هناك أدباء كثيرون تخلوا عن أعمالهم الأولى واعتبروها ضربا من المراهقة. وهنا أشير إلى محمود درويش وديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة». وأعتقد أنها حالة كثير من الأدباء، ومنهم مشاهير. منهم مثلاً عبد الرحمن منيف الذي لم ينشر روايته الأولى «أم النذور» في حياته، ونشرت بعد وفاته. وحين يمعن المرء فيها فإنه لا يرى أنها تنبئ بموهبة واعدة. لكن نشرها لاحقا، وكذلك الالتفات إلى ديوان محمود درويش الأول مهم للكتاب الشباب، لأن ذلك يطمئنهم بأن من بلغوا مكانة عالية في عالم الإبداع لم يولدوا مكتملين. ولو تعامل النقد مع الأعمال الأولى بقسوة فقد يحطم مواهب كثيرة، لهذا يفضل التعامل مع العمل الأول، تحديدًا، بقدر من الرأفة.
بهذه المداخلة الموجزة، بدأ الناقد الفلسطيني د. عادل الأسطة، أستاذ اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، حديثه حول العمل الإبداعي الأول وهل يجب التعامل معه بشيء من الخصوصية من قبل القراء والنقاد على حد سواء.
قال الأسطة: «هناك أعمال أولى لكتاب معينين بدت ناضجة حقا. كلنا يذكر (سداسية الأيام الستة)، و(المتشائل) لإميل حبيبي. وهو ليس حالة استثنائية في الأدب الفلسطيني، فهناك كتاب شباب قدموا أعمالا أولى لقيت الاستحسان، كرواية (كافر سبت) لعارف الحسيني على سبيل المثال لا الحصر، وهناك غيرها».
* تأنّ وتخلّ
ورأى الأسطة في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن كثيرًا من الكتاب يكونون فرحين، ويرغبون في أن يكون عملهم الأول منشورا، وقليلون هم من يتأنون. والذين لا يتأنون، وإن كتبوا أعمالا لاحقة ناضجة، يتخلون عن عملهم الأول. وقال: «لم يكن محمود درويش استثناء، فالشاعر الفلسطيني المتوكل طه أعدم ديوانه الأول. وحين أعد طالب ماجستير دراسة عن المتوكل شاعرا، طلب الديوان الأول منه، فرفض المتوكل أن يعطيه النسخة. تصور لو تعامل النقد بقسوة مع العمل الأول للمتوكل طه، فإنه قد يحطمه، وحينها سيكون الأدب الفلسطيني خسر شاعرًا وكاتبًا أرى أنه جيد».
* هجرة الأدب
وأضاف الأسطة: «أنا مثلا ملوم لأنني لا ألتفت إلى أعمال الشباب، وأركز على أسماء محددة. تعلمت من التجارب ألا أجازف وأنفق وقتي على تناول أعمال أولى بالنقد. والسبب أن أكثر أصحابها سرعان ما يتركون عالم الأدب بعد العمل الأول، وينصرفون إلى شؤون حياتية أخرى. فالأدب ليس جوهريا في حياتهم. غالبية النقاد يكرسون أقلامهم لأسماء ترسخت في عالم الأدب ولا يجازفون في تناول أسماء جديدة».
وتابع الأسطة: «تصور كم من كاتب أصدر عمله الأول ثم توقف ولم يعد يلتفت إلى الأدب. وهناك من كان ينبئ عن موهبة حقا، لكنه لم يواصل. وبهذا الخصوص، أتذكر تساؤل فاروق وادي في كتابه (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية): هل يكرس الكاتب أديبا من خلال عمل واحد؟ والجواب طبعا هو: قلة من الكتاب من يكرسون أدباء بكتاب واحد».
وختم الأسطة حديثه قائلا: «بالإضافة إلى ما ذكر، هناك ملاحظة مهمة جدا بخصوص العمل الأول للكاتب أو الأعمال الأولى. وهي أن كثيرا من الكتاب يكونون صادقين في أعمالهم الأولى، تكون لافتة. لكنهم هم أنفسهم يبدأون بكتابة مختلفة تفتقد الصدق والحرارة. وقد يكون السبب أنهم أخذوا يعملون في مؤسسات سلطة ما، ويريدون أن يحافظوا على مراكزهم. وهكذا ينتجون نصوصا مختلفة لكنها ليست فاعلة. تستغرب أنني معجب بأعمال مبكرة لكتاب لم أعد اقرأ نصوصهم الأخيرة، وأعتقد أنها باتت غير ذات جدوى».
* ما بين جيلين
وحول الأعمال الإبداعية الأولى، شدد الروائي والكاتب الفلسطيني يحيى يخلف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، على أن ثمة حالة من الاستسهال لدى البعض في الكتابة والنشر هذه الأيام. وقال: «بالنسبة لنا كنا نرى أن الكتابة مسؤولية، فكان الكاتب مثابرًا وقارئًا ومتابعًا، ولم يكن ينشر كتابه الأول، إلا بعد أن يكرّس ككاتب من خلال المجلات الأدبية المرموقة. وكانت هناك مجلة (الآداب) في بيروت أيامنا، ومجلة (الأديب)، ومجلات مصرية متخصصة عدة. وفي ذلك الوقت، كانت معايير دور النشر صارمة، وليس كما هي الحال الآن، إذ بات بإمكان أي كاتب نشر ما يريد بمجرد أن يدفع مبالغ نقدية متفقا عليها مع ناشر ما. الكتاب من أبناء جيلي كانوا قارئين للتراث والأدب الحديث على المستوى العربي والعالمي. وبالتالي كان الكتاب في الأساس قراء حقيقيون. ومن لا يقرأ التراث، على المستويين الشعري والنثري، برأيي، لن يكون كاتبًا وازنًا».
وأضاف يخلف: «أقرأ لكثير من الشباب ممن يكتبون قصيدة النثر، وأشعر مع غالبية ما أقرأ، وليس جامعه، بأنه يفتقد الثقافة واللغة الرشيقة والعميقة في آن. وكثير منهم يكرر بعضهم بعضا، بل إن بعضهم يعيد توليف مفردات محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف، لكن هذا لا يعني أن لا مبدعين هناك. هذا الأمر لم يكن حتى مع من تعاطوا مع الحداثة في الأجيال السابقة من الفلسطينيين، كدرويش وسميح القاسم، وحتى من سبقهم كإبراهيم طوقان، وأبو سلمى، وغيرهم».
وحول تجربته الشخصية، أشار يخلف إلى أن روايته الأولى «نجران تحت الصفر» حققت حضورًا لافتًا عند نشرها، وقدمته للمشهد العربي، لكنها لم تأتِ مصادفة، بل بعد مراكمة كثير من الكتابات الإبداعية، عبر مجلة الأفق الجديد في القدس وغيرها من المجلات العربية آنفة الذكر. وقال: ««لو جمعت تجاربي في (الأفق الجديد)، وقمت بطباعتها لما حققت ما حققته الرواية أو حتى المجموعة القصصية الأولى لي (المهرة). ولذلك أرى أن على الكتاب الجدد التأني قبل الخروج بالأعمال الأولى لهم، وأن يعمدوا إلى نشر نصوص لهم في صحف ومجلات، لينتشروا، وليتم تقييم إبداعاتهم، قبل الدخول في معمعة نشر العمل الأول، سواء أكان مجموعة شعرية أو رواية، أو مجموعة قصصية، أو غيرها».
* ضد التحطيم
وأكد يخلف أنه ليس مع تحطيم أي عمل أول طموح، وأنه يرى أن «على الناقد التركيز على ما هو إيجابي، من دون إغفال السلبيات. وهذا ما كان يقوم به الدكتور إحسان عباس، إذ يزيد لمعان النقاط المضيئة في النص على علاته. قد يكون في الكتاب الأول كثير من الثغرات، ولكن قد يكون كتابه الثاني مختلفًا. ولدينا من الكتاب الشباب من كرسوا أنفسهم كزياد خداش، وأكرم مسلم، وعاطف أبو سيف. وهؤلاء يكتبون الرواية والقصة القصيرة، وليس الشعر الذي بات نثريًا في فلسطين، وفي غالبيته ليس جيدًا. أفضل أن يكرس الكاتب نفسه قبل العمل الأول، وتبقى الموهبة والثقافة هي الأساس».
وشدد يخلف بشيء من غضب الحريص على مسيرة الإبداع في فلسطين، على القول بأنه «لا يجب اعتبار الأدب جحشا ضالا يحق لأي كان القفز على ظهره».