كتبنا عدة مرات عن افتقارنا لقاموس عربي حي فعلا، يستوعب مفردات الحياة الجديدة التي نعيش يوميا، ونتعامل معها، ولكنها لا تزال خارج «الشرعية اللغوية»، لسبب بسيط هو أن المجاميع اللغوية العربية، التي لا نعرف في أي قرن تعيش، لا تريد أن تمنحها هذه الشرعية. والمناسبة الآن لإعادة القول صدور طبعة جديدة من قاموس أكسفورد الشهير في الخامس والعشرين من هذا الشهر، متضمنة 500 مفردة جديدة، وأكثر من 900 كلمة أعيد النظر في معناها حسب الواقع الحياتي الجديد الذي أكسبها دلالات مختلفة افترقت عن جذورها الأساسية، بالإضافة إلى إضافة 2500 معنى جديد لكلمات موجودة أصلا. وكما هو معروف، يجدد هذا القاموس نفسه بين فترة وأخرى منذ نشره للمرة الأولى عام 1911. وكان أول من أدخل كلمة «فدائيين»، مع بداية حركة المقاومة الفلسطينية في الستينات، لتصبح جزءًا من مفردات اللغة الإنجليزية، ثم كلمة «انتفاضة»، مع انطلاقتها الأولى، ثم كلمة «فتوى» بعد أن أصدرها آية الله الخميني ضد سلمان رشدي. وبذلك أصبح هذا القاموس، مثله مثل قاموس لاروس الفرنسي، حاجة حياتية للمثقفين والمتعلمين يعودون إليها لفهم المفردات ومدلولاتها التي داهمتهم على حين غرة.
في الطبعة الجديدة، لم يجد القيمون على القاموس، الذي هو إنجيل اللغة الإنجليزية، ضيرا من إدخال مفردات شعبية، أو «سوقية» إلى لغة شكسبير، اللغة الأكثر انتشارا في التاريخ الإنساني، استعاروها من مسلسل تلفزيوني، أو من عالم الفيديو، وأدخلوا أيضا اسم «السيكارة الإلكترونية»، التي دخلت الحياة حديثا، ومفردة أخرى مشقة من «تويتر»، وأخرى من الإنترنت، وكذلك مفردات أو مصطلحات غير متداولة سابقا أنتجتها الدورة الاقتصادية التي عرفت في السنوات الأخيرة ركودا سرعان ما أعقبه نمو ثم ركود من جديد.
إنهم ليسوا مثل حراس اللغة عندنا، الذين يريدون أن تستخدم الحياة، على الرغم من أنفها، مفردات «لسان العرب»، القاموس الذي لا يزال مرجعا قيما، على الرغم من عمره الذي بلغ قرونا طويلة، لكنه لم يحدث قط ليغتني بمفردات الحياة الجديدة، حتى لو أنتجتها بيئة وثقافة أخريان، لكنها دخلت، كما في معظم العالم، في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأصبحت متداولة في البيوت والشوارع وتستخدمها أجهزة الإعلام يوميا. لكن فقهاء اللغة عندنا لا يزالون يختلفون حول استخدام «أساس» أو «أساسي»؛ فمجمع القاهرة اللغوي مثلا، لا يزال يصر على الأول، ويخطّئ الثاني، بينما أجاز مجمع دمشق استخدام الثاني. ولا تزال المجامع اللغوية كلها، تتبعها في ذلك مع الأسف بعض أجهزة الإعلام، ترفض إضافة تاء التأنيث المسكينة إلى كلمات مثل «وزير» أو «مدير» أو «رئيس».
القواميس الميتة كقواميسنا تكتفي بأبنائها «الشرعيين»، الذين شاخوا عبر القرون، وترفض أن تعترف بالوافدين الجدد، مصرة على التعامل معهم كأبناء شوارع، غير مدركة أن هؤلاء يتوالدون باستمرار بفعل حركة الحياة الفوارة، وأنهم، إذا لم يروضوا، قد يصبحون عصيين على السيطرة، وخطرين إلى الدرجة التي قد يفترسون فيها حتى الأبناء الشرعيين. وفي أحسن الأحوال، قد تلتبس الأمور علينا، فلا نعود نميز بين الأصيل والدخيل في غياب أية مرجعية لغوية. لا يمكن التفكير بلغة حية متجددة كما الحياة، دون قاموسها الحي المتجدد معها.
لا توجد قواميس قديمة في اللغات الحية حقًا. من يعود الآن إلى «لسان العرب» الذي صدر في القرن الرابع عشر؟ إننا نعود إلى هذا القاموس العظيم حين تستعصي علينا مفردة في الشعر العربي القديم أو كتب التراث، وكذلك مع القواميس العربية الأخرى، وكأن اللغة العربية توقفت مع موت أصحاب هذه القواميس الأفذاذ. أية فاجعة لا نتوقف عندها، كعادتنا، أن تكون اللغة العربية «الحية» بلا قاموس معاصر حقًا يستوعب كل المفردات الجديدة التي دخلت حياتنا، وتدخل حياتنا يوميا ما دام العالم يتحرك.
أن نمتلك «لسانا عربيا» حديثًا ليس أمرًا مستحيلاً، إذا تولت الجامعة العربية مثل هذه المهمة، وأوكلت بها إلى مختصين أكفاء ذوي ذهنيات متفتحة حقًا، تدرك أن الحرص الحقيقي على اللغة العربية يكمن في إغناء شجرتها اللغوية وليس في تجميدها في قواميس يمكن أن تحال إلى المتاحف.
لن يضير ذلك اللغة العربية بشيء، بل يغنيها، كما لم يضر اللغة الإنجليزية أو الفرنسية مثلا.
عندها فقط نستطيع أن نفاخر بلسان عرب حديث كما يفاخر الإنجليز بأكسفوردهم، والفرنسيون بلاروسهم (وعذرًا من التعريب).
أين لسان العرب الحديث؟
أين لسان العرب الحديث؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة