مسرحية «سهرة ملوكي».. دور الفن في مواجهة الفكر المتطرف

تعرض مجانًا للجمهور على مسرح مكشوف في ساحة الأوبرا المصرية

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

مسرحية «سهرة ملوكي».. دور الفن في مواجهة الفكر المتطرف

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

في رحاب أوبرا القاهرة رفعت لافتة على طريقة القرن التاسع عشر كتب عليها «تياترو القباني»، و«الدخول مجانا». جدران المسرح التي تحتضن الجمهور هي عبارة عن أفيشات لأهم الأعمال الفنية السينمائية والمسرحية المصرية. أما العرض المسرحي «سهرة ملوكي» نفسه فيعود بنا إلى بدايات فن المسرح في العالم العربي وكيف كانت نظرة الناس له.
تتناول المسرحية المأخوذة عن نص «سهرة مع أبو خليل القباني»، للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس، أهمية الدور الذي يقوم به الفن في مواجهة الفكر المتطرف، من خلال الصراع بين شخصيتي «أبو خليل القباني» (1833 - 1903)، صاحب أول مسرح في دمشق، وأحد رواد فن المسرح في العالم العربي، وبين الشيخ المتشدد «سعيد الغبرة»، الذي يسعى لإغلاق المسرح والقضاء على فرقة «أبو خليل»، باعتباره يقدم المحرمات التي تلهي الناس وتبعدهم عن المساجد، مما دفع بـ«أبو خليل» لترك دمشق والهجرة إلى القاهرة لتقديم عروضه.
كان ونوس قد كتب المسرحية عام 1972 برؤية فنية تنقسم إلى مستويين؛ المستوى الأول: هو مسرحية أبو خليل القباني «هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب» وفيها يحاول ونوس استعادة جوهر العرض المسرحي كما كان يتم تلك الأيام، مجسدا طبيعة العرض المسرحي كحدث اجتماعي في ذاك الوقت من حيث «الجدة والارتجال والاتصال الحي بالمتفرجين». أما المستوى الثاني، فهو يرتكن إلى الوثائقية والتاريخية التي تحكي قصة القباني منذ بداية تجربته المسرحية وحتى قيام القوى الرجعية بإغلاق مسرحه وإحراقه، مستعينا بتكنيك المشاهد القصيرة التي تتوافق مع تتابع وسرعة الأحداث. لكن مسرحية «سهرة ملوكي» للمخرج خالد حسونة، قدمت على 3 مستويات حيث أضاف إليها مستوى «الوقت الحالي» من حيث حوار الشخصيات الذي تضمن أحاديث باللغة العامية المصرية، وأيضا من حيث التصور السينوغرافي للعرض.
وقد وقع اختيار المخرج خالد حسونة على النص لما وجده من تشابه الظروف التاريخية فيما يخص التعصب الديني تجاه الفن. يقول لنا: «حاولت تقديم معالجة جديدة لتناسب العصر الحالي، وتمت المعالجة لتتناول مستوى حكايات ألف ليلة وليلة، ومستوى الوقت المعاصر، ومستوى أبو خليل القباني والصعوبات التي واجهها، من خلال الدخول والخروج إلى القصة الأصلية لكي أعكس تشابه الفكر الرجعي والمتطرف منذ قديم الأزل، فقد أردت أن أقول من خلال (سهرة ملوكي) أن الصعوبات التي تواجه الفنانين واحدة في كل العصور».
وأضاف: «أردت من خلال العرض التأصيل لدور الفن في حياتنا، إذ إني أرى أن الفن هو المنوط بمواجهة التطرف بكل أشكاله. لا أعلم لماذا أهملت مصر المسرح والسينما كمصادر للدخل القومي رغم أن الدولة كانت مدركة لذلك في الستينات! المسرح الآن لم يعد له أي دور، رغم أن دول العالم كلها تدرك قيمة المسرح والسينما في المجتمع ومواجهة الأفكار المتطرفة».
نجح المخرج في تقديم رؤية سمعية وبصرية متآلفة ومنسجمة لتشكيل رؤيته مع استحضار روح نص سعد الله ونوس فوق خشبة المسرح. وأرى أن توقيت عرض النص جاء ملائما نظرا لأنه يدور في أمكنة هي سوريا ومصر والعراق، في إسقاط سياسي غير مباشر على ما تمر به هذه البلدان من محاولات تدمير إرثها الثقافي والحضاري.
يمكن القول إن مسرحية «سهرة ملوكي» مسرحية تجريبية فهي تجمع ما بين الجدة والاستعراض والكوميديا والدراما، وقد تميز العرض بالحيوية وسرعة إيقاع الممثلين، رغم تعدد مستويات الفضاء المسرحي. وكان تكامل ديكور الفنان شادي قطامش، عنصرا ساهم في نقل الجمهور إلى عصر القباني والعودة به إلى العصر الحالي في لمح البصر، كذلك كان تصميم الملابس للفنانة منار البيه، لاعبا أساسيا في صياغة الدلالات المكانية في التشكيل البصري العام.
وعلى مدار 45 دقيقة، هي مدة العرض، لم يترك المخرج خالد حسونة مجالا لملل الجمهور، فقد جمعت «سهرة ملوكي» ما بين فن الحكي والارتجال والرقص والإنشاد والغناء والشعر والمسرح الدرامي، وتم توظيف الموسيقى والإضاءة والجوانب السينوغرافية بشكل أبرز الشخصيات وسماتها النفسية للجمهور، وقد قام بتصميم الاستعراضات محمد حبيب، وكتب الأشعار حامد السحارتي، وهي من ألحان ضياء الدين محمد عبد الكريم.
قدمت المسرحية يوميا على مدار 20 يوما هي مدة الموسم الأول، وسوف يقام الموسم الثاني لها توافقا مع شهر رمضان. وكان من اللافت وجود إقبال جماهيري كبير طوال أيام عرض المسرحية رغم أنها لا تنتمي إلى المسرح الترفيهي الذي اعتاد الجمهور الإقبال عليه. وقد نجحت المسرحية في إيصال رسالتها التي تتلخص في الجملة التي استهل بها العرض «الأحلام غالية الثمن حينما تسبق عصرها وأوانها».
«سهرة مملوكي» هي من إنتاج فرقة مسرح الشباب التابعة للبيت الفني للمسرح. وشاركت فيها مجموعة من الفنانين هم: أحمد عزت، ومحمد الأباصيري، ونوال العدل، وكريم فراج، وأنغام أبو زيد، وآلاء عبد القادر، ومحمد عواض، وإبراهيم نخلة، وسيد عيد، ومحمود الفوي، ونائل علي، وهادي محيي الدين، ومحمد خلف.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!