الأسد يلوذ بـ«سوريا المفيدة»

معالمها لم تُحسم بسبب تبدل خريطة السيطرة الميدانية.. وتوقعات باعتماد الفيدرالية

الأسد يلوذ بـ«سوريا المفيدة»
TT

الأسد يلوذ بـ«سوريا المفيدة»

الأسد يلوذ بـ«سوريا المفيدة»

ترسم التطورات الميدانية في سوريا خريطة جديدة للبلاد، يفرضها «الأمر الواقع». نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ينكفئ إلى عمق البلاد، وتتمدد قوات المعارضة ومتشددون على الأطراف. تستعيد الوقائع الميدانية تجربتين اختُبرتا قبل مائة عام؛ هما: «سوريا المفيدة» التي حاولت تنفيذها سلطات الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، وفشلت فيها، إضافة إلى «حماية الأقليات» التي كانت سبب ضرب بريطانيا وفرنسا قواعد الجيش العثماني قبيل الحرب العالمية الأولى، ومهدّت بعدها لاتفاقية «سايكس - بيكو» لترسيم الحدود الحديثة للمنطقة عام 1916.

تكاد تنتهي اليوم مفاعيل اتفاقية «سايكس - بيكو» في سوريا بعد قرن على توقيعها، بل تتغيّر معالمها بالدم والنار؛ فالحدود على العراق، فتحها تنظيم «داعش»، فيما تقف الجغرافيا السورية في رمال متحركة: ينحسر نفوذ النظام على المناطق الحدودية، باستثناء لبنان، وتتبادل أطراف النزاع السيطرة على المناطق، وتتمدد في محيطها. أما النظام السوري، فيبدو أنه يلوذ مجددًا بـ«سوريا المفيدة» الممتدة من العاصمة دمشق إلى وسطها شمالاً، ثم نزولاً إلى البحر المتوسط في الغرب. وهي المنطقة الأكثر كثافة ديموغرافية، والأكثر حيوية، فيما يخلي المناطق الصحراوية والزراعية، مما يسمح لتنظيمات متشددة بأن «تتمدد في الخواء».
لم تستقر الجغرافيا السورية، بعد أربع سنوات على الأزمة، على خريطة واحدة. تشير الوقائع الميدانية إلى اختيار نظام الأسد عمق البلاد ومعقله في الساحل، ملاذًا، ويعده البعض خط الدفاع الأخير للنظام السوري. ويعيد خبراء في الشأن السوري تلك التطورات الميدانية إلى لجوئه لـ«سوريا المفيدة». غير أن قياديين في المعارضة المسلحة، لا يرون الأمر قد تحقق بعد؛ إذ «يحتاج هذا الخيار إلى وقت إضافي ليتبلور»، مستندين إلى «استشراس النظام بالدفاع عن مدينة درعا (جنوب البلاد)، ومدينة الحسكة (شمال شرقي البلاد) ومدينة حلب (شمالها)، وحشد النظام قوات إضافية على حدود اللاذقية الشرقية مع إدلب وحماه، مما يتيح له توقيف التمدد المعارض إلى الساحل». ويرى قيادي معارض، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن النظام «يقاتل للحفاظ على المدن والتخلي عن الأرياف في الشمال والشرق والجنوب»، وهي استراتيجية اتبعها منذ عام 2013، وانكسرت في مارس (آذار) الماضي، حيث سيطرت قوات المعارضة على مدينتي إدلب وجسر الشغور، وهددت مدينة درعا.
ويشير سلوك النظام العسكري، إلى توسعة مفهوم «سوريا المفيدة» التي تمتد على ربع المساحة الجغرافية السورية، ويسكنها أكثر من ثلث السوريين، عما كانت عليه إبان حقبة الانتداب الفرنسي. فقد طبق الفرنسيون آنذاك خطة أمنية خلال الثورة التي قادها الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش في العشرينات من القرن الماضي، قضت بتقسيم سوريا إلى ثلاث مناطق؛ الأولى تخضع لسيطرة القوات الفرنسية، والثانية يسيطر عليها المقاتلون السوريون المناهضون لفرنسا، والثالثة منطقة اشتباك ويتقاسم فيها الطرفان السيطرة. أما المنطقة الخاضعة لسيطرة القوات الفرنسية، فتشمل دمشق وحمص وطرطوس المحاذية لساحل البحر المتوسط، وتربطها خطوط اتصال، وترفع عليها القوات الفرنسية أعلامها.
أما اليوم، فإن خطة النظام يبدو أنها تشمل السيطرة على سائر المدن، بما فيها مدن الأطراف، رغم أن مفهوم التقسيم لم يتبلور حتى الآن، كما يقول مراقبون. ويرى سفير لبنان السابق في واشنطن عبد الله بوحبيب، أنه «في الوقت الحاضر، لا أحد يفكر بالتقسيم»، مشيرًا في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «النظام والمعارضة يريدان كامل الأراضي السورية». ويضيف: «التقسيم يعني الفرز على الأرض، رغم أن هناك فرزًا مذهبيًا قائمًا بحكم الأمر الواقع، لكن النظام يبدو أنه متمسك بخط درعا حلب، والمناطق الواقعة غرب هذا الخط، نظرًا إلى أنه يعتبر أن المساحة ليست لصالحه في هذا الوقت»، في إشارة إلى الإنهاك العسكري الذي يترتب على القتال في مناطق متباعدة وواسعة.
ولا يرى بوحبيب أن التقسيم سيعود بالنفع على الدولة السورية، موضحا: «لا تمتلك الدولة الدرزية أو الدولة العلوية مقومات النجاح». ورغم أنه لا ينفي قوة النظام في «مناطق وجود الأقليات» أي «في المناطق العلوية والمسيحية» فإن ذلك، من وجهة نظره، «لا يعني تفكير النظام حتى هذا الوقت بالتقسيم». ويضيف: «إذا سيطر النظام على المنطقة الواقعة غرب خط درعا - حلب، فستكون المناطق الشرقية بلا معنى، لأنها ستتبع تلقائيًا العراق والأردن، فيما يعاني النظام من مشكلة ديموغرافية في مناطقه، بسبب التدفق الكبير للنازحين من مختلف الأطياف».
ويشير بوحبيب إلى أن «الخريطة الميدانية اليوم، متحركة، مما يصعّب التكهن بنتائج القتال»، لافتًا إلى أن «السوريين لا يفكرون الآن بتسوية، لا تقسيم، ولا كيان واحد، ولا فيدرالية، لأن الطرفين يسعيان لتحقيق فوز ميداني». ويعرب عن اعتقاده أن «السيناريو الممكن في هذا الوقت، هو رسم خطوط تماس تنشئ حدودًا مؤقتة، على غرار بيروت في الحرب الأهلية اللبنانية، أما في مرحلة لاحقة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا، هو التفكير بالفيدرالية على الطريقة العراقية، إذا لم يغلب أي من الطرفين الآخر».
ويكثر الحديث عن «سوريا المفيدة» منذ هجمات قوات المعارضة للسيطرة على مدينة درعا، بالتزامن مع هجمات «داعش» للسيطرة على مدينة الحسكة. وجاءت تلك الهجمات عقب تقدم استراتيجي حققته قوات المعارضة السورية، تمثل في السيطرة على مدينة إدلب، والقواعد العسكرية في محيطها، إضافة إلى مدينة جسر الشغور، فيما سيطر تنظيم «داعش» على مدينة تدمر في الريف الشرقي لمحافظة حمص في شرق البلاد.
وبعد مرور أربع سنوات على بدء الأزمة في سوريا، لم يعد بوسع الأسد الدفاع عن البلاد بكاملها أو أن يأمل في استعادة الأراضي التي فقدها، مما يؤدي إلى أن قواته تتقهقر وتعزز معاقلها الرئيسية بدءا من العاصمة دمشق إلى الشريط الساحلي في شمال غربي سوريا.
ويقول رامي عبد الرحمن، مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إن «سوريا في مرحلة تقسيم غير معلن»، موضحًا في تصريحات نقلتها وكالة «رويترز» أن «هناك نقاط اشتباك كثيرة. النظام الآن يحاول أن يخفف انتشاره في مناطق الاشتباكات الكثيرة حتى يركز قوته بمناطق محدودة لها أهمية استراتيجية»، ويضيف: «السلطات تحاول تحصين المنطقة الساحلية من خلال تشكيل (لواء درع الساحل) ومهمته الدفاع عن القرى ذات الأغلبية العلوية».
وفي الشمال الشرقي، استطاع المقاتلون الأكراد السوريون السيطرة على مساحة من الأرض تمتد لمسافة طويلة انتزعوها من أيدي تنظيم «داعش» قرب الحدود التركية فسيطروا على كوباني أولاً، ثم تل أبيض هذا الشهر ليقطعوا خطوط الإمداد من تركيا إلى الرقة، العاصمة الفعلية للتنظيم.
ودفع التقدم الكردي على الحدود السورية - التركية، مدعومًا بغطاء جوي أميركي، مراقبين لتوقع استعدادات أكراد سوريا لإعلان كيانهم الذاتي، والانفصال عن سوريا، وتأسيس دولتهم. غير أن تلك التوقعات، ينفيها المسؤولون الأكراد. ويؤكد مدير المركز الكردي للدراسات في ألمانيا، نواف خليل، لـ«الشرق الأوسط»، أنه «ليس هناك تصريح أو تلميح من جانب أي مسؤول كردي عن الاستقلال أو الانقسام»، متهمًا تركيا «بالترويج لتلك الكذبة بهدف إخافة السوريين، وخشية أنقرة من انهيار (الخلافة الداعشية)» التي يتهم الأكراد أنقرة بدعمها.
ويقول خليل القيادي في حزب «الاتحاد الديمقراطي» الناشط في شمال سوريا، والمقرب من «حزب العمال الكردستاني» المناهض لتركيا، إن أنقرة «عملت على تشتيت الأنظار إعلاميا عن الانتصارات التي حققها مقاتلو (وحدات حماية الشعب) الكردي و(وحدات حماية المرأة) إلى جانب مقاتلين في الجيش السوري الحر، وتمثلت في تحرير مناطق تناهز مساحتها 6500 كيلومتر مربع»، موضحا: «بما أن هذه المساحة تعادل ضعف مساحة قبرص التركية، زاد قلق تركيا». ويتابع: «تركيا تخشى من استعادة القرار السوري، تخشى انضمام قوى أخرى من الجيش الحر إلى الجبهة ضد (داعش)، فيتشكل جسم سياسي آخر، لا يتوافق مع الجسم السياسي السوري المعارض الذي تدعمه أنقرة».
ويشرح خليل أن «هناك برنامجا سياسيا وإدارة ذاتية في منطقة الجزيرة السورية، يشارك فيها العرب والكرد، وتعتبر مثالاً للتعايش بين القوميات والطوائف»، في إشارة إلى الأكراد والآشوريين والسريان والعشائر العربية. ويقول: «ما حققناه هو نصر لكل السوريين ضد النظام و(داعش)، ولا نبحث عن دولة خاصة، فبرامج الأحزاب الكردية تثبت ذلك، لكن إذا كان من قرار دولي بالتقسيم، فلا يستطيع الأكراد منعه».
وإذ يشدد على أن سوريا يجب أن تكون دولة لا تلتزم بأي هوية عرقية ودينية في دستورها وقوانينها الناظمة للحياة العامة، يؤكد خليل أن «الأكراد يسعون إلى دولة ديمقراطية وعلمانية واتحادية وفيدرالية في سوريا، يعترف فيها بالوجود الكردي»، موضحًا أنهم يسعون للاحتفاظ بتجربة الإدارة الذاتية المشتركة بين العرب والأكراد في منطقة الجزيرة القائمة اليوم التي يتشارك فيها ممثلون عن الأقليات والأعراق والطوائف. ويقول: «نحن نسعى لفيدرالية على الطريقة الألمانية، تكون فيها سوريا دولة اتحادية، تطبق مشروع اللامركزية». ويشدد على أن «سوريا المستقبل، سيتم التوافق فيها بين مختلف فصائلها، ونوقع عقدًا اجتماعيًا جديدًا، وهو المشروع الذي يتدخل فيه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعنف، لمنعه، فيما نحن نعمل لإيجاد شركاء حقيقيين لنا في سوريا لتطبيق هذا المشروع».
في هذا الوقت، يرجح متابعون أن تقسيم سوريا يمكن أن يتوقف على المنافسة بين دول إقليمية نافذة، وهو ما قد يعني أن الحرب قد تستمر لسنوات.
ويقول فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، إن «سوريا القديمة.. الدولة القومية والدولة نفسها لم يعد لها وجود. ما لدينا الآن هو اقتتال وعشائر متنافسة وكيانات غير تابعة للدولة وقادة فصائل». ويضيف جرجس، الخبير في الشأن السوري، لوكالة «رويترز»: «سيكون من الصعب للغاية إعادة سوريا لتكون دولة واحدة. انفصمت عرى النسيج الاجتماعي والصلات القوية التي تحافظ على تماسكه»، معتبرا أن «حكم الأسد قضية تتصل بطريقة أو بأخرى بالهوية. نعم هناك كثير من السنة والمسيحيين الذين يعيشون هناك، لكنهم يعتبرون أنفسهم جزءا من هذه الهوية.. السنة والمسيحيون من الطبقة المتوسطة والعليا».
ولا تخفي المعارضة السورية إخفاقها في الدعوة لحوار واضح وتبني مشروع جدي لمناقشة المسائل بين الأقليات. وتعرب شخصيات منها عن مخاوفها من أن يتحول المشروع الوطني السوري إلى مشروع حلم مثل الوحدة العربية.
ويفنّد عضو الائتلاف الوطني السوري والرئيس السابق للمجلس الوطني السوري عبد الباسط سيدا، الإخفاقات التي أحاطت بهذه المسألة، منذ قيام أول جسم سياسي معارض. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «منذ البداية، تنبّهنا إلى مسألة التقسيم، لأن سوريا بلد متعدد، والنظام سيستخدم ورقة العلويين والمسيحيين والكرد، إضافة إلى الدروز. لذلك ناقشنا القضية في المجلس الوطني، كي لا تتحول الثورة إلى طائفية، في وقت كان فيه النظام يدفع إلى ذلك الاتجاه». وأضاف: «للأسف، قراءاتنا كانت خاطئة بالنسبة للثورة. أنا أعترف بخطأ في التقديرات. كنا فرحين بإنجازات الثورات العربية، وناقشنا المسائل الاستراتيجية. وقلنا إن المفروض أن نركز على الملفات الأخرى، فقلنا إنه علينا أن نطرح مشروعا وطنيا يقوم على 3 ركائز: الأولى تتمثل في طمأنة الجميع بعقود واضحة ومكتوبة لإزالة الهواجس، والثانية تتمثل في تعزيز الثقة بممارسات فعلية على الأرض، والثالثة ضرورة الاتفاق على آلية لحل الخلافات بين مكونات الشعب السوري». ويشير سيدا إلى أنه طرح الركائز الثلاث مع وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون بحضور رئيس المجلس الوطني الأسبق برهان غليون، أثناء أول اجتماع تعارفي بين الطرفين. ويضيف: «كانت تستمع.. ولم تعط وجهة نظرها، رغم أن التصريحات التي صدرت عن واشنطن بعد ذلك اللقاء، كانت تشدد على أن سوريا للجميع». ويشير إلى أن «المشكلة تكمن في أننا لم ندخل بحوارات مع العلويين. كانت لدينا مفاتيح وحاولنا، لكننا لم نستطع تحقيق إنجاز مثل الذي حققناه مع المكون السوري الكردي». ويلفت إلى «أننا وصلنا اليوم إلى حالة أن العلوي لا يثق بالجانب الآخر»، مشيرًا إلى أن «عدم رضا العلويين عن الأسد، لا يعني تأييد المعارضة، بل يبحثون عن مخرج بين الاثنين، وهو العزلة».
نتيجة ذلك، يقول سيدا إن سوريا ذهبت باتجاه تقسيم غير معلن، «يشبه انقسام بيروت في الحرب»، موضحًا: «خطوط التماس قائمة فعلاً. يعتبر الفاعلون ذلك حلاً ظرفيًا ويجب أن ننتظر، لكن الواضح أن كيانات ومقاطعات تتشكل، ومع الوقت ستظهر شرائح وفئات تستثمر الواقع، ونتخوف من أن تعتاد الناس هذه المسألة، وتستعد نفسيًا لها».
وينفي سيدا أن يكون «التقسيم» قد طرح على قيادات المعارضة في اجتماعاتها مع ممثلين للمجتمع الدولي. ويؤكد أنه «رغم ذلك، فإن سلبية المجتمع الدولي في التعاطي مع تلك المسائل الدقيقة، أوصلتنا إلى هذه النهاية». ويكشف أنه «حين كنا نسأل عن نية لتقسيم سوريا، كان الجميع ينفي. لكن تطور الأحداث، ومسار علاقة المجتمع الدولي بالنظام، قادت إلى مؤشرات على وجود نية لتفتيت البلاد».
ورغم أن هذا الواقع يلبي مصالح غالبية الأطراف، وقادر على خلق توازن في المصالح بين جميع الأطراف الدولية المنخرطة بالنزاع، فإن سيدا يتخوف من قيام «مجموعة كيانات ضعيفة وغير قوية وغير مؤثرة، وستضطر لتعمل علاقات مع القوى الإقليمية لتتفاعل وتتكامل عبر علاقات اقتصادية»، مشيرًا إلى أن ذلك «سيكون على حساب التعايش والمشروع الوطني السوري».
ويضيف: «خطر التقسيم بات جديًا وواقعيًا. تصريحات (السفير الأميركي السابق في سوريا) روبرت فورد وغيره من مسؤولين دوليين تؤكد ذلك، وللأسف، لا تتعامل المعارضة بمؤسساتها مع الموضوع بجدية، ولا تتبنى حوارًا حقيقيًا بين السوريين، والكل ينتظر إذا ما كان المجتمع الدولي سيقبل بالتقسيم أم لا». ويضيف: «إذا استمر الموضوع لفترة، فستتشكل قوى أمر واقع وتتفاعل وتفرض حقيقة جديدة».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.