أينما ذهب «أتيلا الجبار» قالت عنه الشعوب إنه «وباء الله على الأرض»، بينما انتشرت مقولة أخرى أن الأخضر لا ينمو مرة أخرى تحت أقدام فرس هذا الطاغية، وهكذا استقبلت منطقة وسط أوروبا سيرة هذا الملك الشاب والذي أصبح أحد أسوأ الظواهر الإنسانية على الأرض حتى ذلك التاريخ، فهذا هو «أتيلا» ملك قبائل «الهان Hun»، الذي سيطرت قواته على وسط وجنوب وسط أوروبا خلال منتصف القرن الخامس الميلادي في أحد أسوأ صفحات التاريخ الإنساني المعروف، فهو الرجل الذي كانت أوروبا كلها تخشاه، ومعها أقوى إمبراطوريتين عرفتها أوروبا وهي الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، واللتان وقفتا مكتوفة الأيدي أمام قواته والدمار الشامل الذي كان يلحق بالأرض والشعوب التي مر بها.
واقع الأمر أن أصول قبائل «الهان» يرجع إلى وسط آسيا بالأخص قرب منغوليا وأتت إلى أوروبا ضمن موجات الهجرة المتتالية لكثير من القبائل في هذه المناطق بهدف استيطان وسط وجنوب شرقي أوروبا، بينما ترجع بعض المصادر التاريخية الأخرى أصول الهان إلى قبائل الـScythians والتي اختلطت بكثير من القبائل الإيرانية الشمالية في القرن الثاني الميلادي، وعلى كل الأحوال، فإن قبائل «الهان» لم تلعب دورًا فاعلاً وكبيرًا في التاريخ الأوروبي مثل باقي القبائل الهندية / الأوروبية التي كانت منتشرة إلا في القرن الخامس الميلادي، فأمة «الهان» كان شأنها شأن باقي هذه القبائل تمثل قوة متحركة قوية إلى أن استقرت فيما هو معروف اليوم بالمجر، وعلى الرغم من قوتها فهي كانت محلية الطابع بدرجة كبيرة، ولم تسع مثل قبائل «الجوثس» و«الفيزجوثس» والقبائل «الفراكنية» الأخرى إلى توسيع قاعدتها السياسية بشكل كبير، ولكن هذا كان ليتغير بمجرد أن اعتلى أتيلا الحكم وهو في الأربعين من عمره بعدما توفي عمه، تاركًا الحكم له ولأخيه «بليدا»، وهو ما لم يكن ليستمر طويلاً، فالشاب أتيلا لم يكن على استعداد لتقاسم السلطة لمدة طويلة، فتخلص من أخيه بدس السم له، وخلا له الحكم.
لقد كان هذا الملك الطموح يعرف جيدًا أهمية توسيع رقعة مملكته ليستطيع أن يتغلب على الظروف الصعبة وشظف العيش، فكان سلاحه في ذلك الأمر هو جيشه القوي، الذي وصل إلى قرابة نصف مليون جندي بعد فترة وجيزة، وكان سلاحه الآخر هو الخوف، فلقد أدرك الرجل أن الخوف هو الحل لمواجهة أعدائه، فعمد إلى اتباع سياسة جعلته في التقدير «أول مجرم حرب أوروبي» على مستوى كبير، فلقد قتل وحرق ودمر من المدن ما لا يمكن حصره، فسياسته كانت القضاء المبرم على عدوه حتى يكون عبرة لعدوه التالي، فأينما ذهبت جيوشه كان الدم والخراب والحرق هو النتاج الطبيعي لوجودها، وبهذا ضمن ولاء وخوف كل أعدائه، وقد ساعده في فتوحاته قيامه بتطوير النظام العسكري الذي كانت قبائل الهان تتبعه، فلقد كان عماد هذه القبائل هو الفرس والذي أعطي لجيوشه الحركة السريعة، وكان القوس هو السلاح الفتاك الذي أتقنه هذا الجيش، فيقال إن الفارس منهم كان يستطيع أن يقنص عدوه من على مسافة تصل إلى مائة متر أو أكثر، فالحركة كانت مفتاح سر هذا الجيش الجبار إلى جانب تنظيمه الدقيق.
لقد كانت أوروبا في ذلك الوقت مقسمة سياسيًا ما بين الإمبراطورية الرومانية في الغرب، والإمبراطورية البيزنطية في الشرق، بينما كانت وسط أوروبا تنتشر فيها القبائل القوية التي كانت تهدد هاتين الإمبراطوريتين، وواقع الأمر أن أتيلا بدأ توسيع قاعدة انطلاقاته نحو الإمبراطورية البيزنطية في الجنوب والتي كانت دولة غنية ولكنها لم تعد تملك نفس قوتها السابقة، وهو ما جعلها فريسة سهلة لهذا الرجل الدموي، فهاجم أراضيها بكل قوة وعنف جاعلاً منها صيدًا سهلاً للغاية، فتوغل في ممتلكاتها إلى أن أصبح على مقربة من العاصمة وهو ما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى طلب الصلح معه بعدما حرق مدنًا بالكامل وأبيد قاطنيها عن بكرة أبيهم، فأصبحت هذه الدولة تدفع له جزية سنوية متضاعفة تخطت سبعمائة كيلوغرام من الذهب سنويًا، وهو ما سمح له بالمزيد من الوفرة والتي طور بها جيوشه خلال فترة حكمه القصير والتي دامت ثمانية سنوات فقط.
اتبع أتيلا نفس سياسات جدوده من حيث رفضه الكامل لعوامل التغريب، فلقد رفض المسيحية ورفض التحضر على النحو الروماني أو البيزنطي، فحافظ على الطبيعة البدوية لقبائله على عكس كثير من القبائل القوية الأخرى في وسط أوروبا والتي سرعان ما تأثرت بثقافة ومدنية هاتين الإمبراطوريتين، وقد وضع الرجل نظامًا قويًا لضمان توفير الجيوش اللازمة لفتوحاته المنتظرة، وبالتالي كانت انتصاراته أحد الأسباب الرئيسية لاستقرار فترة حكمه داخليًا بعد انتصاره على البيزنطيين، خصوصا وأنه كان يعاقب بقوة كل من يخرج عليه ويعدمه في تجمع عام ليكون عبرة لكل من تساوره نفسه للخروج عليه.
صار أتيلا على قناعة بأنه استخلص من البيزنطيين أقصى ما يمكن أن يحصل عليه من ذهب وأموال، فوجه جهده نحو الإمبراطورية الرومانية وعاصمتها روما، وكان الرجل في انتظار الفرصة السانحة لفتح جبهته الغربية، وهي الفرصة التي سنحت له بسبب فضيحة لأخت الإمبراطور الروماني والتي أدت لقرار الإمبراطور تزويجها من أحد رجال الساسة، فاستنجدت الأميرة بالملك «أتيلا» حيث عرضت عليه الزواج وتقاسم الإمبراطورية، فاستغل الرجل الفرصة وأرسل لأخيها الإمبراطور يطالب بالممالك الغربية للإمبراطورية كمهر لزواجه المرتقب من أخته، وأرسل جيوشه إلى الغرب في بلاد «الغال» أي فرنسا، ولكن أتيلا لم يكن يتوقع أن القدر سيقف ضده متمثلاً في شخصية رومانية عبقرية هي «فلافيوس أييتس»، ذلك الروماني الفذ والذي عاش صباه صديقًا لأتيلا عندما كان رهينة رومانية لدى قبائل «الهان» ضمانًا لمعاهدة السلام التي وُقعت بين الطرفين، فلقد كان «فلايوس» مدركًا لقوة خصمه وطريقة حياة هذه القبائل وطرق حروبهم، بل يقال إنه كان يمتطي جواده على نفس شاكلتهم، وكان يعرف تكتيكاتهم العسكرية معرفة كاملة، فتحالف هذا القائد الروماني مع بعض القبائل «الجيرمانية» التي كانت تخشى تفشي قوة «الهان» في وسط أوروبا.
في عام 452 شهدت أوروبا بالقرب من نهر «المارن» في فرنسا معركة «شارلونز» الشهيرة، وفي هذه المعركة الدموية التي راح ضحيتها ما يقدر بنحو مائة وخمسين ألفًا، استطاع فلافيوس بتكتيكاته العسكرية أن يوقف هجوم «أتيلا» بعدما كاد قلب جيشه يُهزم، ولكن الإمدادات التي دفع بها «فلافيوس» من الجناحين استطاعت أن تصد جيش أتيلا الجبار بكل قوة، وهو ما دفعه للتقهقر على وجه السرعة، وهكذا أُنقذت أوروبا من دمار محقق، ولكنها لم تكن نهاية الحرب مع هذا الرجل الجبار، فانسحابه كان تكتيكًا إلى حد كبير، إذ سرعان ما استطاع أن يُجمع جيوشه مرة أخرى في العام التالي واستغل فترة الصيف ليصب غضبه على روما ذاتها، فهذه المرة لم يوجه جيوشه إلى الغرب، بل خرج من قاعدته إلى الجنوب مباشرة قاصدًا روما، تاركًا خيطًا من الدمار والقتل والدم لم تشهده أوروبا من قبل، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يدخل روما، وهو ما اضطر الإمبراطور إلى إرسال البابا «ليو» ليتفاوض معه لينسحب.
واقع الأمر أن المصادر التاريخية لم تأت إلينا بما دار في هذا اللقاء التاريخي، ولكن نتيجته كان قرار أتيلا الانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى إلى قواعده، ولكن التحليلات التاريخية تقدم لنا رؤية واقعية للأسباب التي دفعت هذا الملك الجبار إلى التخلي عن أهدافه، فحقيقة الأمر أن الرجل كان بعيدًا عن مركزه في المجر، وكانت إمداداته قد بدأت تتأثر كثيرًا بسبب البعد الجغرافي، إضافة إلى أن جبهته الشرقية ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية كانت في خطر حقيقي، فلو انكسر الصلح مع البيزنطيين كما كان متوقعًا، فإن هذا معناه أنه سيواجه الإمبراطوريتين معًا، ويضاف إلى ذلك أن جيوش الرجل قد تفشى فيها مرض الجدري، وهو ما يعني ضرورة الانسحاب، وبالتأكيد فإن الذهب الروماني كان سببًا آخر في الانسحاب، حيث عرضت عليه الكنيسة والإمبراطور على حد سواء صناديق من الذهب ملأت شهيته مؤقتًا، وهو ما أدى لقراره بالانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى للمجر.
حقيقة الأمر أن الدبلوماسية البابوية قد أنقذت الحضارة الأوروبية بكل تأكيد، فلو أن أتيلا قد استمر في حملته واستطاع تصفية الإمبراطورية الرومانية فإن هذا كان معناه نهاية الحضارة الغربية المعروفة اليوم، فالرجل كان سيهدم كل ما هو روماني من الكنيسة إلى القوانين الرومانية، وكان مصير روما هو الحرق شأنها شأن باقي المدن الأخرى، وقد أدى هذا الصلح أيضا إلى علو شأن الكنيسة والتي نظرت لها الرعية على اعتبارها وسيلة السماء المباركة والتي أجبرت هذا الرجل السفاح على التراجع، وهو ما أعطى الكنيسة دفعة قوية للغاية في أعين الرعية والتي رأت أن الرب راض عنها وبالتالي زاد نفوذها السياسي بشكل ملحوظ بعد ذلك.
لقد كان من الممكن أن يكون مصير أوروبا في العام التالي هو نفس ما حدث وكان من الممكن أن يهدم أتيلا روما والحضارة الغربية تمامًا هذه المرة، لولا أن القدر تدخل مرة أخرى في عام 453، حيث مات الرجل في ليلة زفافه، ومن سخرية القدر أن الرجل مات مخنوقًا بدمائه بعدما تعرض لنزيف خارجي وداخلي في آن واحد أجهز على رئتيه، فمات الرجل في دمائه مثلما أراق دماء الآخرين، ولكن ليس قبل أن يترك لنا بسيرته عددًا من الحقائق أهمها أن الدولة التي تحاصرها الأعداء عندما يضعف جيشها فهي حتمًا إلى زوال.
أتيلا الجبار
أتيلا الجبار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة