مصر.. المخرج من دوامة «الإرهاب»

5 آلاف إرهابي يقاتلون الجيش المصري في سيناء.. واتهامات لـ«أيادٍ خفية» إقليمية

مصر.. المخرج من دوامة «الإرهاب»
TT

مصر.. المخرج من دوامة «الإرهاب»

مصر.. المخرج من دوامة «الإرهاب»

يبدو أن مصر باتت على موعد سنوي «رمضاني» مع العمليات الإرهابية الكبرى التي تُسقط عشرات الضحايا من الأبرياء دون مراعاة لقدسية الشهر الكريم، خلافًا لأعمال العنف المتفرقة التي تضرب البلاد منذ نحو أربع سنوات. وبحسب ما يشير إليه المراقبون فإن «شهر رمضان أصبح بمثابة الفرصة الثمينة للجماعات المتطرفة من أجل تجنيد الشباب والدفع بهم للقيام بعمليات انتحارية، أكثر من غيره من الشهور، على اعتبار أن ثواب ما يزعمون أنه جهاد في سبيل الله سيكون مضاعفا في هذا الشهر». ووفقا لإحصائية أعدها المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة فإن هناك نحو 32 عملية إرهابية، نفذتها أربع تنظيمات إرهابية، خلال الأسبوع الماضي فقط في الذكرى الثانية لثورة 30 يونيو 2013، تراوحت ما بين اغتيال وتفجيرات انتحارية وزرع عبوات ناسفة.

اغتيل النائب العام المصري المستشار هشام بركات يوم 29 يونيو (حزيران) الماضي في تفجير بموكبه بسيارة مفخخة، تبعه هجوم مسلح استهدف كمائن عسكرية شمال سيناء في الأول من يوليو (تموز) الحالي، تبناه تنظيم «ولاية سيناء» التابع لتنظيم داعش، وأسفر عن مقتل 17 جنديا وضابطا وأصيب 13 آخرون من عناصر الجيش المصري، لتشكل بذلك أحدث العمليات الإرهابية التي وقعت في نهار رمضان. وقد رد الجيش المصري بعملية أمنية محكمة استمرت أكثر من 5 أيام، قتل خلالها 241 «إرهابيا»، وفقا لما أعلنه المتحدث العسكري العميد محمد سمير.
يقول اللواء سلامة الجوهري، مدير وحدة مكافحة الإرهاب السابق بالمخابرات الحربية، لـ«الشرق الأوسط» إن كل تلك العمليات الإرهابية التي تحدث في سيناء مرتبطة ارتباطا وثيقا بما يحدث داخل القاهرة وجميع المحافظات، وكلها مسؤولية جماعة الإخوان المسلمين، التي تحاول العودة إلى السلطة مرة أخرى عن طريق العنف والتعاون مع التنظيمات التكفيرية.
واعتادت التنظيمات المتطرفة تنفيذ مذابح كبرى خلال شهر رمضان في الأعوام الأربعة الأخيرة منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، كانت البداية ما عرف إعلاميا بـ«مذبحة رفح الأولى»، التي وقعت في 6 أغسطس (آب) 2012، الموافق 17 رمضان، حين كان الجنود يستعدون لتناول إفطارهم وهم صائمون، فهاجمتهم مجموعة مسلحة مستخدمين أسلحة ثقيلة ومتعددة، منها «آر بي جي»، وقتلت منهم 16 جنديًا.
وفي أولى ليالي شهر رمضان الكريم، في 28 يونيو عام 2014، قامت جماعة أنصار بيت المقدس الإرهابية، بما سمي «مذبحة رفح الثالثة»، ونفذت على الحدود بين مصر وإسرائيل، وأسفرت عن مقتل أربعة جنود أمن مركزي مصريين بمنطقة سيدوت.
ووفي 25 رمضان في نفس العام قامت مجموعة إرهابية تتكون من 20 فردًا يستقلون أربع عربات دفع رباعي، بمهاجمة كمين حرس حدود بمنطقة الدهوس بمحافظة الوادي الجديد، راح ضحيتها 22 جنديا مصريا.
وتعيش مصر اضطرابات أمنية وسياسية كبيرة منذ ثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك. غير أن موجة العنف تلك باتت في وتيرة متزايدة عقب عزل الرئيس الأسبق «الإخواني» محمد مرسي مطلع يوليو 2013. يقول تقرير صادر مؤخرا للمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، تحت عنوان «خريطة العمليات الإرهابية في ذكرى 30 يونيو»، التي صادفت منتصف شهر رمضان، إن العمليات الإرهابية في مصر تزايدت حدتها كمّا ونوعا في ذكرى ثورة 30 يونيو، إذ نفذت أربعة تنظيمات إرهابية نحو 32 عملية خلال الفترة من 28 يونيو وحتى 2 يوليو، تراوحت ما بين اغتيال وتفجيرات وزرع عبوات ناسفة.
وأشار المركز إلى أن العمليات الإرهابية شملت مناطق متعددة في عدد من المحافظات في كل من القاهرة والجيزة والإسكندرية، بالتوازي مع عمليات مماثلة في محافظات الوجه البحري في بنها وكفر شكر وقليوب وشبين القناطر والشرقية، بينما شهدت محافظتا الفيوم وبني سويف في الوجه القبلي الجانب الأكبر من العمليات الإرهابية، وظلت محافظة شمال سيناء البؤرة الأكثر اشتعالاً من حيث كثافة العمليات الإرهابية، مشيرا إلى أنه تم استخدام العبوات الناسفة والسيارات المفخخة وإطلاق النار والاستهداف بالأسلحة الثقيلة وتفجير المرافق، كما شهدت بعض العمليات الإرهابية الدمج بين تكتيكات متعددة بهدف زيادة الخسائر على غرار عملية الشيخ زويد الأخيرة التي شهدت توظيفًا للاستهداف بالسيارات المفخخة لكميني أبو الرفاعي والسدرة والاستهداف بإطلاق النار الكثيف والأسلحة الثقيلة لعدة مواقع عسكرية ولقسم الشيخ زويد وتلغيم الطرق بالعبوات الناسفة.
وشهدت عملية اغتيال النائب العام قيام العناصر الإرهابية بتفجير عن بعد لسيارة مفخخة بمتفجرات قدرت بعض المصادر وزنها بنحو 300 كغم، وهو ذات الأسلوب الذي كانت تخطط العناصر الإرهابية للقيام به في محيط قسم ثان 6 أكتوبر، إلا أن السيارة المفخخة انفجرت قبيل وصولها إلى هدفها.
في المقابل فإن العبوات الناسفة تعد النمط الأكثر شيوعًا لهجمات العناصر الإرهابية خلال الفترة الماضية، وهو ما تجلى في تفجير عبوة ناسفة في منطقة جاردن سيتي وسط القاهرة دون خسائر في 28 يونيو الماضي وتفجير عبوة ناسفة في العريش استهدفت مدير عام مديرية الطرق في شمال سيناء في 29 يونيو والهجمات التي تمت في محيط قسم سمسطا في بني سويف في 30 يونيو، وبالقرب من مبني شرطة المرافق والأحوال المدنية في الفيوم والتفجير بجوار قسم دراو بأسوان في 2 يوليو الحالي.
وتصاعدت عمليات تفجير المرافق العامة مثل تفجير أبراج الضغط العالي ومحولات الكهرباء في أسوان وبنها والفيوم وبني سويف ومحاولة تفجير كبري المشاة في محطة شرق للقطارات في شبين القناطر بالقليوبية في 1 يوليو الحالي، وتفجير خط السكك الحديدية في الشرقية في 2 يوليو.
أما عمليات إطلاق النار فشهدت تصاعدًا في كثافتها وشملت إطلاق نار على قسم شرطة الفشن في بني سويف وقسم العصافرة في الإسكندرية ومتحف الشمع بحلوان وعلى قوات الشرطة في المطرية واستهداف أحد البنوك في قليوب وتبادل قوات الشرطة لإطلاق النار مع خلية إرهابية في 6 أكتوبر بالإضافة لاستهداف مدرعة في الفيوم واستهداف بعض الخفراء وأمناء الشرطة في الفيوم وبني سويف.
وشهدت بعض الهجمات في سيناء توظيف تنظيم ما يسمى بـ«ولاية سيناء» لأسلحة غير تقليدية شملت صواريخ كورنيت المضادة للدبابات الموجهة بالليزر والصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، ومدافع 14.5 ملي المضادة للطائرات وقذائف الهاون والآر بي جي، وهو ما يكشف عن مدى تصاعد نوعية الأسلحة الثقيلة لدي التنظيم وتصاعد عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود على الرغم من إجراءات تدمير الأنفاق الواصلة بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء.
وأشار المركز الإقليمي إلى أن بعض العمليات التي خططت لها التنظيمات الإرهابية لم تتمكن من تحقيق أهدافها سواء بسبب تدخل قوات الأمن وإحباطها أو بسبب إخفاق منفذيها في القيام بها، مثل قيام السلطات الأمنية في المنيا بضبط خلية إرهابية في 28 يونيو قبيل القيام بعملية إرهابية وانفجار سيارة مفخخة قبل وصولها إلى قسم ثان 6 أكتوبر وانفجار عبوة ناسفة في أحد الإرهابيين في المعصرة في 30 يونيو وتفكيك العبوة الناسفة في محطة قطارات شبين القناطر وضبط 600 كغم من الكبريت والمواد المتفجرة لدي بعض الأفراد في أسيوط.
وصنفت الدراسة التنظيمات الإرهابية التي قامت بتلك العمليات إلى أربعة، أولها ما يسمى بـ« ولاية سيناء»، حيث يعد تنظيم أنصار بيت المقدس أخطر التنظيمات الإرهابية الموجودة على الساحة المصرية، خصوصا عقب إعلان مبايعته لتنظيم داعش وتغيير اسمه إلى «ولاية سيناء»، وتأتي العملية الإرهابية الأخيرة في الشيخ زويد استجابة لنداء قيادات تنظيم داعش بتنفيذ عمليات إرهابية كبري في شهر رمضان وبالتوازي مع ذكرى ثورة 30 يونيو.
وثاني تلك التنظيمات هو كتيبة المدعو هشام عشماوي الذي يتبنى أفكارا متطرفة نتيجة التحاقه بتنظيم داعش خاصة بعد سفره إلى سوريا عبر تركيا، وينسب إليه المشاركة في عدة عمليات إرهابية.
أما ثالثها فهو الخلايا الإخوانية، إذ أدى تفكك البنية التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين إلى تكوين بعض أعضاء الجماعة لخلايا إرهابية تقوم بتنفيذ عمليات إرهابية في المحافظات المصرية تستهدف أقسام الشرطة وأبراج الكهرباء والمرافق العامة من خلال قنابل بدائية الصنع أو عمليات إطلاق النار الخاطفة. والتنظيم الأخير هو جماعة «الذئاب المنفردة»، إذ يرتبط تصاعد كثافة العمليات الإرهابية في مصر بانتشار نمط الذئاب المنفردة بين المنتمين إلى التنظيمات الإرهابية وقيامهم بتكوين خلايا محدودة العدد لتنفيذ عمليات إرهابية في مختلف محافظات مصر، وهو ما أدى إلى الانتشار الجغرافي للعمليات الإرهابية وتصاعد قدرة التنظيمات الإرهابية على التخفي والإفلات من العمليات الأمنية الكثيفة للقبض على العناصر الإرهابية، خصوصا في ظل انقطاع شبكات التواصل بين التنظيمات الإرهابية الكبرى والخلايا الإرهابية المحدودة.
ويقول اللواء الجوهري إن كل العمليات الإرهابية مسؤولية جماعة الإخوان، مشيرا إلى أن هناك نحو 5 آلاف مقاتل يحاربون الجيش المصري في سيناء، معظمهم عائدون من القتال في سوريا وأفغانستان والعراق سافروا للقتال هناك خلال حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي ثم عادوا ومعهم مقاتلون ينتمون إلى جنسيات أجنبية من جميع دول العالم ليحاربوا في سيناء، وهدفهم إعلانها إمارة إسلامية مستقلة على غرار ما يحدث في العراق حاليا.
وحول تصنيفات وانتماءات تلك الجماعات، قال الجوهري لـ«الشرق الأوسط» إن هناك جماعات مسلحة كثيرة تعمل في سيناء، منها بيت المقدس والفرقان وغيرها، وكلها تتبع تنظيم داعش ولائيا وعقائديا، وهناك تنسيق واتصالات بينهم، إضافة إلى دعمهم بالمال والسلاح.
وتخوض القوات المسلحة المصرية بمعاونة الشرطة حربا كبيرة ضد تلك الجماعات منذ عدة شهور، بقيادة الفريق أسامة عسكر. ويقول مدير وحدة مكافحة الإرهاب السابق بالمخابرات الحربية إن «هناك تنسيق كامل بين المخابرات المصرية ونظيراتها من الدول الصديقة لمحاصرة تلك الجماعات على صعيد أوسع يجري حاليا».
وتابع: «رغم كل ما يحدث فإن الخسائر في الجيش المصري ليست بالكثيرة مقارنة بما تقوم به الجماعات المسلحة التي تحتمي بالمدنين وتقوم بعمليات واسعة، يكفي أن آخر عملية قام بها 300 مقاتل»، في المقابل فإن تعليمات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هي عدم التعرض للمدنيين، مما يصعب من عمليات الجيش كثيرا ويحد من استخدام آلياتهم العسكرية أحيانا.
وكانت القوات المسلحة قد بدأت أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إخلاء منازل أهالي رفح في نطاق 1000 متر بالشريط الحدودي غرب الحدود مع قطاع غزة، وصولا إلى تحقيق الأمن القومي للبلاد، خصوصا مع اكتشاف أنفاق تحت الأرض تبلغ أطوالها من 800 إلى ألف متر.
يضيف اللواء الجوهري: «بالطبع مع حلول شهر رمضان تتزايد العمليات الإرهابية والانتحارية، لأن تلك الجماعات تعقد أنها تقوم بعمل جهادي استشهادي ضد جيش كافر».
ورصد مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية عددًا من الممارسات الإجرامية لتنظيم داعش الإرهابي في حق المرأة التي تهين المرأة وتحط من كرامتها وإنسانيتها. ووفقا لتقرير المرصد نشر يوم الاثنين فإن التنظيم أعلن عن مسابقات في حفظ القرآن الكريم تكون الجوائز فيها عبارة عن «سبايا» توزع على الفائزين، وهو ما يعد تحقيرًا من شأن المرأة وتجريدًا من إنسانيتها.
ولفت المرصد إلى أن تلك الممارسات تعبر عن آيديولوجية التنظيم في استغلال المرأة وتوظيفها باعتبارها أحد أهم عناصر جذب المقاتلين وضمان ولائهم واستمرار انخراطهم في القتال بين صفوف التنظيم، كما أنها أيضا تمثل عنصرًا ماديًا لدى التنظيم، إذ يقوم بأسر النساء من المناطق التي يدخلها، ثم يقوم بتوزيع البعض على المقاتلين كغنائم حرب.
ودعا المرصد التابع لدار الإفتاء إلى فضح وتعرية ممارسات تنظيم داعش بحق النساء، وبيان حقيقة هذا التنظيم وطبيعة أهدافه التي يسعى خلفها، والأجندة الخاصة به، وكذا رؤيته للمرأة والتعامل معها، بخاصة أن الانضمام إلى التنظيم خطوة لا تقبل العودة إلى الخلف، وفي غالب الأمر فإن التراجع قد يعني الموت بأيدي مقاتلي التنظيم، حتى لا يتم فضح ممارسات التنظيم البربرية الهجمية في حق المرأة بشكل خاص.
يقول الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف المصري، إنه «لا بديل أمامنا سوى العمل على الخلاص من كل قوى الإرهاب والشر والتطرف سواء أكان إرهابًا مسلحًا أم إرهابًا فكريًا». وأضاف، في مقال على موقع الوزارة ردا على تلك الهجمات المتزايدة مؤخرا: «الجماعات والتنظيمات المتطرفة تشكل خطرا داهما على الأفراد والمجتمعات، وإن الالتحاق بهذه الجماعات والتنظيمات ينطوي على مخاطر جسام، أهمها أن الجماعات المتطرفة تعمل بأقصى طاقتها على تجنيد الصبية والشباب والفتيات، وكل من تستطيع الوصول إليه تحت إغراءات مالية أو معنوية أو مخادعة واستغلال لظروف بعضهم النفسية أو الاجتماعية أو مغالطات فكرية أو دينية أو وعود لا يملكون من أمرها لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا».
وتابع: «هذه الجماعات والتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها التنظيم الدولي للإخوان الإرهابيين تعمل ضد دينها وأوطانها، ولو أن أعداء الإسلام بذلوا كل ما في وسعهم، وسخروا كل إمكاناتهم لتشويه صورة الإسلام، ما بلغوا معشار ما فعلته هذه الجماعات من تشويه لصورة الإسلام وحضارة الإسلام في الداخل والخارج». وأمام هذه الدوامة من الإرهاب، يتفق الخبراء الاستراتيجيون على أن المخرج ليس هو الحل الأمني وحده للقضاء على تلك التنظيمات المتطرفة، خصوصا في منطقة سيناء، بل إن الأمر يتطلب بعدا تنمويا وثقافيا وتوعويا. وسبق أن أعلن الرئيس السيسي في مطلع فبراير (شباط) الماضي عن تخصيص مبلغ 10 مليارات جنيه (نحو 1.4 مليار دولار) من أجل التنمية ومكافحة الإرهاب في سيناء، وينتظر مواطنو شبه الجزيرة تفعيلها حاليا. وتشرع مصر حاليا في إصدار قانون جديد لمكافحة الإرهاب من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ خلال أيام. ويقضي مشروع القانون باختصار الإجراءات الجنائية بشأن جرائم الإرهاب، وذلك من خلال سرعة الإجراءات داخل المحاكم المخصصة لجرائم الإرهاب، وتسهيل الإجراءات المتعلقة بفحص حسابات البنوك والاطلاع على الأموال بالبنوك التي لها علاقة بجرائم الإرهاب، ومنح سلطات إضافية لمأموري الضبط القضائي وكذلك للمحققين في جرائم الإرهاب.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.