لقد اخترت عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر والزعيم الهندي غاندي معا، وربطتهما في مقال واحد، نظرا لأسباب عدة.. أول هذه الأسباب، أنهما عاشا معا في الحقبة نفسها؛ فماكس فيبر ولد سنة 1864، أما غاندي فقد ولد سنة 1869. والسبب الثاني أنهما درسا التخصص نفسه، وهو الحقوق. وإذا كان غاندي قد مارس المحاماة، فقد حلم فيبر بذلك بينما كان يدرس القانون. أما السبب الثالث، فيعود إلى اهتمامات الرجلين الواضحة بالسياسة؛ ممارسة وتنظيرا. والسبب الرابع، والأهم، هو أن فيبر ينظر إلى السياسة من منطلق غربي، ويرى أن العنف هو قدر الدولة، بينما غاندي، الشرقي، يؤسس للسياسة من مدخل اللاعنف، أو ما يسمى «ساتياغراها»، فالأول يفكر من داخل نسق القوة؛ فألمانيا كانت في حرب مع دول الاستعمار. أما الثاني، فيفكر من داخل نسق الضعف، لأن الهند تحت قبضة الاحتلال البريطاني.
سنسعى في مقالنا هذا إلى الوقوف عند كل فلسفة على حدة، لكي نتبين، عن قرب، وجهي السياسة العنيف والسلمي معا، متسائلين: هل هما وجهان متناقضان، أم وجهان لعملة واحدة؟
فيبر: مشروعية عنف الدولة
ولد عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر في ألمانيا سنة 1864، لعائلة بورجوازية بروتستانتية. التحق بالخدمة العسكرية وهو في سن الـ19. درس في جامعة برلين ليحصل على الإجازة في القانون سنة 1886، ثم حصل بعدها على الدكتوراه، مما مكنه من أن يصبح أستاذا جامعيا.
لم يعمر ماكس فيبر طويلا، فهو مات جراء إصابته بالتهاب رئوي حاد سنة 1920، أي عن عمر يناهز 56 سنة، إلى درجة أنه لم يكمل عمله حول «سوسيولوجيا الأديان». نعم لم تكن حياته بالطويلة، لكنها كانت عريضة وحافلة، خاصة في الشق السياسي؛ فالرجل استفاد كثيرا من أبيه الذي كان زعيما سياسيا يقيم الصالونات ويجمع فيها المفكرين والقادة السياسيين، الأمر الذي عمق لدى فيبر الإشكالات السياسية.
نريد في هذا المقال أن نطل فقط على جانب من تنظيرات فيبر السياسية، وبالضبط سنقف عند رأيه في مشروعية عنف الدولة.
يعرف ماكس فيبر السياسة، في كتابه «رجل العلم والسياسة»، بأنها: «تلك المجهودات المبذولة من أجل المشاركة في الحكم، أو للتأثير في عملية توزيع السلطة سواء بين الدول أو بين مختلف التجمعات داخل الدولة»، فالنشاط السياسي يحتاج أرضا للتجمع، كما يحتاج قوة للإكراه البدني من أجل فرض احترام القوانين والمساطر. ينطلق ماكس فيبر من فكرة تفيد بأنه ما دام لا يوجد مجال لتصور دولة دونما عنف، فالعلاقة بينهما وطيدة وحميمية. فوجود الدولة عبر تاريخها، يعني وجود تنظيم وتجمع سياسي له الصلاحيات والسلطة التي تمكنه من فرض الأوامر، وإلزام الناس بالطاعة. فالدولة تتمتع بسلطة قسرية وقاهرة تمنع فوضى الغاب. إن العنف المادي، وإن لم يكن هو الوسيلة العادية في يد الدولة، فهو الوسيلة المميزة التي لا يمكنها الاستغناء عنها. وفي كثير من الأحيان، لا تكون هذه القوة ظاهرة، بل هي تستخدم بطرق غير محسوسة. إن ماكس فيبر يظهر داروينية واضحة؛ فالصراع أمر حتمي داخل الدولة، فإذا كان هناك انتقاء طبيعي، فهناك انتقاء اجتماعي أيضا. وما يسمى «الشفقة في السياسة»، لهو أمر بئيس، وما يسمى «السلم» هو بالمثل، مجرد تكتيك أو تعديل في شكل الصراع بين الأعداء.
إن الذي يسأل: هل يجب استخدام القوة في السياسة؟ كالذي يسأل: هل يجب استخدام الذكاء في العلم؟ إلا أنه يجب فهم أن الدولة الحديثة قد بلغت في احتكار السلطة مبلغا عاليا، إلى درجة أنها أصبحت المصدر الوحيد لممارسة العنف. فالدولة بما أنها تجمع بشري في رقعة جغرافية معينة، أي الوطن، أصبحت، وعن طريق الآلية الديمقراطية، تشرعن لهذا العنف، وذلك عن طريق الاختيار الحر؛ فالسيادة أصبحت للقانون، والقانون من وضع الشعب، وكل خرق لهذا القانون يؤدي إلى المعاقبة المباشرة.. هذه المعاقبة يرضخ لها المواطن دون إحساس بالحيف والظلم، لأنه هو من صادق على القوانين وعلى نوع السيادة، فلا أحد في الدولة الحديثة له صلاحية العنف، فالعنف كله أصبح في يد هيئة سيادية، تعد بمثابة طرف نزيه ومحايد، يسهر على تنظيم الشأن العام وضمان التوازن والانسجام الاجتماعي.
لقد أصبحت الدولة الحديثة أكثر عقلانية، وسلطتها أصبحت إكراها منظما، وعنفها المحتكر أخذ طريق الشرعية، لأنها تقوم بمهمة الانتقام بطلب من أفراد الشعب، مما يعني أنه لم يتم في الزمن الحديث إلغاء الطبيعة، أي القصاص، بل كل ما هنالك أنه تمت مأسستها.
غاندي: العنف حيواني ولا مشروعية له
ينعت غاندي (1869 - 1948) بالمهاتما، وتعني «الروح العظيمة». إنه المحامي والزعيم الهندي الشهير الذي شكل، حقا، حالة فريدة ومتميزة في تاريخ البشرية. عاش بين الهند وبريطانيا وجنوب أفريقيا.. ناضل ضد الاستعمار، ووقف مع الملونين والمظلومين بشجاعة، وجابه التمييز العنصري. ولاقى في ذلك ما لاقى من صنوف الأذى. فهو، حقا، عاش حياة مليئة بالأشواك؛ حيث تعرض للضرب والإهانة والتمييز، لأنه ليس من البيض، بل الرجل سجن وعذب، لكن الذي جعله يلقى الصدى العالمي إلى درجة رفعه نحو المثال، هي طريقته المتميزة في الرد، والمتمثلة في الابتسامة الهادئة، فالرجل كان يتحرك بأفق نظري واضح، قائم على فلسفة سميت الـ«ساتياغراها».. فما ملامح هذه الفلسفة؟
لقد كان غاندي، بالإضافة إلى ثقافته الحقوقية بحكم كونه محاميا، كثير الاطلاع على الفلسفة الهندية القديمة، وعلى الديانة البوذية، وعلى الكتاب المقدس عند المسيحيين. كما أنه كان مطلعا أيضا على معاني القرآن الكريم. فهو كان، كما يبدو، يمتح أسلوبه من الثقافة الدينية، ناهيك بأنه كان قارئا للكاتب الروسي تولستوي، وكذلك لكارل ماركس، خاصة كتابه الشهير «رأس المال». ومن كل هذا الغنى الثقافي، استطاع أن يصنع لنفسه فلسفة تتمركز حول مجابهة العنف باللاعنف، سميت الـ«ساتياغراها».
ولفظة «ساتياغراها»، سنسكريتية، تعبر عن نظرية «المقاومة السلبية». ولكن معناها الحرفي هو «النضال السلمي في سبيل الحق». إنها قوة الروح، أو قوة الحب من أجل الحصول على الحق. ويمكن أن يستخدمها الأفراد كما المجتمعات. وهي قوة لا تقهر. يقول غاندي، «اللاعنف هو أعظم القوى في خدمة الجنس البشري، وأقوى سلاح ابتدعته عبقرية الإنسان». وإنه لغير صحيح إطلاقا، بحسب غاندي، القول بأن قوة اللاعنف قد أوجدها الضعفاء، ما داموا أنهم غير قادرين على مجابهة العنف بالعنف، فهي ما تبقى لهم من حيلة. إنه وهم ناشئ من عدم وجود ترجمة صحيحة كاملة لتعبير «ساتياغراها»، ذلك لأنه من المستحيل على أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من الضعفاء أن يستخدموا ويطبقوا هذه القوة، فلا يمكن أن يكون من المقاومين السلبيين إلا أولئك الذين يدركون بأن في الإنسان شيئا أسمى من الطبيعة الوحشية الغاشمة، وأن تلك الطبيعة القاسية يمكن أن تخضع لذلك «الشيء». يقول غاندي: «أنا أسعى لأن أفل سيف المستبدين ليس عن طريق مواجهته بسيف أكثر مضاء، بل بمفاجأته بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه فيزيائيا، لأواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه».
إن استخدام «ساتياغراها» يتطلب الصبر، وترويض النفس على عدم الاهتمام بأمر الكساء والغذاء، ومجابهة البغضاء بالمحبة، والباطل بالحق، والعنف بالعذاب الطوعي، حتى يشعر الطغاة بخستهم وحقارتهم.
إن العنف عند غاندي لا مكان له في نظريته، فاستخدام القوة المادية والبدنية في الـ«ساتياغراها» محظور حتى في أحسن الظروف الملائمة لذلك. «فليس اللاعنف أبدا منهجا من مناهج القسر، فهو منهج من مناهج الإقناع بالحسنى. وهكذا يجب أن يكون شعارنا دائما؛ إقناع الخصم وديا. ويجب أن نرفض، بتصميم وعناد، اعتبار خصومنا أعداء. ولما كان الـ(ساتياغراهي) يودع الخوف، فإنه لا يخشى إطلاقا أن يثق بالخصم. وحتى لو خدعه الخصم عشرين مرة، فإن عليه أن يكون مستعدا للوثوق به للمرة الحادية والعشرين، لأن الثقة المطلقة في الطبيعة الإنسانية هي جوهر عقيدته بالذات».
إن غاندي بعكس ماكس فيبر تماما، يعتبر أن العنف هو دوما عنف، والعنف رذيلة. إن اللاعنف هو القانون الذي يحكم النوع الإنساني، مثلما أن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني. هكذا ربما سيظل الإنسان يتأرجح معلقا بين واقعية شرسة وطموح سلمي مثالي.
* استاذ فلسفة