مع تواصل كفاح أوروبا مع نصيبها المقسوم من مشكلات المهاجرين القادمين من أفريقيا والشرق الأوسط، الفارين جراء الحرب والفقر والاضطهاد في أوطانهم، تتبدى على الجانب الآخر من العالم في جنوب شرقي آسيا أزمة جديدة للاجئين؛ حيث يخاطر المئات، بل والآلاف من المهاجرين بحياتهم على قوارب يعبرون بها إلى الدول المجاورة غير المرحبة بهم.
يغامر المئات والآلاف من مسلمي طائفة الروهينغيا في ميانمار وأصحاب الفقر المدقع في بنغلاديش بأرواحهم في قوارب تجوب بحر اندامان، وصولا إلى سواحل تايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا، محاولين الدخول إلى تلك البلدان المذكورة بحثا عن حياة أفضل.
الفارق الوحيد بين هاتين الهجرتين هو، على العكس من الاتحاد الأوروبي، أن مجموعة دول الآسيان (رابطة دول جنوب شرقي آسيا)، تعمل على طرد اللاجئين إلى أوطانهم خشية زيادة وطأة الأعباء الأمنية، والمالية، أو وقوع أزمة إنسانية، ولا يقدمون إلا النذر اليسير لمجرد مناقشة الوصول لحل دولي لأزمتهم.
ظلت الحدود التايلاندية – الماليزية - الإندونيسية، ولسنوات طويلة، نقطة عبور رئيسية للمهاجرين غير الشرعيين، الذين يستخدمون سبيلا معروفا جيدا، ويغادرون على متن قوارب متهالكة عبر بحر اندامان وخليج البنغال إلى بحار تايلاند، ثم إلى سواحل ماليزيا. يأتي اللاجئون من المجتمعات المسلمة في ميانمار المعروفون باسم الروهينغيا. كما تتوافد أعداد كبيرة من المهاجرين لأسباب اقتصادية من بنغلاديش، مما يزيد الأزمة تعقيدا.
ولكن هذا العام، ومع الحقائق المروعة التي تتكشف من السفن الغارقة والوفاة الناجمة عن سوء التغذية مع فرار المهربين من شحناتهم البشرية في البحر والمعسكرات، وزيادة نشاط الدوريات من قبل حكومات ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا على الطرق البرية المعتادة والحملات التي تشنها على شبكات التهريب، فإن أزمة اللاجئين استرعت اهتماما وانتباها دوليا كبيرا.
كما تم العثور على مقابر جماعية مؤخرا في ماليزيا بالقرب من الحدود مع تايلاند، مما يضيف إلى سلسلة المقابر المكتشفة بالفعل في تايلاند، وزاد من انخراط العالم في أزمة اللاجئين هناك.
سبب الأزمة
إن الأسباب معقدة ومتشابكة. بدأت المشكلة في ميانمار أو بورما، المستعمرة البريطانية السابقة، التي تسم سكانها من الروهينغيا البالغين 1.3 مليون نسمة بـ«الأجانب التابعين لبنغلاديش» المجاورة، وتفرض عليهم قيودا قمعية قاسية وتحرمهم من حق المواطنة، على الرغم من أن كثيرا منهم تعود أصولهم إلى أجيال سابقة.
وساءت الأمور منذ 2012 حينما أسفرت الاشتباكات مع البوذيين عن مقتل 200 شخص، وترك عشرات الآلاف من مسلمي الروهينغيا أسرى مخيمات اللاجئين المتواضعة. وهم لا سلطة لهم في البلاد ذات الأغلبية البوذية، وبالتالي يفرون من التمييز على يد أغلبية ميانمار من البوذيين والاضطهاد الحكومي خوفا على حياتهم.
ومع ذلك، فإن لاجئو بنغلاديش الذين يمرون من الطرق البحرية الخطيرة سعيا للجوء السياسي يفعلون ذلك هربا من الظروف الاقتصادية الطاحنة في بلادهم. وبالتالي، فإن السبب الأساسي لمآسي المهاجرين هو مواقف وسياسات الدول المعنية بالأزمة، بنغلاديش وميانمار على وجه التحديد.
ثانيا، يتلقى شركاء ميانمار من رابطة دول الآسيان قدرا من اللوم كذلك، كما يقول النقاد، لتوفير عامل «الجذب»، متجاهلين الطريقة التي يصل بها المهاجرون غير الشرعيين إلى بلادهم، ويستغلونهم في العمال الرخيصة ويمنعون عنهم أبسط حقوق الحماية الأساسية.
يقول البروفسور سي. ماهاباترا من جامعة دلهي: «الآن وبعد تفاقم المشكلة، يسلط الضوء على الحكومات للتصرف». ويعتقد أن المسؤولين الفاسدين في كثير من بلدان رابطة دول الآسيان يساعدون في تسهيل تدفق اللاجئين غير الشرعيين.
ويجني تجار البشر الجشعون بصورة متزايدة كثيرا من الأرباح، حتى إنهم تحولوا مؤخرا إلى توفير المرور المجاني لبعض المهاجرين. إن فشل كثير من دول رابطة الـ«آسيان» في الالتزام بالعهود الدولية لحقوق الإنسان، ونقص التكامل بين مسؤولي إنفاذ القانون هناك والنظم القانونية المختلفة، أدى إلى انفجار الأزمة.
يقول راجا موهان، وهو معلق سياسي مقيم في دلهي: «لسنوات عدة، أدى اضطهاد وحرمان الروهينغيا، إلى تفكير عائلات بأسرها في أنهم لا خيار أمامهم سوى محاولة الهجرة إلى دول أخرى. يتعين على ميانمار إيقاف الاضطهاد بحق الروهينغيا، وكذلك يجب أن تهدأ الظروف القهرية للغاية في بنغلاديش، كما ينبغي مواجهة الاتجار في البشر والفساد من قبل الحكومات فقط»، مضيفا أن كل الدول الكبرى، ومن بينها الدول ذات النفوذ والتأثير على ميانمار مثل كندا والولايات المتحدة، شاهدت الحكومة وهي تمارس الاضطهاد بلا هوادة ضد الروهينغيا، وتجبرهم على مغادرة منازلهم إلى معسكرات الاعتقال، وتحرمهم من حقوق مثل التعليم والوظائف والرعاية الصحية.
في الوقت ذاته، فإن رابطة الـ«آسيان» التي تعد ميانمار أحد أعضائها، لديها واحد من المبادئ الأساسية لعدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء بالرابطة. وقد واجهت المنطقة الانتقادات حيال دبلوماسيتها الخجولة، خصوصا فشلها في كبح ما يعرف بأنه الإساءة المنظمة من الأغلبية البوذية تجاه أقلية الروهينغيا المسلمة غير المرغوب فيهم، مما دفع الآلاف من الأقلية المسلمة للفرار نحو الخارج. تصر ميانمار على أن الروهينغيا من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من بنغلاديش المجاورة وأنها غير مسؤولة عنهم.
وتعجز رابطة دول الـ«آسيان» عن فرض إرادتها السياسية، خصوصا بالنظر إلى التحدي الجديد من واقع أن إحدى دول الرابطة - ميانمار - تعد من أكبر مصادر اللاجئين، حسبما يقول المحللون.
يقول البروفسور غولشان ساشديفا من دلهي، وهو مختص في دراسات كتلة الـ«آسيان»: «الآن عادت المشكلة لتؤرق كتلة الـ(آسيان) منذ أن غضت الطرف عن مجازر ميانمار ضد الروهينغيا. هناك كثير من طبقات التعقيد تشوب تلك الأزمة، ومن بينها سياسة عدم التدخل وعدم انتقاد الحكومات الأعضاء في الرابطة بأساليب أرست لسوابق لا توفر الارتياح للدول الأعضاء. ويبدو أن الرابطة غير مستعدة للتعامل جديا مع قضية المهاجرين».
ونقلت صحيفة «بانكوك بوست» عن ألان تشونغ، من كلية «سان راجاراتنام للدراسات الدولية»: «للعمل على تعزيز عامل (الدفع)، يبدو أن رابطة الـ(آسيان) سوف تنتهج سياسة الدبلوماسية الهادئة التي تحفظ ماء وجه حكومة ميانمار. ومع زيادة الاستثمارات القادمة من جنوب شرقي آسيا منذ الانفتاح السياسي لميانمار في عام 2011، فإن البلاد قد تكون عرضة بصورة متزايدة للنفوذ الخارجي».
الموانع
واجهت كل من ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند الانتقادات الدولية لطرد السفن المليئة بمئات المهاجرين المرضى والجوعى، مما يبدو أنه قلق من أن تكون رسالة إيجابية لمجيء المزيد من المهاجرين. يوجد حاليا في ماليزيا أكثر من 45 ألف لاجئ من مسلمي الروهينغيا وطالبي اللجوء السياسي، وفقا لوكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
يقول السيد انيفا، وزير الشؤون الخارجية الماليزي: «قلت مسبقا إننا لا نستطيع قبول المزيد منهم، حيث إن أعدادا كبيرة موجودة على أراضينا بالفعل، وحتى الآن لا توجد دولة تريد استقبالهم». وقال برايوث تشان أوشا، رئيس وزراء تايلاند، إن بلاده ليست لديها القدرة على التعامل مع تدفق المهاجرين، و«من أين نوفر لهم الميزانية؟».
يقول سيد حامد البار، وزير خارجية ماليزيا الأسبق ومبعوثها الحالي في قضية الروهينغيا لدى منظمة التعاون الإسلامي: «إذا استقبلت دول المنطقة لاجئي الروهينغيا، فسوف تصل الرسالة وتتشجع ميانمار على طرد المزيد من سكان تلك الأقلية خارج البلاد»، وفقا لصحيفة «ستريت تايمز».
ويسعى لاجئو الروهينغيا حاليا إلى التأقلم على حياة اللجوء في مخيم «بيرم باين» بمنطقة آتشيه الشرقية بإندونيسيا، الذي نقلتهم إليه الحكومة الإندونيسية، عقب انتشالهم من عرض البحر الذين كانوا عالقين فيه، بعدما تخلى عنهم المهربون الذين وعدوهم بإيجاد عمل لهم في ماليزيا وتايلاند، مقابل مبلغ من المال. ووزعت السلطات الإندونيسية، ملابس وأغذية على اللاجئين الذين يعانون من مشكلات صحية نتيجة بقائهم فترة طويلة في البحر، حيث يخضعون لرعاية طبية في المخيم. وأوضح اللاجئ محمد راشد، الذي وصل للمخيم قبل أيام، أنه كان عالقًا في البحر منذ 4 أشهر، بعدما تعرض للطرد من ميانمار «بقوة السلاح» مضيفًا: «نُقلنا عبر قوارب إلى سفينة تنتظر في البحر بين بنغلاديش وميانمار، على شكل دفعات مؤلفة من 13 شخصًا».
وأردف راشد: «كنا في السفينة 450 شخصًا، واستطعنا البقاء على قيد الحياة عبر تناول 10 كيلوغرامات من الأرز فقط. قبطان السفينة البوذي تركنا، وأنقذنا صيادون إندونيسيون». وذكر مسؤولون إندونيسيون أنهم نقلوا 357 روهينغيًّا بينهم 84 طفلاً، إلى مخيم «بيرم باين» الذي أقيم حديثًا في آتشيه الشرقية.
وحتى الآن لا توجد معلومات دقيقة حول عدد العالقين في عرض البحر، من المهاجرين الروهينغيين والبنغال، حيث أفادت بعض الأنباء سابقا أن عدد المهاجرين الذين تركهم مهربو البشر عالقين في البحر بلغ قرابة 4 آلاف مهاجر، بينما أعلنت مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين في وقت سابق، أن عددهم بلغ 2000 مهاجر.
الحالة الراهنة والحلول الممكنة
بعد المزيد من الضغوط الدولية والانتقادات، وافقت رابطة الـ«آسيان» على العمل معها ومحاولة إيقاف أزمة المهاجرين في المنطقة.
وافقت الدول على تكثيف عمليات البحث والإنقاذ فضلا عن التعامل مع الأسباب الجذرية لمشكلة الهجرة من خلال مؤتمر إقليمي يعقد في بانكوك. وصرحت كل من ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا، التي عارضت من قبل استقبال اللاجئين، بأنها سوف تستمر في توفير الملاجئ المؤقتة للمهاجرين، شريطة أن يعيد المجتمع الدولي توطينهم أو إجلائهم في غضون عام.
في الأثناء ذاتها، وفي أول محاولة دولية حقيقية للوصول إلى حل جماعي ومستديم لأزمة الروهينغيا، أو تحريا للدقة، الاجتماع الخاص حول الهجرة غير النظامية في المحيط الهندي (كما يعرف نظرا لتهديد ميانمار بعدم الحضور إذا ما استخدم اسم «الروهينغيا») الذي عقد يوم 30 مايو (أيار) الماضي في بانكوك، فقد شاركت فيه 17 دولة، ومن بينها مجموعة دول رابطة الـ«آسيان»، وأستراليا، وممثلون عن المنظمات الدولية مثل وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة.
ومع مشاركة كثير من الدول - ومن بينها ميانمار – فإن هذا يعد تقدما ملحوظا في حد ذاته. وكانت أكثر النتائج تشجيعا هو الإجماع العام على مواصلة استمرار تلك المناقشات. ورغم ذلك، لم يسفر الاجتماع عن أي حلول كبرى، واتفقت الوفود المشاركة على مواصلة المباحثات والاستعداد حاليا لتوفير الإنقاذ والمأوى المؤقت للاجئين. وجاءت الجهود السابقة بلا نتائج تذكر نظرا لعدم مشاركة ميانمار فيها.
وقد أقرت ميانمار بالمخاوف الدولية حيال ركاب القوارب المهاجرين، ولكنها رفضت تلقي اللوم إزاء ذلك بمفردها. كما وافقت بنغلاديش أيضا على التعامل مع الجذور الأصلية للأزمة والعمل بالتنسيق مع رابطة الـ«آسيان». ويأمل وزير الخارجية الماليزي داتوك سيري انيفا أمان، في الوصول إلى خطة تقدم إلى دول رابطة الـ«آسيان» العشر التي تترأس ماليزيا دورتها الحالية. وتعهدت الولايات المتحدة الأميركية بمبلغ 3 ملايين دولار وتعهدت أستراليا بمبلغ 4.6 مليون دولار في حزمة للمساعدات الإنسانية في ميانمار.
في الوقت ذاته، قالت الفلبين إنها على استعداد للمساعدة في أزمة مهاجري القوارب، مما يزيد من الآمال لوصول إلى حل ممكن حيث يطرد جيرانها المهاجرين بعيدا.
حتى الولايات المتحدة عرضت استقبال بعض من أكثر الضحايا تضررا، مما يعد اختبارا حقيقيا لرابطة الـ«آسيان» البالغة من العمر 48 عاما، فعليها العمل بصفتها رابطة لها صوت واحد، وإلا سوف تبعث برسالة شديدة السلبية. وتحت حكم التاريخ، فإن تلك الالتزامات طويلة الأجل، خصوصا من الناحية المالية، غالبا ما تواجه التعقيد في منتصف الطريق حينما لا توجد تغطية إعلامية مناسبة للقضية، إلى جانب الديناميات المحلية المجتمعية؛ حيث إن الأموال المتعهد بها في اجتماع بانكوك ضئيلة للغاية، وهناك حاجة إلى مزيد في المستقبل.
تأتي تلك الأزمة بوصفها أكبر اختبار تواجهه رابطة الـ«آسيان» منذ حرب فيتنام، حتى لو استطاعت الرابطة حماية حياة المهاجرين، وإلى أي مدى يمكن للرابطة مواجهة أحد أعضائها في هذه القضية، وفي هذه الحالة هي ميانمار. إن الرهانات عالية، نظرا للاهتمام العالمي والأزمة المتفاقمة، واحتمال وفاة كثير من المهاجرين إذا لم تستقبلهم أي دولة من دول الجوار.