أعترف بأني فوجئت عندما زرت لندن لأول مرة ودخل بنا القطار محطة تدعى واترلو! لم أكن أعرف أنه توجد محطة قطار بهذا الاسم. اعذروا جهلي وسذاجتي، وربما تعاطفي الضمني مع الفرنسيين ضد الإنجليز. فلا يمكن أن تعيش ثلاثا وثلاثين سنة في باريس دون أن تتأثر بشيء ما. من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم. فأنا قادم من فرنسا العدوة اللدودة لإنجلترا في ذلك الزمان، وحيث مجرد ذكر كلمة «واترلو» يثير الامتعاض والاستياء الشديد. ولكن كما قال الشاعر العربي: مصائب قوم عند قوم فوائد. ثم فكرت: لماذا لا يحق للإنجليز أن يفتخروا بمحطة واترلو إذا كان الفرنسيون يفاخرون بمحطة أوسترليتز؟ واحدة بواحدة! على أي حال فإن الفرنسيين يتذكرون هذا العام بالكثير من اللوعة والحسرة هزيمة نابليون الساحقة الماحقة قبل مائتي سنة بالضبط: 1815 - 2015. لقد كسرت ظهره وهو الفاتح الكبير الذي لا يهان. وبهذه المناسبة ظهرت إصدارات كثيرة تتحدث عن شخصية هذا القائد الشهير الذي شغل أوروبا والعالم كله بعد الثورة الفرنسية. ومعلوم أنه ولد في جزيرة كورسيكا عام 1769، ثم سافر إلى فرنسا برفقة والده لإكمال دراساته، ثم دخل إلى الكلية العسكرية في باريس.. إلخ. وهي الكلية المواجهة لبرج إيفل والتي سكنت بالقرب منها لمدة سنتين أيام زمان.
لكن لنعد إلى البدايات الأولى. من المعلوم أن الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 دخلت مرحلة الإرهاب الكبير بدءا من عام 1792 وأصبحت تأكل أبناءها كما يقال. وهكذا راحت كل فئة تصفي الفئات الأخرى ما إن تصل إلى السلطة. فروبسبيير صفّى خصومه أو قطع رؤوسهم تحت المقصلة قبل أن يُصفّى هو الآخر أيضا وتقطع رأسه تحت المقصلة ذاتها. ودخلت فرنسا عندئذ في حرب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر. ثم جاء الجنرال بونابرت لكي يضع حدا لكل ذلك: أي لكي ينقذ الثورة من ذاتها. ولكن هل نعلم أنه قبل ذلك كان شخصا ضائعا لا يعرف ماذا يفعل بحياته؟ لنعد إلى الوراء قليلا.
لقد وصل نابليون إلى باريس عام 1795 وهو مسرح من الجيش. ولكنه كان نكرة آنذاك ولا أحد يعرفه، وكان يتسكع في الشوارع طيلة النهار بلا عمل ولا أمل. بل وفكر في الانتحار في بعض اللحظات كحل لمشكلته الشخصية. نقول ذلك وبخاصة أنه كان عاشقا ولهانا ولا يستطيع أن يتزوج لأنه لا فلس في جيبه. من سيزوج ابنته لشخص معدم ضائع لا مستقبل له؟ بعدئذ سوف يفتح العالم كله وليس فقط جوزيفين! ويقال إنه أشرف على الجوع في تلك الفترة وكان نحيلا ضامرا بسبب قلة التغذية وحذاؤه كان مثقوبا.
ثم حصل على عمل متواضع في أحد المكاتب لكي يكسب رزقه. ولكن هذا الوضع البائس لم يدم طويلا. فقد حانت الفرصة لكي ينتفض كالمارد الجبار. نحن نقول عادة بأن الشخصيات الكبرى هي التي تصنع التاريخ ولكننا ننسى أن التاريخ هو الذي يصنعها أيضا. فعندما تحين الظروف المناسبة تُمتحن معادن الرجال. فإما أن يكونوا رجالا، وإما أن ينكصوا على أعقابهم صاغرين. ونابليون كان رجلا مقداما لا يتردد عن المخاطرة بنفسه في اللحظة الحرجة. فقد استطاع القضاء على القوى الرجعية ووضع حدا للفوضى العارمة التي أنهكت البلاد والعباد تماما كما فعل القائد المستنير عبد الفتاح السيسي في مصر مؤخرا.
وبعد عودته من إيطاليا ظافرا منتصرا راح يخطط لغزو مصر ليس من أجلها فقط وإنما من أجل قطع طريق الهند على إنجلترا، العدو اللدود لفرنسا. وقد اصطحب نابليون معه في حملته الكبرى هذه عشرات العلماء والمهندسين وليس فقط آلاف الجنود والعسكريين. ويقال إن ذلك أشعل النهضة العربية لاحقا. فالصدمة النابليونية كانت هائلة: صدمة التقدم مع التخلف، أو صدمة الحداثة مع القدامة، أو صدمة الأنوار الفرنسية مع الظلمات العثمانية.. كانت صدمة كهربائية بكل ما للكلمة من معنى. نقول ذلك على الرغم من كل الضحايا والمجازر البشعة التي حصلت بسبب هذه الحملة الهمجية. وبالتالي فحملة نابليون كانت مزدوجة الوجه: أي إيجابية وسلبية، بيضاء وسوداء في آن معا. فلا ننسى أنه اصطحب معه إلى أرض الكنانة أكثر من 167 عالما ومهندسا وكاتبا ومفكرا. وهؤلاء هم الذين أسسوا «معهد مصر» الشهير الذي أدى إلى نشر الأنوار في تلك البلاد بفضل إدخال العلوم الحديثة لأول مرة وتحسين التقنيات الزراعية والعمرانية.
والواقع أن مشروع نابليون كان طموحا جدا، ولكنه لم يستطع تحقيقه بسبب قصر الوقت. لحسن الحظ فقد جاء بعده مباشرة شخص معجب به جدا هو محمد علي باشا. فهو الذي سينفذ مشروع نابليون ويؤسس نهضة مصر الحديثة. ومعلوم أنه كان محاطا بالخبراء والمستشارين الفرنسيين. بل وهو الذي أرسل البعثات العلمية إلى فرنسا وكان على رأسها مرة رفاعة رافع الطهطاوي.. هل نعلم بأن نابليون هو الذي أسس جهاز الشرطة في مصر، وكذلك المحاكم، والمشافي، والمدارس المدنية والعسكرية؟ ثم وجه خطابه إلى المصريين قائلا بما معناه: «سوف يقولون إني جئت لتدمير دينكم فلا تصدقوهم. إني أحترم دينكم وإيمانكم. وما جئت إلا لمعاقبة المماليك والأتراك الذين اغتصبوا بلادكم. فأنتم أصحاب حضارة عريقة فكيف تقبلون بالخضوع للأتراك العثمانيين؟ آن لكم أن تتحرروا من نيرهم وتستعيدوا أمجادكم الأولى التي أنارت العالم يوما ما». وعلى هذا النحو راح نابليون يهز الشرق ويوقظه من غفوته أو غفلته. راح يوقظه من نومة أهل الكهف وانحطاط القرون. نقول ذلك على الرغم من أنه لم يبقَ في مصر إلا سنة ونصف السنة.
وفي ذات الوقت راح يقوم بالحملات العسكرية الكبرى على أوروبا لكي ينشر فيها أفكار الثورة الفرنسية. وفي لحظة من اللحظات كان يسيطر على كل أوروبا تقريبا. كان سيد العالم بلا منازع. وهكذا نشر أفكار التنوير الفلسفي والسياسي في كل أنحاء القارة بعد أن نشرها في مصر سابقا.
نابليون بونابرت.. سقوط النسر
مائتا عام على هزيمته في واترلو بعد نشره التنوير في مصر ثم أوروبا
نابليون بونابرت.. سقوط النسر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة