز العشرة جنيهات سودانية حسب السوق الموازي، يبلغ سعر الدولار الرسمي زهاء 6 جنيهات، فيما يبلغ سعره الموازي 9.5 جنيه تقريبًا.
وبسبب من العزلة الدولية وسوء السياسات الاقتصادية فإن الخرطوم تكاد تكون عاصمة «مفلسة» تعجز عن سداد قيمة واردات المحروقات ما أدى لأزمة في خدمة الكهرباء والمياه.
وتصاعدت بشكل قياسي أسعار السلع الأساسية في السوق السوداني، ويتناقل الناس بسخرية مريرة أن سعر «كيلو الطماطم» بلغ 50 جنيها (زهاء 11 دولارا)، فيما بلغ سعر «كيلو البامية» 40 جنيها، قالت ربة منزل لأسرتها: «هذه آخر حبات طماطم نشتريها، فالسعر بلغ خمسين جنيها»، وهكذا يمكن القياس لبقية السلع.
وللوصول لحل تفاوضي سلمي لمشكلات السودان، يسعى الاتحاد الأفريقي وآلية الوساطة الأفريقية رفيعة المستوى لجمع الفرقاء السودانيين في طاولة التفاوض، وكاد يفعلها في مارس (آذار) الماضي، بيد أن الخرطوم تنصلت في اللحظة الأخيرة عن المشاركة في لقاء تحضيري يعقد في أديس أبابا لتحديد أجندة الحوار الوطني، تحت مبرر أن بعض حلفائها لم توجه لهم الدعوة، ما اضطر الاتحاد الأفريقي لرفع التفاوض.
أزمات متلاحقة، اقتصادية سياسية أمنية اجتماعية وعزلة خارجية وأفق سياسي مسدود، يواجهها نظام الحكم في السودان، فهل تفلح الخرطوم ونظام الحكم في الخروج من «حافة الهاوية» الواقفين عليها، كما ظلتا تفعلان منذ ما ينيف على 26 سنة هي عمر حكم الرئيس عمر البشير للسودان..؟!
وهل يفلح انتقال تحالفات الحكم الخارجية من حليف استراتيجي لـ«إيران» إلى حليف لبلدان الخليج النفطية، وهل تمنحه تلك الدول «قبلة الحياة»، أم أنها لا تزال «لا تثق فيه» كثيرًا..؟! وهل يصمد الحلف الخليجي السوداني الجديد أمام المتغيرات الدولية، خاصة الاتفاق النووي الإيراني مع القوى العظمى أم تعود حليمة السودانية لقديمها وحليفها السابق إيران..؟! هذا ما لا يستطيع أحد التكهن به، لكن تكمن في رحم الغضب الشعبي «ريح ثورة جوعى»، قد تفلح القوى المعارضة في توظيفها وقد لا، فتنجح السيناريوهات التفتيتية التي ظل النظام يحذر منها، رغم أن المعارضين لا يرون في تحذيراته هذه مجرد دعاية الهدف منها استمراره حاكمًا..!



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.