علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته

في «حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية» حدد ملامحها وطرق الاشتغال عليها

علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته
TT

علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته

علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته

إذا كان بعض المفكرين العرب أو المغاربة، قد تعرضوا لموضوع العولمة من منطلق «الهاجس / الدفاع عن الهوية والخصوصية»، فهي عند علي حرب كما بين في كتابه «حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية»، ليست هاجسا مخيفا يجب أن ننهج تجاهه سياسة الاحتراز، أو أن نقف ضدها كحراس للقيم.. بل هي إمكان منفتح يعطي قابلية للتطويع والتحويل لما يتلاءم معنا. وفي صميمية عملية التحويل هذه والتطويع، يمكن للهوية أن تتجدد وتتمدد. فالهوية ليست شيئا ثابتا، بل هي إبداع مستمر للذات والمجتمع.
ويمضي علي حرب في التحليل، ليكشف أن خطاب الهوية خطاب طوباوي حول معطى ديناميكي، يبنى بشكل مستمر في عملية تفاعلية مع العناصر المشكلة للواقع. ومن هنا يعلن علي حرب نهاية كل الخطابات التقليدية حول التراث والحداثة، لأن «ثنائية الهوية والعولمة» تتجاوز، بقدر ما تستبطن، المتعارضات التي كانت متداولة حتى الآن، كثنائية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، أو الخصوصية والعالمية. فلكل عصر قضاياه كما له فتوحاته واختراعاته. والسؤال الأساسي الذي ينبغي أن يطرح، حسب علي حرب، لفهم ظاهرة العولمة هو: كيف يتشكل العالم ويسير؟ وما هو دور الأفكار في ظل الانفجار التقني لوسائط الإعلام؟ وما مستقبل الهويات الثقافية في عصر المعلومة الكونية؟ وبنظرنا فخطاب العولمة والهوية عند علي حرب يمكن توصيفه ومقاربته من خلال النظر للعولمة باعتبارها:
التدفق السيّال للمعلومة والبضائع، تحريك للأفكار والقيم والثقافات، إمكان قابل للاستثمار والخلق والتحويل، التحالف بين الثالوث: المعرفة / السلطة / القوة في تشكيل العالم.
1. العولمة كتدفق سيّال للمعلومة والبضائع.
بتأثير من فلاسفة الاختلاف وتيار ما بعد الحداثة، يتبنى علي حرب تصورا للواقع الذي خلقته العولمة بكل آلياتها الجديدة، مؤسسا على مفهوم الافتراضي الزمني والمكاني، والافتراضي هنا، ليس المتخيل، بل هو النسخة المتعددة الأصل SUMOLACRE، ومن دون أي أصل. وهكذا حسب علي حرب، «نحن إزاء فتح كوني يتغير معه سير العالم على ما كان يجري عليه حتى الآن، سواء في عصر المصنع أو في عصر الحقل، حيث كان التعاطي مع الواقع يتم عبر المصنوعات المادية من السلع والأدوات، أو عبر الإنتاجات الذهنية من الأساطير والعقائد أو من المثل والنظريات».
مع الدخول في عصر الحاسوب تنقلب الأمور بالكلية. إذ يصير التعاطي مع العالم، بأدواته المادية وأجهزته الآيديولوجية، من خلال خلق عالم آخر اصطناعي، أصبح يتحكم بالواقع ومعطياته، عبر أنساق المعلومات وأنظمة الأرقام التي تجوب الفضاء السبراني. وتلك هي مفاعيل ثورة المعلومات التي هي الآن مدار الاختلاف والسجال. إنها تشكل واقعة العصر الأولى، عند من يحاول قراءة العولمة، ظاهرة مفردة، قراءة فعالة ومثمرة. هذا الانقلاب الكوني حسب علي حرب، يجعل نسق المعلومة وطريقة اشتغالها «بمثابة نظام الأنظمة في التفكير والعمل والبناء، في إدارة الكلمات والأشياء، إنها ما يغير قواعد اللعبة الوجودية». فالعولمة عند علي حرب، كما قلنا، يمكن قراءتها من منطلق التدفق السيّال للمعلومات والبضائع، حيث يقول إن نظام المعلومة هو بنية العولمة ومكمن قوتها السيّالة والجارفة، فالعولمة استطاعت أن تتيح للجميع الحق في المعلومة وفي المشاركة في المعلومة، بل وفي صياغتها وتحريرها وتعديلها في الآن نفسه. لنأخذ مثال Bloggers أو المواقع الإخبارية، فهي تتيح للقارئ التعليق والنقد في الآن نفسه، بل إنشاء موقع أو مدونة لنشر معلومات أو أفكار ورؤى، أو الاعتراض على سياسات حكومية، وتكوين رأي عام متعاطف، أو قراء متابعين.
2. العولمة تحريك للأفكار والقيم والثقافات:
يقول المثل الصيني: الصورة بألف كلمة في تكثيف عميق لفلسفة الصورة، ما يصنع العالم اليوم هو الوسيط البصري، وارتباط الأفراد والمجتمعات والثقافات بشكل وثيق الصلة اليوم بأجهزة الحاسوب، والشبكة العنكبوتية، والهواتف النقالة، وأجهزة التلفاز، والصحون اللاقطة للأقمار الاصطناعية. فالفرد اليوم أصبح غير مقيد بزمن ومكان محددين، فهو موجود في جميع الأمكنة، وحتى إن لم يكن وجوده فيزيائيا. فالوجود السبراني كما يحدده علي حرب، أو الوجود الافتراضي، أو المصطنع، بتعبير أدق، حسب بودريار، يتيح للفرد معرفة الأخبار وتلقيها من أي مكان وأي ثقافة في العالم، بل ومن أي نقطة مرجعية يوجد فيها فوق كوكب الأرض. لذلك فالحديث عن قيم أو ثقافة أو أفكار مشتركة لجماعة معينة هو عقم إبستمولوجي وعلمي خطير لا بد من التنصل منه أو استئصاله، لأنه لا يعي بالتحولات الجذرية التي أحدثتها العولمة في العالم وفي المفاهيم التقليدية التي كان يدرك من خلالها العالم، والواقع المشكّل لذات العالم. فلم تعد مفاهيم من قبيل السلب، التناقض، الجدل، مسعفة في إدراك مفهوم الواقع. بل لا بد من فكر جذري كما ينادي بذلك بودريار، أو فكر أثيري كما يسميه علي حرب، قادر على مد الفرد بالعدة المنهجية لفهم منطق العالم / الحدث، والمشاركة فيه من أجل استيعابه، فالعولمة تطال الثقافة بالذات، بما هي منظومة من الرموز والقيم، يخلع بواسطتها الإنسان المعنى على وجوده وتجاربه ومساعيه. فالثقافات بما هي مرجعيات للدلالة وأنماط للوجود والحياة، خاصة بكل أمة أو دولة أو مجتمع، تجد نفسها الآن عارية أمام تدفق الصور والرسائل والعلامات التي تجوب الكرة على مدار الساعة. فالعالم يتشكل اليوم بطريقة مختلفة وبواسطة قوى جديدة، الأمر الذي يعني أن الثقافة بدأت تتغيّر، سواء من حيث أطرها ومضامينها، أو من حيث وسائطها ومسالكها، أو من حيث آليات تشكّلها والقوى التي تسهم في إنتاجها واستهلاكها. والمهم في ذلك أن الوسائط تؤدي إلى عولمة المعرفة، إذ تتيح للمرء الاطلاع على كل معارف العالم عبر الشبكات الإلكترونية التي بدأت تحل مكان المكتبات العامة، وهكذا حسب علي حرب، نقلا على فنليكرو في كتابه «الإنسانية الضائعة»، فنحن إزاء إمكانيات جديدة، للوجود والحياة، تنبثق على نحو لا نظير له من قبل. وهي تسفر ليس فقط عن عولمة السوق والمدينة والسياسة، بل تفضي إلى عولمة الأنا بما هي حامل للدلالة ومولد للمعنى ومنتج للثقافة والمعرفة.
3. العولمة إمكان قابل للاستثمار والخلق والتحويل:
يقول علي حرب، «لقد حسبنا طويلا من قبيل التهوين أو التهويل، أن بإمكان المرء أن ينسلخ عن تراثه أو ينقطع عن ماضيه وذاكرته. في حين أن الماضي هو ما يقودنا إلى ما نحن عليه في حاضرنا. فإما أن نستثمره بصرفه إلى أعمال ومنجزات، وإما يتحول إلى عائق يصرفنا عن فهم الواقع وصناعة العالم. كذلك الموقف من الحداثة، فالبعض لا يزال يظن أنه لم ندخل عالم الحداثة بعد، مع أننا ننتمي إلى الزمن الحديث منذ الطهطاوي، بل منذ دخول المطبعة إلى جبل لبنان. فإما أن نكون حداثيين خلاّقين ومنتجين، وإما أن نكون مجرد مستهلكين. من هنا لا جدوى من إقامة التعارض بين الخصوصية والعالمية، لأنه لا يوجد خصوصيات، مع الفارق هو أن هناك خصوصيات قوية تفرض نفسها على مسرح الأمم بالخلق والابتكار. بهذا المعنى إما أن تكون خصوصية ثقافية مبدعة أي عالمية أو لا تكون. والمشكل حسب علي حرب ليس في العولمة أو الأمركة، بل لا خوف على الهوية، فالخطر الأخطر عليها نابع منا نحن دعاة حمايتها والمحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته. من هنا فإن مشكل هويتنا الثقافية ليست اكتساح العولمة والأمركة، على ما نظن ونتوهم، بل في عجز أهلها عن إعادة ابتكارها وتشكيلها في سياق الأحداث والمجريات، أو في ظل الفتوحات التقنية والتحولات التاريخية، أي عجزهم عن عولمة هويتهم وأنظمة اجتماعهم وحوسبة اقتصادهم وعقلنة سياستهم وكوننة فكرهم ومعارفهم. تلك هي المشكلة الحقيقة التي نهرب من مواجهتها: عجزنا، حتى الآن، عن خلق الأفكار وفتح المجالات، أو عن ابتكار المهام وتغيير الأدوار لمواجهة تحديات العولمة على صعدها المختلفة. فالعولمة إمكان يمكن استثماره لما يخدم الذات ويحررها.
4. العولمة هي التحالف بين الثالوث: المعرفة، السلطة، القوة في تشكيل العالم
لا يمكن فهم ظاهرة العولمة في العالم المعاصر وكيف تتشكل الهوية، من دون فهم للتحول الجذري الذي مس تاريخيا العلاقة بين القوة والمعرفة والسلطة. فكل هذا الثالوث أصبح عبارة عن ممارسة خفية تسهم في تشكيل وقولبة الهوية، وهو ما يشكل ماهية واستراتيجية العولمة. فآليات اشتغال الخطاب الإعلامي لا يمكن فهمها من دون استحضار الأبعاد الثلاثة، السلطة والمعرفة والقوة. فالرأسمال المادي الذي يشكل قوة المؤسسة الإعلامية، وكذلك الخبراء والمادة المعرفية الموظفة في البث الإعلامي، بالإضافة إلى سلطة القائم على الاتصال، ودور المادة الإعلامية التي يقدمها في تشكيل وعي الرأي العام وقولبته، هي الأسس الصلبة للعولمة. تلك هي بعض ملامح العولمة وآلياتها وطرق اشتغالها كما أوضحها المفكر علي حرب.



«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة
TT

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة

أعلنت «جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة»، عن القوائم القصيرة لدورتها لعام 2026، وذلك في فروع الجائزة الثلاثة: فرع المترجمين، وفرع المؤلفين، وفرع الإصدارات العُمانية، بعد استكمال أعمال التحكيم والمراجعة النهائية للترشيحات المستوفية لشروط الجائزة ومعاييرها المهنية والأخلاقية، كما جاء بيان لجنة الجائزة. وضمّت القائمة القصيرة - فرع المترجمين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان الإنجليزي): «ملائكة الجنوب» رواية نجم والي، ترجمة Angels of the South، ترجمة: بيتر ثيرو، و«ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام، Cairo Marquette، ترجمة كاثرين فان دي فات، و«البشر والسحالي»، مجموعة قصصية، حسن عبد الموجود، People and Lizards، ترجمة أسامة حماد وماريان دينين، و«الأشياء ليست في أماكنها» رواية هدى حمد، Things Are Not in Their Place، ترجمة ضياء أحمد، قرية المائة، رواية رحاب لؤي، ترجمة Village of the Hundred، ترجمة إيناس التركي.

وضمّت القائمة القصيرة - فرع المؤلفين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان العربي): أبعاد غير مرئية، مجموعة قصصية، مصطفى ملاح، والماتادور، رواية مجدي دعيبس، وجبال الجدري، رواية عبد الهادي شعّلان، وجرس جرش، رواية وائل رداد، وكائن غير سوي، رواية طاهر النور. وجاءت القائمة القصيرة - فرع الإصدارات العُمانية، كما يلي: تحت ظل الظلال، رواية محمد قرط الجزمي، عروس الغرقة، رواية أمل عبد الله، وقوانين الفقد، مجموعة قصصية، مازن حبيب.

وجرى اختيار القوائم القصيرة من قبل لجان تحكيم مستقلة، بإشراف مجلس أمناء الجائزة، الذي ضم كلاً من مارلين بوث (رئيسة)، ومحمد اليحيائي، وسواد حسين. وتكوّنت لجنة تحكيم - فرع المترجمين، من سماهر الضامن، ومارشيا لينكس كوالي، ولوك ليفجرن، فيما ضمّت لجنة تحكيم - فرعا المؤلفين والإصدارات العُمانية، كلاً من أمير تاج السر، وبشرى خلفان، وياس السعيدي.

وشهدت هذه الدورة 346 مشاركة في فرع المؤلفين، و34 مشاركة في فرع المترجمين، و10 مشاركات في فرع الإصدارات العُمانية.

وكانت هذه الجائزة قد انطلقت قبل 3 أعوام، بشراكة بين مؤسسة بيت الغشّام للصحافة والنشر والإعلان ودار عرب للنشر والترجمة، حيث تتولى دار عرب إدارة الجائزة، فيما تتولى مؤسسة بيت الغشّام تمويلها، في إطار تعاون يهدف إلى دعم الأدب العربي وتعزيز حضوره عالمياً عبر الترجمة والنشر الدولي.

وتبلغ القيمة الإجمالية لصندوق الجائزة نحو 70,000 جنيه إسترليني، تُخصَّص جزئياً كمكافآت مالية للفائزين، وجزئياً لتغطية تكاليف الترجمة الاحترافية، والتحرير، والنشر والترويج الدولي للأعمال الفائزة.


هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.