هل يزيد الأصوليون الإسرائيليون من مخاطر انتشار التطرّف والإرهاب في الشرق الأوسط عبر إغراقهم في التمترس حول روايات تاريخية دينية لا تقود إلا إلى إشعال العالم برمّته بنيران الكراهية والحقد العقائدي المتبادل؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، وليس أدلّ على ما نقول به من المخطّطات اليهودية الماضية قدمًا لجهة مستقبل المسجد الأقصى، ومحاولة إعادة بناء هيكل سليمان الذي دمّر في زمن احتلال الرومان لفلسطين في القرن الأول الميلادي.. لماذا الحديث مرة جديدة عن هذه الإشكالية؟
السبب المباشر، ولا شك، هو الدعوة التي أطلقتها منظمة «جبل الهيكل» اليهودية لاقتحام جماعي للمسجد الأقصى، في مناسبة «عيد نزول التوراة»، ولقد طلبت هذه المنظمات من قوات الاحتلال الإسرائيلي تأمين هذه الاقتحامات، واتخاذ إجراءات مشدّدة ضد المصلّين أو المرابطين في المسجد الأقصى في حال تصديهم لهذه الاقتحامات. من أين للمرء أن يبدأ في الحديث عن هذه المعضلة المرّة التي تهدّد سلام أتباع الأديان الإبراهيمية من جراء العنصرية اليهودية التي لا تزال في يقينها تؤمن بأنها «شعب الله المختار» بينما الآخرون هم «الغوييم» أو «الأغيار»؟
كتبنا غير مرة على صفحات «الشرق الأوسط» عن الأبعاد التاريخية للقضية، غير أن التذكير يفيد القارئ، ذلك أن الحلم الإسرائيلي القديم هو إعادة بناء الهيكل وتقديم الذبيحة حسب الطقوس الدينية اليهودية، والكارثة أن هذا لن يتحقق إلا في حال إخلاء منطقة الحرم القدسي من مسجد قبة الصخرة والأقصى المبارك، وتشييد مبنى الهيكل هناك.
في مذكراته الشخصية يسجل الجنرال عوزي ناركيس، قائد المنطقة الوسطى الإسرائيلية في «حرب 1967» ما نصه: «أنا وقفت بجوار الحاخامات وهم يتلون بعض الأدعية بصوت عالٍ وسط تزاحم ضباط وجنود من الوحدات جاءوا لمشاهدة الحائط وملامسته تبرّكًا».. كان ذلك بعد نصف ساعة تقريبًا من وقوف موشيه دايان وإسحاق رابين والجنرال ناركيس صباح السابع من يونيو (حزيران) 1967 أمام حائط البراق (الذي يسميه اليهود حائط المبكى).
في ذلك الوقت هرع كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي الجنرال شلومو غورين، وأخذ ناركيس من يده جانبًا وهمس له قائلاً: «عوزي أليست هذه اللحظة الملائمة لوضع مائة كيلوغرام من المتفجّرات في مسجد عمر وقبة الصخرة لكي تتوقف دعاوى المسلمين بوجود حق ديني أو تاريخي لهم في القدس؟»..
ما الذي جرى لاحقًا؟
يضيف الجنرال ناركيس: «قلت لكبير الحاخامات: أرجوك، ذلك أمر لا داعي له وسوف يثير الدنيا علينا.. فسألني: أي دنيا سوف يثيرها؟ قلت: المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا، فواشنطن لها صداقات كثيرة تحرص عليها في المنطقة، ونحن أيضا لنا أصدقاء في العالم الإسلامي، تركيا وإيران بالذات، وإندونيسيا وباكستان.. وغيرهم كثيرون».
هل يعني هذا أن المسألة «قضية توازنات دولية» أكثر من أي شيء أخر؟
يبدو أن المسألة بالفعل منتهية في عقول الإسرائيليين كجماعات وحتى كدولة، والدليل على ذلك ما قاله ذات مرة أحد المُرشدين السياحيين الإسرائيلين عام 1999 للمؤلفة والكاتبة الأميركية غريس هالسل وأوردته في كتابها «يد الله.. لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟» من أن كل الخطط اللازمة للهيكل قد أصبحت مُعدّة، حتى إن مواد البناء أصبحت جاهزة، ومحفوظة في مكان سرّي.
وثمة عدد من المحلات التي يعمل فيها الإسرائيليون لإعداد اللوازم التي ستستخدم في الهيكل الجديد، ويقوم أحد النسّاجين المتخصّصين بنسج قطع الكتان الصافي لاستخدامها في ملابس الكهنة الذين سيؤدون شعائر الصلاة في الهيكل.
ليس هذا فحسب، بل إن «هناك مدرسة دينية تدعى «ياشيفا إتريت كوهانيم» - أي «مدرسة تاج الكهنة» – التي تقع بالقرب من منطقة الحرم القدسي، والتي يعلّم الحاخامات فيها الشباب على مناسك التضحية بالحيوانات، والحديث هنا عن «البقرة الحمراء».
والشاهد أن الجوانب الفنية والتاريخية ونقد القصة دينيًا وتاريخيًا يطول، والغرض الرئيسي من المقال هو توضيح الخطر الحقيقي للأصولية اليهودية على حالة السلم الديني والاجتماعي الشرق أوسطي والعالمي، فماذا عن ذلك؟
قد يتحتّم علينا بدايةً أن نشير إلى أن كارثة الأصولية الدينية تتمثل في أنها نوع وطريقة خاصة لبناء الهويّات والفعل الاجتماعي، ويمكن أن يحدث ذلك على مستوى فردي أو جَمعي أو مؤسسي. هنا يعمل الدين من خلال بناء الهويّات، كما أنه ليس نتيجة حسابات نفع اقتصادية، على الرغم من أن مثل تلك الحسابات يمكن أن يكون لها دور في الممارسة الدينية. غير أن الدين يكتسب أهميته في الحقل السياسي من تحويله صراع المصالح إلى صراع هويّات.
يحدّثنا عالم الاجتماع الألماني الشهير هاينريش فيلهلم شيفر، عن تطبيقات هذا الصراع على الأرض في فلسطين، فقد كان شغل حركة فتح الشاغل حتى سبعينات القرن الماضي هو تطبيق قرارات منظمة الأمم المتحدة، وتحديد الفلسطينيين مصيرهم السياسي، وكذلك الاندماج الاقتصادي. ولكن لاحقًا بدا الأمر مختلفًا بالنسبة لحركة حماس والأصوليين اليهود، إذ تحوّل صراع المصالح إلى صراع هويّات دينية في إطار منطقة نفوذ ديني شاملة.
هنا يعنّ لنا أن نتساءل: هل الأمر في الداخل الإسرائيلي قاصرٌ على جماعات أصولية يهودية بعينها كـ«الحريديم» - على سبيل المثال - أم أن «آفة الأصولية» ضاربة جذورها في عمق أركان الدولة الإسرائيلية ذاتها مهما حاولت أن تُداري أو تواري المشهد؟
في الفترة الأخيرة نشر الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية فيديوهات وتصريحات لقادة إسرائيليين ويهود متطرّفين، سواءً على شاشات التلفزيون الإسرائيلي، أو على صفحات الصحف الإسرائيلية، يتحدّثون فيها عن هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل.
على سبيل المثال: كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 31 يناير (كانون الثاني) 2013 النقاب عن أن وزارة الخارجية الإسرائيلية أنتجت فيلمًا وثائقيًا يبيّن عملية هدم قبة الصخرة وإعادة بناء الهيكل. ولفت إيتَمار آينخر، مراسل الشؤون السياسية في الصحيفة، إلى أن قنوات التلفزيون الإسرائيلي بثّت بناءً على طلب وزارة الخارجية أجزاءً من الفيلم المذكور. وأكد المراسل أن نجم الفيلم، هو نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، داني آيالون «(حينذاك) الذي ظهر في الفيلم الدعائي من أجل الترويج لعلاقة اليهود بمدينة القدس.
ويوم 24 يناير 2014 دعا أوري أريئيل، وزير البناء والإسكان الإسرائيلي، إلى بناء ما سماه «الهيكل الثالث» مكان المسجد الأقصى، وصرّح ذلك اليوم بأن «الهيكل الأول قد جرى تدميره عام 586 قبل الميلاد، بينما هُدّم الهيكل الثاني عام 70م، ومنذ ذلك الحين والشعب اليهودي من دون هيكل. أما الكارثة الحقيقية في تصريحات المسؤول الإسرائيلي فهي قوله إن «مكان الهيكل يوحّد المسجد الأقصى، على الرغم من كون الهيكل أقدس منه بكثير، أما الأقصى فهو المسجد الثالث في الإسلام».
يحق لنا، إذن، أن نتساءل: «مَن الذي يتلاعب بالآخر، هل يتلاعب الأصوليون اليهود بالحكومات الإسرائيلية.. أم تتلاعب هذه الحكومات بشعبها؟
يبدو أن العلاقة مُتبادلة بين الطرفين. وفي كل الأحوال فإن المتطرفين اليهود قد باتوا اليد المتقدمة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من أجل السيطرة على القدس والمسجد الأقصى. وهؤلاء أضحوا اليوم يمثلون ما لا يقل عن 35 في المائة من المجتمع الإسرائيلي، منهم 20.4 في المائة من «الحريديم»، أي المتزمتين غير الصهاينة إلى حد ما، من الأشكينازيم (اليهود الغربيون أو الأوروبيون) والسفارديم (اليهود الشرقيون والمغاربة).
هل يولّد التطرّف الأصولي اليهودي بشقّيه الحكومي والشعبي ردّات فعل أصولية مُغايرة لا في الداخل الفلسطيني وحده، بل في عموم المنطقة الشرق أوسطية بداية، وحول العالم تاليًا؟
إذا بدأنا بالداخل الفلسطيني سيكون من اليسير القول إن الاقتراب من المقدّسات الإسلامية ومحاولة المساس بها على ذلك النحو من قِبَل متطرّفين من غُلاة الأصوليين اليهود، سيخلق تيارًا معاكسًا، مضادًا في الاتجاه مساويًا في القوة، وربما أكثر. وهذا ما تجلّى ويتجلّى في ثورات المَقدسيين ما جرت بها المقادير من قبل، وما هو منتظر أن يحدث، ولقد دفع الأمر الشاب الفلسطيني معتزّ حجازي - الأسير المحرّر - لمحاولة اغتيال كبير المتطرّفين الحاخام يهودا غليك، زعيم ما يعرف بحركة «أمناء جبل الهيكل»، وهي الحركة الدينية التي أسّست عام 1967، على يد المتطرف غيرشون سولومون.
هل يدفع هذا التطرف اليهودي الأصولي جماعات دينية تتستر بالإسلام إلى المزيد من التعصّب والعنف؟
مما لا شك فيه أن الصراع على هذا النحو ينحرف من «القومية» إلى «الدينية»، وهناك بعض الأصوات الإسرائيلية التي لفتت إلى تلك الحقائق منها تسيبي ليفني، وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة، التي أشارت إلى أن المنطقة ستشتعل عاجلاً أم أجلاً، وحذرت أخيرًا خلال مقابلة إذاعية لها من أن يؤدي الوضع المتأزّم في القدس إلى «تحول النزاع القومي مع الفلسطينيين إلى نزاع ديني مع العالم الإسلامي بأسره» مشدّدة على ضرورة «تجنب الاستفزازات من قِبَل الجانب الإسرائيلي».
هل تعمّق الأصوليات الدينية الصراعات القومية والعرقية؟ نعم، بالفعل، فهي تعمّق الخلافات وتجذرها، وخصوصًا من خلال التسويق لها على أنها صراعات هويّة، ولا نرى أمامنا سوى ذلك عندما يدعي البعض أن الصراعات في الشرق الأوسط وما يرتبط بها من إرهاب إنما هي صراع ثقافات أو صراع أديان.
في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2001، قال أسامة بن لادن لمراسل إحدى المحطات الفضائية العربية، الرائجة وقتها، «إن فرضية صراع الثقافات صحيحة، بلا شك، فالقرآن يرى هذا الصراع، وفكرة السلام العالمي ليست أكثر من أسطورة غربية».
ولعل المدهش في تصريحات بن لادن، أنها تتسّق طولاً وعرضًا، شكلا وموضوعًا، مع رؤى مماثلة لاثنين من أساطين التطرّف الديني اليميني المسيحي في الولايات المتحدة الأميركية، القس بات روبرتسون والقس جيري فالويل، وغيرهما من أعضاء النظام الأصولي اللاهوتي المحافظ في الولايات المتحدة، وكذلك مع منظّري اليمين الديني في السياسة الخارجية الأميركية.
أفعال التطرّف الأصولي اليهودي في فلسطين تدفعنا دفعًا إلى التساؤل عن العلاقة بين الإرهاب المتصاعد في المنطقة وبينها، وإلى أين تمضي؟
هنا يمكن للمرء أن يلاحظ علاقة واضحة وثابتة بدءًا من جماعة الإخوان المسلمين في مصر ونشأتها عام 1928، مرورًا بـ«القاعدة» ووصولاً إلى «داعش»، إذ تأخذ جميعها من فلسطين - سواءً بالحق أو بالباطل - تكأة لتبرير أعمالها العنيفة، والتذرّع بالدفاع عن المقدّسات لتعزيز وسائلها «الجهادية». وفي كل الأحوال، فكما أشار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في خطابه أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ الفرنسية بتاريخ 10 مارس (آذار) الماضي، فإن تعذّر حل القضية الفلسطينية يغذّي مشاعر الكره والتطرّف، وتأخر حلّها عامل بارز في انتشار الإرهاب في المنطقة.
لاحظ هنا أن الملك عبد الله يتناول القضية في شقيها القومي والإنساني. وعليه فالتساؤل: كيف سيكون المشهد حال الاقتراب من موقع وموضع يمثل قُدسيّة خاصة للعالم الإسلامي كالمسجد الأقصى؟
الجواب الصريح، غير المريح، ربما طفا على السطح في الفترة الأخيرة عبر بعض نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى زيادة التعاطف في قطاعات شبابية بعينها، وفي دول محددة، مع جماعات أصولية لها مسحة دينية منحولة. وفي هذا تتجلّى المخاطر الحقيقية في الحال والاستقبال، وتزداد المخاوف من اتساع رقعة حضورها الجغرافي، وقدرتها على استقطاب المزيد من المريدين والأتباع الذين يعزّزون أصوليتهم في مقابل الأصولية اليهودية في الأراضي المقدّسة.
هل نفوذ المتطرفين اليهود آخذ في التصاعد، لا سيما، في ضوء وجود حكومة بنيامين نتنياهو الحالية؟
خلال الانتخابات الأخيرة، حافظ متطرّفو المعبد على حجم كتلتهم السياسية المقدّرة بـ13 نائبًا، وحافظوا على توزيعهم داخل حزبي «الليكود» و«اليهودي»، كما أن ممثليهم داخل الليكود تمكّنوا من التقدم أكثر لينتقلوا من مواقع نواب وزراء ليتولوا مواقع وزارية، ثم إن ممثليهم ضمن «الليكود» باتوا شريكًا حكوميًا مع نتنياهو في اللحظة الأخيرة، مما أتاح لهم فرض الكثير من الشروط، من بينها تسليم وزارة العدل للمتطرّفة إيليت شاكيد.
ما المتوقع إذن والحالة الحكومية الإسرائيلية على هذا النحو؟ مؤكد استغلال هؤلاء نفوذهم الجديد وغير المسبوق، لجعل فكرة التقسيم الزمني للصلاة في الأقصى بين المسلمين واليهود، واقع حال، مدعوما بقوانين إسرائيلية رسمية، وإطلاق يد قوات الأمن لتسهيل دخول المتطرّفين اليهود ومنع المسلمين من الوصول للأقصى، عطفًا على تكثيف إجراءات الحفر أسفل الأقصى، وزخم الجماعات التي تمضي وراء مقولة ديفيد بن غوريون التاريخية «لا فائدة لإسرائيل من دون القدس، ولا معنى للقدس بغير الهيكل».
هل كانت «حرب يونيو 1967» أو «حرب الأيام الستة» نقطة فاصلة في ظهور وتصاعد المد الديني الأصولي اليهودي؟ هذا ما يشير إليه الكاتب الفرنسي إيمانويل هيمان في مؤلفه «الأصولية اليهودية.. فرنسا، إسرائيل، الولايات المتحدة»، وعنده أن اليهود الأرثوذكس في إسرائيل يستريحون في مهمتهم الخلاصية إلى الهوة المتزايدة بين المؤمنين والعلمانيين، لا سيما بعد «حرب الأيام الستة»، فالدينيون يعتبرون أنفسهم بعدها الحرّاس الوحيدين للتقاليد والمحاربين المخلصين دون غيرهم.
هذا الكلام يؤكده ما يذهب إليه البروفسور اليهودي الأرثوذكسي أفراهام رافيتسكي، الأستاذ من الجامعة العبرية بالقدس، والذي كتب في إحدى خلاصاته يقول: «قبل عام 1967 كان الصهاينة العلمانيون هم أهل السلطة، وكانت تتكون منهم الطبقة السياسية الحاكمة وكانوا على رأس الجيش، أما الأرثوذكس فكانوا حرّاس الشريعة والتوراة.. إلا أن الاستيلاء على حائط المبكى، جعل الدينيين حملة الراية لصهيونية تضمن استمرارها المستوطنات الدينية في الأراضي الفلسطينية قوامها اليهود من الأصوليين القدامى والمحدثين».