من الطبيعي أن يحاول مهرجان «كان» دعم صناعة الفيلم الفرنسي فيختار عددا منها في المسابقة وعددا آخر خارجها وينتقي، ما بين عام وآخر، فيلما فرنسيا للافتتاح أو آخر للختام. المشكلة هي أن هذا الاختيار مرتبط بشبكة علاقات تجارية كون فيلم الافتتاح، بصرف النظر عن هويته، بات تمهيدا لعرض الفيلم في اليوم التالي.
«رأس مرفوع» هو اختيار «كان» هذا العام وقد عرض يوم أول من أمس (الأربعاء) مرّتين، مرّة في الصباح للنقاد والصحافيين ومرّة في العرض الرسمي للضيوف والسينمائيين. وهو واحد من ثلاثة أفلام عرضت في هذا اليوم الأول و- رغم كل الجهد المبذول فيه - أضعفها.
يبدأ «رأس مرفوع» وبطله مالوني في السادسة من العمر. هاهي أمه تأخذه من يده إلى مكتب قاضية شؤون الأحداث فلورنس (كاثرين دينوف). من البداية ندرك أن الصبي مصاب بعارض عاطفي - نفسي يجعله يميل إلى الشراسة في التصرّفات، وفي سياق الفيلم سيتأكد لنا ذلك، فهو لا يتحمّل السُلطة. يريد الخروج عنها ولا يهاب ذلك. يتابع الفيلم عشر سنوات من حياة مالوني نراه فيها يترعرع على عدائه ذلك منحرفا نحو جرائم السرقة. لا نعرف ما الذي حدث له فعليا لكي يصبح أكثر حدّة وعدائية من ذي قبل، لكننا نرى القاضية فلورنس وهي تحاول مساعدته أكثر من مناسبة. مالوني الصغير نما أعوج السلوك ويبدو أنه لن يستطيع الاستقامة مطلقا.
يرمي الفيلم لنقد الأم لكنه نقد مظهري لا أجوبة عميقة فيه. كل شيء هو هكذا لأنه مقدّم على هذا النحو وليس لأن الأحداث تؤول إليه. في النهاية، وبعد أن يصبح الشاب أبا هناك أمل جديد، لكن مالوني لا يزال الشخصية المحورية التي لا يريد الفيلم تقديمها على نحو يساعد على فهمها بل يكتفي بعرض ما هي عليه.
تلتقط المخرجة إيمانويل بيركو خيطا من خيوط الإخراج الواقعي المنتشرة هذه الأيام، ما يقضي بأن تخصص أكثر من نصف ساعة في البداية خلال المقابلة الأولى التي تتم بين القاضية والصبي وأمه. هذا بالتالي يفرض حوارا لا ينتهي تستقبله مثل ضربات كرة المضرب وهي تنهال عليك. وهو أيضا معمول بمنوال إخراج تلفزيوني كمثل حال أفلام فرنسية كثيرة تتساءل خلالها ما إذا كان مخرجوها لا يفعلون شيئا سوى مشاهدة المسلسلات بين الفيلم الذي يحققونه والآخر.
نعومة فائقة
المخرج الياباني هيروكازو كوريدا كان قدّم في مسابقة 2013 فيلما عنوانه «الابن كالأب» لاقى استحسانا وجائزة لجنة التحكيم. الآن يباشر مهرجان «كان» أفلام المسابقة بفيلم كوريدا الجديد «أختنا الصغيرة» وهذا الناقد يفضل فيلمه السابق على هذا بمراحل.
كلاهما (وفيلما كوريدا الأول والثاني «لا أحد يعرف» و«أتمنى») دار في رحى العائلة الواحدة. في الفيلم السابق تم استبدال طفل بطفل خلال الولادة في المستشفى فنشأ ابن الفقراء مع عائلة ثرية، وابنها نشأ كابن العائلة الأخرى ولا أحد يكتشف الحقيقة إلا من بعد أن تجاوز كل صبي عشر سنوات من عمره. الآن على الصبيين، بعدما تم كشف الحقيقة، تبادل مواقع، لكن كيف سيتسنّى لهما ذلك وكيف ستتصرّف كل عائلة وهي أودعت ولدها الأول كل حبها؟
هناك، في ذلك الفيلم، قدر من النزاع. ماء يغلي ولو برقّة وأسئلة تحض على الإجابات. هذا كله غير متوفر في فيلمه الجديد «أختنا الصغيرة».
بعد تأسيس المشهد الأول (إحدى الشقيقات تستيقظ على دقات المنبّه) يبدأ الفيلم بالشقيقات الثلاث ساشي (هاروكا أياسي) وهي الأكبر سنا ويوشيرو (ماسامي ناغاواسا) وشيكا (كاهو) يتلقين نبأ وفاة والدهن الذي لم يرينه منذ سنوات. يحضرن التأبين حيث يلتقين هنا بفتاة صغيرة هي نصف شقيقة اسمها سوزو (سوزو هيروسي). الجميع يتآخى جيّدا والشقيقات الثلاث يرحبن بسوزو إذا ما أرادت العيش معهن. وهي توافق وينطلق الفيلم من هنا في رحلة من المشاهد المتكررة والناعمة والمظللة بمقطوعات بيانو من تلك التي تذكرك بأن الفيلم عاطفي حالم وعليك أن تستقبله على هذا النحو.
في الحقيقة هو عاطفي جدا وناعم جدا وبلا نتوءات ويفتقد إلى أي صراع. معظم الحقائق حول العائلة الأكبر (الأم والأب اللذان كانا تطلقا) معبّر عنها حواريا. ومعظم ما يدور على الشاشة مع الفتيات الشقيقات هادئ وكاميرا المخرج تستقبلهن في لقطات متكررة الحجم والزوايا. الدراما ذاتها منتفية والذي يحل في مكانها هو متابعة أقرب لأن تكون سياحية حول الحياة السعيدة (رغم بعض الصعوبات) لشقيقات تجاوزن بعض الحدّة في علاقتهن بالماضي.
* فانتازيا داكنة
المخرج الإيطالي ماتيو غاروني، مثل هيروكازو كوريدا، بات من زبائن «كان» منذ سنوات قليلة عندما قدّم، وبنجاح فيلمه «غومورا» سنة 2008. ذلك الفيلم غاص في واقعية المجتمع في مدينة نابولي حيث أزقة الجريمة وعصابات المافيا المعاصرة. هنا، في فيلم جديد عنوانه «حكاية الحكايات»، ينتقل 180 درجة من تلك الواقعية إلى الفانتازيا ولو أن الفيلمين يرسمان ظلالا داكنة واحدة حول شخصياتهما.
«حكاية الحكايات» يتضمن ثلاث قصص تدور كلها في زمن غابر (القرن السابع عشر) وفي ثلاث ممالك غابرة. الحكاية الأولى تدور حول الملكة (سلمى حايك) التي لم تنجب بعد وزوجها المتفاني (جون س رايلي) الذي يركض وراءها وهو يناديها «حبي». ذات يوم يدخل عجوز يخبرهما بأن الملكة تستطيع أن تحمل وتنجب إذا ما أكلت قلب تنين قابع في قاع النهر. على الملك نفسه أن يصطاده وهو يتسلح بحربة وخوذة ويغوص ويجد التنين نائما. يغرز الحربة فيه لكن التنين قبل أن يموت يضرب الملك فيقتله. القلب كبير جدّا والملكة تجلس بعد طبخه تأكله بيديها في لقطة منفرة. وإذ تفعل تحبل وتنجب في يوم واحد (خدمة إكسبرس) وابنها يترعرع لكنه يصادق ابن الخادمة الذي يشبهه كثيرا. تحاول الملكة التفريق بينهما لكن ذلك يحتاج إلى سحر آخر.
الحكاية الثانية هي لملك آخر (توبي جونز) لديه ابنة رومانسية تطلب من والدها أن يختار لها العريس المناسب. تريد أن تحب وتشعر بأنها محبوبة. لكن الأب مشغول عنها بتلك الذبابة التي حطت على يده فأخذها إلى جناحه وربطها إلى موديل عربة صغيرة فبدأت بسحبها. بعد زمن قصير ها هي الذبابة كبرت وأصبحت على شكل وحش والملك متيّم بها. حين تموت يقيم مسابقة: سيزوّج ابنته لمن يعرف مصدر جلد الوحش بعد سلخه. من بين كل الطامحين هناك وحش بشري مخيف الهيئة يعرف وتؤول الفتاة غصبا عنها للزواج به. ستهرب. سيلحق بها. ستقطع رأسه.
الحكاية الثالثة هي لملك آخر (فنسنت كاسل) لا نهاية لملذاته النسائية يتزوّج فتاة بدت له أجمل النساء. لكنها في الحقيقة ما هي سوى المرأة العجوز التي تسللت إلى فراشه ليلا واكتشف حقيقتها صباحا. المرأة المسحورة لديها شقيقة مثلها تريد أن تفرض نفسها على القصر وتخسر… ثم نرى شقيقتها التي أصبحت زوجة الملكة وهي تلاحظ أن بشرتها تعود إلى تجاعيدها السابقة.
في كل حكاية (كما في الفيلمين الآخرين المذكورين) هناك قصّة عائلية. يستفيد الفيلم من أماكن تصويره الغريبة ومن فانتازيا تقع في أزمنة غابرة وتحافظ على غرابتها ضمن السياق أيضا. لكن الفيلم ينتهي وأنت لا زلت تبحث عن مفاد ما. الحكايات ذاتها ليست مسرودة على نحو متوالي، بل يقطع المخرج بينها في انسيابية صحيحة (فعل الشيء نفسه في «غومورا». هناك تمثيل يتراوح من ضعيف (سلمى حايك) إلى جيد (بيبي كايف في دور الفتاة الأميرة). الفيلم بالإنجليزية ما يخلق تفاوتا في الإلقاء فهو لاتيني اللهجة عند سلمى حايك وفرنسي اللهجة مع فنسنت كاسل ثم بريطاني مع معظم الباقين.