«الهلال الخصيب» التركي

41 % من الأكراد حول العالم في تركيا.. وفوزهم يزيد المخاوف من «كردستان الكبرى»

«الهلال الخصيب» التركي
TT

«الهلال الخصيب» التركي

«الهلال الخصيب» التركي

شكل الفوز الكبير لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات التركية هذا الأسبوع علامة فارقة في تاريخ البلاد التي تقف منذ أكثر من ثلاث سنوات على عتبة الحل للقضية الكردية الشائكة، من دون أن تتمكن من تخطيها. فرغم تراجع الخطاب الكردي في تركيا عن مقولة «الاستقلال» و«كردستان الكبرى» أي الوطن القومي الكردي، فإن مخاوف القوميين الأتراك وهواجسهم كبيرة، حيال موقف أكراد تركيا الذين أشغلوا البلاد نهاية العام الماضي نتيجة ما رأوا فيه «تقاعسا» من حكومتهم في السماح لهم بنجدة أشقائهم من أكراد سوريا في كوباني المحاصرة.

ويعتبر أكراد تركيا، الحجر الأساسي لأي كيان كردي مستقل قد ينشأ، باعتبارهم الكتلة الجغرافية، والسكانية، الأكبر في مناطق الوجود الكردي الذي قسمته اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، مع بعض «النكهة» الأرمينية.
وقد قاتل أكراد تركيا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، أملا بكيان مستقل، أو اعتراف بتمايز هويتهم. لكن الأخير انقلب عليهم بعد تأسيس الجمهورية في إطار سعيه لمحو الهوية الثقافية لكافة مكونات الدولة من غير الأتراك. ويعتبر الأكراد، رابع هوية قومية في منطقة الشرق الأوسط، لكنهم لم يكن لهم في أي يوم من الأيام دولة، فبقي حلم الدولة يظهر، ثم ما يلبث أن يتبخر نتيجة الضربات التي يتعرض لها. ولعل ما أسفرت عنه معاهدة «سيفر» في نهاية الحرب العالمية الأولى كان أقرب ما وصل إليه الأكراد. فقد نصت هذه المعاهدة على «تصور» لإقامة دولة كردية، في إطار سعيهم لتقسيم الإمبراطورية العثمانية. إذ نصت في البند 62 على أنه: «إذا حدث، خلال سنة من تصديق هذه الاتفاقية، أن تقدم الكرد القاطنون في المنطقة التي حددتها المادة (62) إلى عصبة الأمم قائلين إن غالبية سكان هذه المنطقة ينشدون الاستقلال عن تركيا، وفي حالة اعتراف عصبة الأمم بأن هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلة وتوصيتها بمنح هذا الاستقلال، فإن تركيا تتعهد بقبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المنطقة». لكن التنازلات التي قدمها الجانب التركي للحلفاء في أماكن أخرى، أسقطت هذا الحلم بعد أربع سنوات في معاهدة لوزان التي أوجدت الحدود الحالية للدولة التركية، فاعترف الأتراك بالانتداب على سوريا ولبنان مقابل تنازلات قدموها لتركيا في الأرض السورية وإنهاء الحلم الكردي.
أما اليوم فيقف أكراد المنطقة على مشارف لحظة تاريخية، لأن أكراد العراق شكلوا ما يشبه «الدولة» وباتوا يتمتعون بالقوة والقدرة الكافية، ويفتقدون فقط إلى الغطاء الدولي. أما أكراد سوريا فهم على الطريق، مع إنشاء مناطقهم الصافية، والتي استلزم تشكيلها بعض عمليات «الترانسفير» للعرب، فيما أكراد إيران يتململون، وقد يتحركون في لحظة ما مع اقتراب اللحظة المفصلية. ويمثل الانتصار الكردي في تركيا خطوة إضافية للأكراد، قد تكون مفتاحا نحو «كردستان الكبرى» أو شكل من أشكالها، أو قد تكون بداية لعهد كردي جديد يعتمد التمايز ضمن الأقاليم، ونوع من الحكم الذاتي، وهو ما عبر عنه زعيم أكراد تركيا عبد الله أوجلان منذ عامين بقوله: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا».
ويحذر الكاتب والمحلل السياسي التركي تأومان عليلي من علاقة أكراد تركيا بأكراد المنطقة «فهنا تكمن المصيبة، لا تنسوا أن حزب العمال وشبيهه حزب الشعوب الديمقراطي دخلوا الحدود السورية كما يدخل مقاتلو داعش لدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يدافع عن بلدة عين العرب من هجومات داعش لأن الاتحاد الديمقراطي يعتبر فكريا وآيديولوجيا الجناح السوري للمنظمة الإرهابية بـ ك ك (حزب العمال الكردستاني)، هدفهم إقامة كردستان الكبرى».
ويشكل أكراد تركيا 41 في المائة من أكراد العالم، بكثير يقارب الـ15 مليون نسمة (20 في المائة من سكان تركيا) وفق تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، رغم أن الأكراد يقولون إن عددهم في العالم يتجاوز الـ50 مليونا وفي تركيا يقارب العشرين. فيما يقترب عددهم في إيران من ثمانية ملايين والعراق من 6 ملايين وسوريا من ثلاثة ملايين. أما وجودهم الأكبر في الغرب، فهو في ألمانيا مع نحو 750 ألف نسمة.
و«الكرد»، كما يطلق الأكراد على أنفسهم، يوجدون في مناطق الجنوب الشرقي، المحاذية لسوريا والعراق وإيران في محافظات هكاري وفان وآغري وبتليس وموش وديار بكر وأورفا وقارس وماردين وبينغول وإيلازيغ وتونجيلي وآدي يمان وارزبخان وغازي عنتاب وملاطيا. وينتمي 70 في المائة من الأكراد في تركيا إلى الطائفة السنية لكنهم يتبعون المذهب الشافعي، في حين أن معظم الأتراك يتبعون المذهب الحنفي، وفيهم نسبة 30 في المائة من العلويين مع وجود أقلية من الشيعة، ويتحدثون جميعا اللغة القرمانية. ويعيش أكراد تركيا، في جنوب شرقي البلاد، ومنها تمددوا إلى مناطق تركية أخرى بفعل الحاجة إلى العمل، التي جعلت - للمفارقة - من مدينة إسطنبول أكبر مدينة يتجمع فيها الأكراد في العالم، إذ يسكنها نحو ثلاثة ملايين كردي. أما الجانب الثاني للهجرة من الجنوب الشرقي للبلاد، فهي سياسة «الترانسفير» التي اعتمدتها السلطات العسكرية التركية، والتي رحلت بموجبها عائلات كردية بأكملها إلى مناطق مختلفة من البلاد
ونتيجة لحركات التمرد التي قامت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أعيد توطين الكثير من الأكراد، ومنع الكثير من الأسماء والأزياء الكردية. كما حظر استخدام اللغة الكردية، وأنكر وجود الهوية العرقية الكردية، وأشير للأكراد باسم «أتراك الجبال».
في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ظهر عبد الله أوجلان على الساحة التركية - الكردية، فأسس في عام 1978، حزب العمال الكردستاني، الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا. وبعد ست سنوات فقط من تأسيسه، حمل الحزب السلاح مع فشله في العملية السياسية وقمع السلطات التركية. وفي التسعينات، تراجع حزب العمال الكردستاني عن مطلب الاستقلال، وطالب بالمزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي، لكنه استمر في القتال. وفي عام 2012. بدأت محادثات السلام بين الحكومة التركية والحزب، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة. وطلب من مقاتلي حزب العمال الكردستاني التراجع إلى شمالي العراق العملية فشلت في وقف نهائي للعنف بين الجانبين رغم أنها خفضت منه إلى حد كبير.
ويعود الفضل في هذا إلى المحادثات التي جرت سرا أولا، ثم علنا، بين جهاز الاستخبارات التركي، وأوجلان في سجنه في جزيرة إمرالي، حيث يقضي حكما بالسجن المؤبد منذ القبض عليه في مطلع التسعينات. وقد توجت هذه المحادثات بالخطاب الشهير الذي وجهه أوجلان من سجنه إلى أكراد تركيا في «عيد النوروز» وقال أوجلان في رسالته: «اليوم نصحو على تركيا جديدة في شرق أوسط جديد، وهذا يعني أننا نبدأ مرحلة جديدة في تاريخنا. لقد قدمنا الكثير من التضحيات العظام، وترتب على هذا النضال خلق الهوية الكردية من جديد». وأضاف: «نقول لشعوب المنطقة من عرب وفرس وأتراك وأكراد يكفينا قتل بعضنا بعضا، يجب علينا أن ننتبه من هذه الحرب القذرة التي تخاض ضدنا، أما لملايين من الناس فأقول إننا بدأنا مرحلة جديدة، مرحلة تقدم السياسة على السلاح، وهذا ليس نتيجة وإنما بداية مرحلة».
ورأى أوجلان أن شعوب الأناضول مع الأكراد من حقهم العيش بسلام، ولهذا ستكون المرحلة الجديدة مرحلة الحقوق الديمقراطية والحريات والمساواة». وقال: «فلتسكت أصوات الرصاص، وليقف نزيف الدم التركي الكردي، ولنفتح الباب أمام السياسة». وتوجه إلى مقاتلي الكردستاني بالقول: «أناشدكم ترك السلاح والانسحاب إلى خارج الحدود والتحول من الكفاح المسلح إلى الكفاح الديمقراطي». وأردف قائلا: «الزمن ليس زمن القتال والحرب، بل زمن الاتفاق والمسامحة واحتضان بعضنا بعضا»، معتبرا أن «هذا لا يعني أننا تركنا الكفاح والنضال، لكننا استبدلنا نوعا آخر من النضال به».
وحول التعامل مع فكرة «كردستان الكبرى» قال أوجلان: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا، لكي نقيم معا نظاما ديمقراطيا يليق بعصرنا».
ولا شك في أن تركيا، بدأت بمقاربة جديدة للملف الكردي في تركيا، بعد نحو 30 سنة من الحروب التي ذهبت بنحو 40 ألف قتيل من الأتراك والأكراد جراء اعتماد الحكومات التركية المتعاقبة «الحل العسكري» للأزمة. فبعد سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بدا واضحا أن الجذور الإسلامية للحزب تلعب دورا كبيرا في ردم الهوة بين الطرفين، لأن العدالة والتنمية قارب المسألة الكردية من زاوية «الأخوة الإسلامية»، محققا بذلك اختراقا لافتا للمجتمع الكردي المتماسك، وبات الحزب يضم الكثير من القيادات الكردية في صفوفه، وشارك حزب «السلام والديمقراطية» وخليفته على الساحة الكردية الشعوب الديمقراطي في تمثيل أكراد تركيا في البرلمان والمجالس المحلية.
ويرى الكاتب في صحيفة «زمان» التركية علي بولاج إيجابية كبيرة في تخطي الأكراد الحاجز النسبي ودخولهم البرلمان، معتبرا أن من النتائج المباشرة لهذه العملية أن حزب الشعوب الديمقراطي سيتمكن من إعادة هيكلة السياسة الكردية من خلال نجاحها. وبالتالي ستفقد طريقة استعمال العنف أهميتها. وأن أصوات الأغلبية الكردية التي تلعب دورا فعالا في الحركة السياسية الكردية ستتّحد مع الرأي العام التركي. وسيسعى الأكراد لحل مشاكلهم بالطرق الديمقراطية. ويعتبر أن تحقيق ذلك مهم بالنسبة لمستقبل تركيا خاصة والمنطقة عامة. فالحركة الكردية إما أن تتكامل مع تركيا أو تندفع نحو الانفصالية.
ويشير بولاج إلى أن الحركة الانفصالية الكردية تختلف عن مثل التي في إسبانيا وآيرلندا في أن الحركات السياسية في هاتين الدولتين كانت سياسية إيجابية ثم تحولها إلى سلبية بسبب فشل السياسة الإيجابية. لكن السياسة الكردية في تركيا على العكس من ذلك. إذ اختارت الطريقة السلبية أولا ثم انتهجت السياسة الحزبية الإيجابية بعد مرحلة منذ مطلع التسعينات. ولذلك فإن أحزاب الحركة السياسة الكردية مضطرة لتبني استراتيجية وأولويات العمال الكردستاني المسلحة. وهذا تعبير عما يجري على أرض الواقع في السياسة الكردية والمشكلة الكردية في تركيا. ويقول بولاج: «لقد وصلنا إلى مرحلة بات الجميع يدرك فيها أن الدولة التركية ولو استخدمت كل إمكاناتها لا تستطيع توجيه الحركة السياسية الكردية وفق ما يحلو لها. وهذا ما قاله رؤساء أركان الجيش في السابق. كما أصبح العمال الكردستاني على يقين بعدم إمكانية بلوغه مبتغاه باستخدام السلاح إلى النهاية.. وهنا ظهرت الحركة السياسية الكردية الإيجابية أي حزب الشعوب الديمقراطي، وقد تبين أن لهذا الحزب قاعدة إقليمية ودولية قوية.
ويوضح بولاج أن هناك رأيين مهمين بين الأكراد. يقول أولهما أنه «لا يمكن للأكراد أن يتخلوا عن تركيا، ولكن في نفس الوقت لا يمكن قبول الوضع الراهن الذي فرضته دولة تركيا على الأكراد منذ تأسيس الجمهورية التركية. وبالتالي علينا أن نحل مشاكلنا تحت سقف تركيا الواسع». أما الرأي الآخر فيقول «إن ما توصلنا إليه من خلال الكفاح المسلح لا يمكن أن يتقدم أكثر من هذا الحد. ويجب بعد هذه المرحلة أن نعتمد على السياسة القانونية بعد ما حققناه حتى الآن. وسنعمل على حل مشاكلنا تحت سقف البرلمان من خلال حملة ديمقراطية قوية».
لكن في المقابل، يرى تأومان عليلي، وهو من حزب الحركة القومية المناهض للأكراد أن السبب وراء الفوز الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي كان تركيزهم على إحلال السلام في البلاد، وكأن البلاد تعيش حربا بين مكوناتها من الإثنيات. ويعتبر أن الحقيقة التي يحاول إخفاءها هي أن ما يجري في تركيا أن قوات الأمن كانت تلاحق منظمة إرهابية انفصالية في الجبال. ويشدد على أن هؤلاء لم يكونوا مدعومين من الشعب والدليل على هذا أن النسبة التي أخذها حزب الشعوب الديمقراطي لم تكن جميعها من الأكراد وأعلن هذا جليا صلاح الدين ديمرتاش حين قال إن الناخب التركي أقرضنا أصواته ولن نخيب آماله. ورأى أن هذا الدور تبدل منذ أكثر من عشر سنوات مع مجيء حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم حيث بدأت المنظمة الإرهابية بإبدال الدور التخريبي المسلح بالدور التخريبي السياسي بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي وما أغلق من قبله من أحزاب ذات نمط عرقي إثني.
وشدد على أن حزب الشعوب الديمقراطي هو الجناح السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تعتبره تركيا «منظمة إرهابية»، والدليل على هذا أن الحزب قبل أن يتخذ أي قرار يقوم بزيارة جزيرة إمرالي والاجتماع بعبد الله أوجلان ومن ثم يعلنون خريطة طريقهم، هذا بعلم وتنسيق وموافقة من حزب العدالة والتنمية الحاكم حيث يعطي تعليماته للمخابرات لإدارة وتنسيق العملية.
ورأى عليلي أن دخول تخطي حزب الشعوب الديمقراطي الحاجز النسبي يعني دخول تنظيم «حزب العمال الكردستاني» المحظور للبرلمان والتحكم في مستقبل البلاد حيث أصبحوا الطفل المدلل في أي حكومة ائتلاف ستشكل. واعتبر أن الخطوة الأولى التي ستقوم بها هذه القوة التي تمثل «الإرهاب» هي تغيير الدستور حسبما يريدون ولهذا سيكون الشرط الأول هو رفع كلمة «ترك» من الدستور واستبدالها بكلمة الشعوب التي تسكن تركيا، كما إضافة كلمة «الشعب الكردي» إلى «الشعوب التي تشكل المجتمع في تركيا»، والشرط الثاني هو خفض نسبة الحاجز النسبي لدخول البرلمان في البلاد إلى 5 في المائة أو 3 في المائة، لكي يضمنوا البقاء في البرلمان، ويفتحوا المجال للآخرين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.