ثلاث كاتبات أصبحن ظواهر غير مسبوقة في عالم النشر: ج.ك. رولنغ، إريكا جيمس، وهاربر لي. لكن هاربر لي، صاحبة «أن تقتل طائرًا محاكيًا»، التي عادت من الظل بعد خمس وخمسين سنة، هي ليست مثل رولنغ، مؤلفة سلسلة «هاري بوتر»، التي جذبت الملايين بعوالمها السحرية، وليست مثل إريكا جيمس، التي قرأها أيضا الملايين الباحثون عن الإثارة الجنسية.
ونستطيع أن نقول إنها ليست حتى كاتبة محترفة، تمتهن الكتابة، بالمعنى الذي نفهمه. قالت كلمتها عن عنصرية أميركا في النصف الأول من القرن العشرين.. واختفت. انسحبت بهدوء من المشهد. ونسيها الآخرون أيضًا. هل قالت كل ما تريد قوله في رواية واحدة وصمتت؟ أم أنها لم تكن مستعدة للشهرة التي جاءتها فجأة، فلم تحتملها، وآثرت الانسحاب؟ أم أنها، ببساطة، كما أثير آنذاك، لم تعد قادرة على كتابة رواية أخرى؟ اعتقد الناس أنها تركت مدينتها الصغيرة، مونرو في ولاية ألاباما، ثم اكتشفوا فيما بعد أنها لم تبرح بيتها قط! ماذا كانت تفعل؟ لا أحد يدري. كانت تتحاشى الحشود، وأولئك السياح الذين كانوا يأتون من مختلف أنحاء العالم لمشاهدة قاعة المحكمة الشهيرة التي دافع فيها المحامي أتيكس، في رواية «أن تقتل طائرًا محاكيًا»، عن الشاب الأسود. وضاعف من شهرة هذه القاعة الفيلم الذي اقتبس من الرواية، والذي مثله غريغوري بيك، وفاز بثلاثة أوسكارات.
لا يوجد موقف فكري أو فني وراء انسحاب هاربر لي، وهو واحد من أكثر الانسحابات الأدبية غرابة في القرن العشرين. هي لم تردد مع أميلي ديكنسون، التي وجدوا قصائدها تحت مخدتها بعد موتها، بأن «الشهرة مزاد للعقل». وهي لم تنسحب نتيجة فشل أو خيبة أمل على الأقل كما فعل مواطنها الأميركي الروائي سالنجر قبلها بعشر سنوات، حين لم تصب روايته الثالثة النجاح نفسه الذي عرفته روايته «الحارس في حقل الشوفان»، التي ترجمها للعربية الروائي الأردني الراحل غالب هلسا، فاعتزل في مزرعته في نيوهامبشاير، ولم يظهر سوى مرة واحدة في الثمانينات، ولم يعطِ سوى مقابلة صحافية واحدة منذ 1953 حتى رحيله عام 2010 عن 91 عامًا.
انسحبت هاربر لي وهي في قمة نجاحها، إذ بيعت من روايتها «أن تقتل طائرًا محاكيا»، التي استلهمتها عن حادثة عنصرية وقعت في بلدتها عام 1936، ملايين النسخ حال صدورها عام 1960، واستحقت عنها جائزة «بوليتزر» العريقة، وترجمت إلى عشرات اللغات، ومنها العربية.
لماذا إذن انسحبت هاربر لي؟ لا أحد يعرف بالضبط. لقد قالت آنذاك إنها لم تعد تستطيع أن تكتب، فـ«الكتابة صعبة»، لكن هناك في التاريخ الأدبي ظاهرة أصحاب «الواحدة»، يقولونها ثم يصمتون بعد أن يكونوا قد قلبوا الدنيا. ألم يفعل ذلك ميغيل دي سرفانتس في بداية القرن السابع عشر بروايته «دون كيشوته»؟ وفي أدبنا العربي، هناك شعراء كثيرون لم يكتبوا سوى قصيدة واحدة، ولكنها أخلد من آلاف الدواوين، ولعل أبرزهم مالك بن الريب، الذي لا تزال قصيدته «ألا ليت شعري» توقف شعور رؤوسنا، وتصيبنا بالحمى.
وعلى الرغم من العثور على رواية أخرى لهاربر لي وهي «فلتعيّن لي حارسًا» - هل هي حقا رواية أخرى أم نسخة أولية من روايتها الشهيرة؟ - صدرت يوم الرابع عشر من هذا الشهر واصطف الآلاف في شوارع لندن والعواصم الأوروبية وأميركا، منذ الصباح وحتى وقت متأخر في الليل لشراء نسخ منها، فإن لي تبقى صاحبة «أن تقتل طائرًا محاكيًا»، التي صنعت مجدها وحضورها القوي على الرغم من عزلة خمسة وخمسين عاما، ليس في التاريخ الأدبي فقط ولكن بين الناس الذين دافعت عن قيمهم وإنسانيتهم وإخوتهم في زمن كالح كم كانوا محتاجين فيه إلى صوت شجاع. وها نحن نرى هؤلاء الناس يردون الجميل لهاربر لي.. للأدب الإنساني الحقيقي.
ظاهرة هاربر لي
ظاهرة هاربر لي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة