تحتفل فرنسا هذه الأيام، بمرور سبعين عاما على تحررها من الاحتلال النازي وسقوط هتلر 1945 - 2015. وبطبيعة الحال، فإن ذكرى ديغول، بطل التحرير، تشغل وسائل الإعلام. لذلك عرض التلفزيون أفلاما سينمائية عنه وعن شخصيته الفذة. من المعلوم أن الرجل الذي بنى فرنسا الحديثة بعد أن أنقذها من براثن الاحتلال الألماني، كان يمثل إحدى أهم شخصيات فرنسا على مر العصور. ولا يتردد البعض في القول، بأنه آخر فرنسي عظيم، أو أحد الخمسة الكبار في تاريخ فرنسا على مر العصور.
ويبدو أن ديغول كان منذ صغره ميالا إلى التمرد والمعارضة، وكان ذا شخصية متميزة. وقد لاحظ والده ذلك، إذ لم يكن إخوته الآخرون مثله. كانوا طيّعين لا مشاغبين. وهذا ما سيتيح لديغول لاحقا، امتلاك سمات الزعامة والقيادة، لأن الشخص الذي لا يتجرا على أن يقول (لا) في الوقت المناسب، لا يمكن أن يصبح قائدا.
دخل ديغول الجيش وتخرج ضابطا من الكلية العسكرية الشهيرة، سان سير. وانخرط بعدها في الحرب العالمية الأولى سنة 1914. وكان في الرابعة والعشرين آنذاك. وقد جرح أثناء الحرب. وكان قائده آنذاك، شخصا يدعى فيليب بيتان. وسوف يلتقيان بعدئذ بشكل متعاكس أثناء الحرب العالمية الثانية.
والواقع أنهما سوف يتخذان موقفين متناقضين تماما، على عكس ما حصل أثناء الحرب العالمية الأولى. فالماريشال بيتان تعامل مع الألمان وأصبح رئيسا للبلاد في ظل الاحتلال، بعد أن خضع لهتلر وصافحه تلك المصافحة الشهيرة في القطار. في حين كان ديغول العدو اللدود للاحتلال النازي. وقد رفض الاعتراف بهزيمة فرنسا، وقال (لا) للنازية والفاشية في ندائه الشهير الذي وجهه إلى الشعب الفرنسي من راديو لندن بتاريخ 18 يونيو (حزيران) 1940. وبدءا من تلك اللحظة أصبح مشهورا وقائدا لفرنسا الحرة.
في البدء كانت الكلمة. من قال بأن الكلام لا يفيد؟ ولكن ليس أي كلام، ينبغي أن تتجرأ عليه وأن تخاطر بنفسك في اللحظة المناسبة. هناك كلام له معنى، وهناك ثرثرات أو لغو الكلام. وفيه وردت تلك العبارة التي ذهبت مثلا: «لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب. شعلة المقاومة الفرنسية لم تنطفئ ولن تنطفئ أبدا».
دعا ديغول الفرنسيين إلى مقاومة المحتل النازي بشتى الوسائل، وعدم الخنوع والاستسلام. ففرنسا لم تعرف ذلا في حياتها كلها كما عرفته في ذلك الوقت. فقد راح هتلر يتبختر على جادة الشانزلزيه أو تحت برج إيفل وهو محاط بجنرالاته الفاتحين، بعد أن انتصر على العدو التاريخي ومرغ كرامته في الوحل. ولكن من يعلم أن سوريا كانت في الوقت ذاته، تئن تحت نير الاستعمار الفرنسي وغطرسته؟ وهكذا صحت كلمة الشاعر بدوي الجبل: وما ظالم إلا سيبلى بأظلم، شامتا بفرنسا والفرنسيين في قصيدة مطلعها:
يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا
رقّ الحديد وما رقوا لبلوانا
إلى أن يصل إلى:
سمعت باريس تشكو زهو فاتحها
هلا تذكرت يا باريس شكوانا
عشرين عاما شربنا الكأس مترعة
من الهوان فعبّي صرفها الآنا
ما للطواغيت في باريس قد مسخوا
على الأرائك خداما وأعوانا
المهم أن ديغول انتصر على هتلر في نهاية المطاف وعاد إلى فرنسا محررا ظافرا. وقد تسلم حكم البلاد لمدة عامين بين سنتي 1944 - 1946. لكنه ترك السلطة بعدئذ من تلقاء ذاته، عندما وجد أن الأحزاب الفرنسية وكذلك الشخصيات السياسية تتصارع على المكاسب والمصالح الشخصية، وتنسى المصلحة العامة للبلاد. قال عندئذ، كلمته الشهيرة أمام وزرائه قبل أن يترك الحكم مباشرة: «أيها السادة، لا يمكن للمرء أن يكون رجل الأعاصير الكبرى ورجل الحرتقات الصغيرة في آن معا. أنا شارل ديغول ولست سياسيا عاديا. وبالتالي فسوف أترك الحكم بدءا من هذه اللحظة، لأنني لا أستطيع أن أنفذ سياستي لمصلحة الوطن في مثل هذه الظروف الدنيئة». وكان ديغول يقصد بعبارته السابقة أنه قاد فرنسا في زمن الإعصار عندما كانت محتلة من قبل الألمان. وبالتالي فلا يستطيع أن ينزل إلى مستوى «السياسويين» الصغار الذين يتنافسون على القشور والمناصب والمكاسب.
ثم عاد الجنرال ديغول إلى قريته لكي يعيش إنسانا عاديا، ثم ليتفرغ للتأمل والتفكير وكتابة مذكراته. وقد كان كاتبا حقيقيا، جمع بين مجد القلم ومجد السيف. اقرأوا مذكراته فلها أسلوب أدبي لا يستهان به. وهذه الفترة من حياته تدعى فترة: «عبور الصحراء»، أي فترة الابتعاد عن السياسة أو الحرمان من السلطة. وقد استمرت مدة اثني عشر عاما: أي من عام 1946 إلى عام 1958، تاريخ عودته إلى الحكم وتأسيسه للنظام الجديد المدعو بنظام الجمهورية الخامسة، وهو النظام الذي ما يزال سائدا إلى الآن.
أما قبله فكانت الجمهورية الرابعة هي السائدة، وهي من أتفه الأنظمة التي مرت على فرنسا. فقد كانت الحكومات تتساقط فيها كل سنة أو سنتين أو حتى كل بضعة أشهر. ولم يكن هناك أي استقرار سياسي في البلاد، لذلك فإن ديغول كان يكرهها ويرفض التعامل معها بأي شكل. ومن بين رؤساء الوزارات في تلك الفترة، نذكر غي موليه سيئ الذكر، الذي شارك في العدوان الثلاثي على مصر.
وعندما اندلعت الأزمة الجزائرية فشلت الجمهورية الرابعة في مواجهتها أو حلها. واضطر «غي موليه» وسواه من الزعماء السياسيين إلى الذهاب إلى ديغول في قريته الصغيرة لاستشارته. ثم الطلب إليه برجاء، أن يقبل العودة إلى الحكم من أجل حل هذه المعضلة التي عجزوا عن حلها. وهكذا عاد إلى السلطة عام 1958 لإنقاذ فرنسا مرة أخرى: ولكن هذه المرة من ذاتها. أي من المستنقع الاستعماري للجزائر لا من الاحتلال النازي. فسمعة فرنسا كانت قد تشوهت بسبب تلك الحرب الاستعمارية القذرة التي دمرت البلاد والعباد، وأدت إلى سقوط مئات الآلاف من القتلى والشهداء.
وعندئذ عرف ديغول أن الحل الوحيد للمشكلة هو القبول باستقلال الجزائر، في وقت كان معظم قادة فرنسا آنذاك، يرفضون هذا الحل ويتمسكون بما يدعونه: الجزائر الفرنسية. وينبغي الاعتراف بأن أغلبية الشعب كانت معهم. وعندئذ وقع ديغول في صدام مع الجميع تقريبا، وبخاصة مع اليمين المتطرف و«منظمة الجيش السري» الرهيبة والفتاكة، التي حاولت اغتياله أكثر من مرة ونجا منها بأعجوبة. واستطاع أن ينتصر عليهم في نهاية المطاف، وينسحب من الجزائر، ويعيد لفرنسا سمعتها وهيبتها الدولية، وكرامتها التي مرغها الاستعماريون في الوحل. ثم انخرط في بناء فرنسا الحديثة على الأصعدة والمستويات كافة. اتبع سياسة خارجية متوازنة، سواء فيما يخص الصراع العربي - الإسرائيلي، أم فيما يخص حرب فيتنام التي أدانها، أم فيما يخص الاستقطاب الدولي بين القوتين الأعظم. وأثبت ديغول أنه شخصية تاريخية قادرة على مواجهة الأعاصير والأزمات الكبرى بكل رباطة جأش. لكن، هل نعلم أن مشكلة الجزائر أرعبته وكسرت ظهره أكثر من مشكلة هتلر والاحتلال الألماني لباريس؟ من يصدق ذلك؟ والسبب هو أنه في الحالة الثانية، كان في صدام مع عدو خارجي. أما في الحالة الأولى فكان صدامه مع عدو داخلي: أي مع الفرنسيين أنفسهم أو قسم كبير منهم. فقد كانوا متعلقين جدا بالجزائر ومتشبثين بها كحق من حقوقهم. لذلك اتهموا ديغول بالخيانة والتفريط بالأرض الفرنسية والتراب الوطني. هكذا وجد نفسه في حيص بيص كما يقال. ولكن القائد التاريخي ليس ذلك الذي يتبع الشعب أو يمشي خلفه بشكل أعمى في كل شيء. وإنما ذلك الذي يتجرأ على أن يقول (لا) حتى للشعب. هنا تكمن عظمة ديغول في الواقع، من دون أن نقلل إطلاقا من عظمته إبان الحرب العالمية الثانية في مواجهة النازيين. فالصراع مع الداخل (أي مع الذات)، من أخطر أنواع الصراعات إن لم يكن أخطرها بإطلاق. بمعنى آخر، فقد كان ديغول رؤيويا شفافا يرى إلى البعيد أو بعيد البعيد. وهنا تكمن السمة الأساسية للقادة الكبار. هنا يكمن الفرق بين القائد التاريخي- والسياسويين الانتهازيين الصغار. فيما بعد أدرك الشعب الفرنسي أن زعيمه كان على حق ضد الجميع تقريبا، وأنه كان يشتغل لمصلحة الشعب ضد الشعب. هذا الجانب نادرا أن يتحدث عنه أحد، رغم أنه في رأيي أكبر دليل على عظمة ديغول. فالعظمة ليست أن تكون ضد الآخرين (هذا شيء سهل)، وإنما ضد نفسك أيضا. العظمة هي أن تكون ضد جماعتك وطائفتك وعصبيتك إذا لزم الأمر، وليس ضد العصبيات الأخرى، لأن هذا شيء غريزي، سهل، تحصيل حاصل. متى سيفهم المثقفون العرب هذه الحقيقة؟ متى سيظهر ديغول عربي؟ متى سيظهر شخص ينقذ العرب من أنفسهم: أي من انغلاقاتهم المزمنة وتراكماتهم؟
ديغول.. زعيم انتصر على الذات قبل انتصاره على الآخرين
فرنسا وإعلامها منشغلان بالرجل الذي واجه الشعب وكان على حق
ديغول.. زعيم انتصر على الذات قبل انتصاره على الآخرين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة