بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي

قصة حزينة لصراع طبقي وفصل عنصري وتراجع اقتصادي

بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي
TT

بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي

بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي

رغم مرور أيام على أحداث العنف والشغب في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند، فإن نيران الغضب لم تخمد، وربما ستظل أحداث بالتيمور تؤرق الضمير الأميركي لما تحمله من خليط من الصراع الطبقي والعنصري بين البيض والسود.
وتأتي أحداث بالتيمور المثيرة والخطيرة بعد أحداث شغب مماثلة ولأسباب عنصرية أيضا بين البيض والسود، وقدر كبير من العنف من قبل رجال الشرطة تجاه السود. فقد شهدت مدينة فيرغسون بولاية ميزوري (وسط الولايات المتحدة) أعمال شغب مماثلة في أغسطس (آب) العام الماضي أثر مقتل الشاب الأسود مايكل براون برصاص شرطي أبيض. اندلعت الاحتجاجات في 17 ولاية أميركية بعد قرار عدم محاكمة الشرطي الأبيض الذي قتل براون. وفي نيويورك توفي إيريك غارنر مخنوقا وهو يصرخ لرجال الشرطة الجاثمين لتقييد حركته «لا أستطيع التنفس».

أظهرت إحصاءات أميركية أن أكثر من 570 شخصا في الولايات المتحدة أغلبهم من السود قتلوا على أيدي عناصر الشرطة الأميركية منذ مقتل مايكل براون في أغسطس 2014 حتى مقتل فريدي جراي في بالتيمور في أبريل (نيسان) 2015. وتشير التقارير إلى أن أفراد الشرطة ارتكبوا جرائم أفظع من أخطاء ضحاياهم التي لا تستحق أن يفقدوا حياتهم من اجلها خاصة أن الضحايا كانوا عزلا. وفي معظم الحالات اشتعلت المظاهرات الغاضبة من تصرفات الشرطة وأعلن إجراء التحقيقات حول ممارساتها انتهت معظم تلك التحقيقات إلى تبرئة رجال الشرطة أو عدم وجود أدلة تكفي لإدانتهم.

كيف اندلعت مظاهرات بالتيمور

بدأت أحداث بالتيمور في السابع والعشرين من أبريل (نيسان) الماضي حينما ألقى محتجون حجارة وقوالب طوب ضد ضباط شرطة بالتيمور عقب جنازة الشاب الأسود فريدي غراي، 25 عاما، الذي توفي أثناء احتجازه لدى الشرطة إثر كسر في الفقرات الرقبية. ونقلت كاميرات التلفزيون الأميركية أعمال نهب وتخريب ومظاهرات غاضبة حيث أحرق المتظاهرون سيارات الشرطة ونهبوا عددا من المتاجر وأحرقوا بعض البنايات وألقوا على رجال الشرطة الحارة والزجاجات والعصى. وأعلنت حالة الطواري ومنع التجول في أعقاب تلك الأحداث وأرسل حاكم ولاية ميريلاند تعزيزات من الحرس الوطني. وعند سؤال أحد المتظاهرين عند أسباب اندلاع العنف في المدنية قال: «الناس ملوا من قتل الشرطة لشباب سود دون سبب»، وأبدى حزنه على ما يحدث من أحداث تخريب وحرق ونهب لكنه قال: «هذا كان يجب أن يحدث».
وتباينت الروايات حول ما الذي حدث بالضبط للشاب الأسود فريدي جراي وأسباب إصابة عموده الفقري ووفاته بعد أسبوع واحد من نقله إلى المستشفى بعد احتجازه من قبل الشرطة. وذهبت معظم الروايات إلى أنه تعرض لمعاملة عنيفة من شرطة المدينة. وبعد التحقيقات في أسباب وفاة فريدي جراي أعلن المدعي العام لولاية ميريلاند محاكمة ستة من ضباط الشرطة (بينهم ثلاثة ضباط سود) بتهم القتل من الدرجة الثانية والاعتداء والاعتقال غير القانوني. ورغم بعض الارتياح والترحيب بتقديم رجال الشرطة إلى المحاكمة فإن المظاهرات لم تخمد في بالتيمور بما يشير إلى أنها أكثر من مجرد سوء معاملة لرجل أسود وانتقاد للنظام الاجتماعي والاقتصادي الأميركي بأكمله الذي يضطهد الأقليات، ويستخدم منفذو القانون القوة المفرطة ضد أفراد تلك المجتمعات، والسياسات الاقتصادية التي تدفع الأميركيين الأفارقة إلى الطبقات الفقيرة ونظام العدالة الجنائية التي يضعهم دائما في دائرة الشبهات خاصة فيما يتعلق بتجارة المخدرات وغيرها من أنواع الجرائم الجنائية.

لماذا بالتيمور؟

جغرافيا تعد مدينة بالتيمور في الشمال الشرقي للولايات المتحدة في منتصف ولاية مريلاند، وهي أكبر مدن ولاية مريلاند ويقطنها 620 ألف نسمة يمثل السود 63 في المائة منهم بينما يمثل البيض 29 في المائة من عدد السكان. وتحتل بالتيمور المرتبة السادسة والعشرين من مدن الولايات المتحدة من حيث عدد السكان وقد أثارت تلك الأحداث سؤالا ظل يدور في الأذهان وهو «لماذا وقعت أحداث الشغب؟ ولماذا مدينة بالتيمور؟»
بعض المحللين سردوا تحليلات عميقة حول أوضاع الأميركيين الأفارقة وما يعانونه من فقر ومعدلات بطالة مرتفعة ويعيشون في تجمعات وأحياء تسودها الجريمة والمخدرات وفقدان الثقة بين الشرطة وسكان تلك المجتمعات. وتقول التقارير إن الحي الذي كان فريدي جراي يعيش به (حي ستاندتاون وينشستر) يعد من أفقر أحياء بالتيمور حيث خمس سكانه من العاطلين عن العمل. وفي المقابل يقول سيما اير أستاذ الاقتصادي بجامعة بالتيمور إن أعمال التنمية ومناطق الجذب السياحي والمحلات التجارية الفاخرة تم بناؤها حول ميناء بالتيمور الذي تسكنه في الغالب الأقلية البيضاء. والبعض أشار إلى جذور مشكلة العنصرية والتفرقة العنصرية ضد السود في المجتمع الأميركي رغم تقلد عدد كبير من السود لمناصب رفيعة في الحكومة الأميركية وفي الحياة العامة ووصول أول أميركي أسود إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. والبعض أشار إلى بالتيمور باعتبارها استمرارا لنضال السود في أميركا منذ حرب تحرير العبيد في القرن التاسع عشر حتى نضال وانتصار مارتن لوثر كينغ في ستينات القرن الماضي. مدينة بالتيمور نفسها لديها تاريخ ونمط من الفصل العنصري الذي شاع قبل أكثر من قرن من الزمان ولا تزال أطلاله باقية، ففي عام 1910 اعتمدت مدينة بالتيمور سياسية تمنع السود من السكن في الأحياء التي تقطنها أغلبية بيضاء وقد أدى تطبيق تلك السياسات إلى تقسيم المدينة إلى كتل سكنية بيضاء وأخرى سوداء.
وفي السادس من أبريل عام 1968 بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ اجتاحت المظاهرات مدينة بالتيمور مثلها مثل الكثير من المدن الأميركية الأخرى وخلال المظاهرات في بالتيمور تم نهب وإحراق أكثر من ألف شركة وقتل ستة أشخاص وأصيب 700 آخرون خلال تلك الأحداث. ويقول مايكل هيجنبوثام أستاذ القانون بجامعة بالتيمور فإن أحداث الشغب في بالتيمور في أبريل 1968 تتشابه إلى حد كبير مع أحداث الشغب في أبريل 2016 وتتفق مع اندلاع المظاهرات بعد وفاه شخص (مارتن لوثر كينغ في عام 1968 وفريدي جراي في عام 2015 مع ملاحظة أن كينغ كان رمزا للنضال من احل الحقوق المدنية، فيما يشير البروفسور بيتر ليفي المؤرخ بكلية يورك أن الاضطرابات الحالية في بالتيمور تركزت بشكل أساسي على العلاقة المتوترة بين مجتمع الأميركيين السود ورجال الشرطة.
البعض اتهم الشرطة بالعنف المفرط ودللوا على انتهاكات الشرطة في مدينة بالتيمور بصفة خاصة، بالسجلات التي تشير إلى دفع أكثر من 5 ملايين دولار في تسوية قضايا ضد انتهاكات قامت بها الشرطة ومعظم القضايا تخضع لقواعد تلزم الضحايا بعدم الحديث عما تعرضوا له مقابل مبالغ التسرية وحماية سمعة جهاز الشرطة. ووفقا لقرارات المحكمة الدستورية العليا فمن حق رجل الشرطة استخدام القوة في حالتين الأولي هي حماية حياته وحياة أبرياء آخرين والثانية هي منع المشتبه به من الهرب. البعض الآخر تعاطف مع رجال الشرطة وما يعانيه رجل الشرطة من مخاطر أثناء تأدية عمله. وذهبت بعض الآراء إلى إلقاء اللوم على الضحية فريدي جراي لمحاولته الهروب من الشرطة والمطالبة بأهمية إطاعة أوامر الشرطة وهيبة رجال الشرطة وهيبة الدولة.
بعض المحللين اعتمدوا على تحليلات علماء النفس والاجتماع حول الدهنية العنصرية حيث ما زالت صورة الرحل الأبيض هي نموذج للرجل المبدع والمثقف والملتزم بالقواعد والقانون مقابل الصورة الذهنية للرجل الأسود الجاهل رمز الجريمة والشغب وكسر القواعد وعدم احترام القوانين. وذهب البعض إلى رفض ربط أحداث بالتيمور بالعنصرية بين البيض والسود خاصة عند المقارنة بين أحداث فيرغسون حيث أغلبية السكان ورجال الشرطة من البيض، مقابل أحداث بالتيمور حيث أغلبية السكان من السود (64 في المائة من سكان بالتيمور من السود) وأغلبية رجال الشرطة ونصف أعضاء بلدية المدينة، بل وحاكمة مدينة بالتيمور نفسها من الأميركيين السود.
وثارت الأسئلة حول توصيف أحداث بالتيمور هل هي أزمة عنصرية أم أزمة طبقية؟ وتعددت الإجابات فرأت صحيفة واشنطن تايمز أن الأسباب معظمها طبقي يتعلق بضعف البنية التحتية وتفشي الجهل والفقر والبطالة. وذهبت صحيفة لوس أنجليس إلى أن السبب هو عدم الاستماع لآراء الأميركيين السود والاهتمام بتحسين مستوى معيشتهم. وأشارت صحف أميركية أخرى إلى الحاجز الطبقي بين رجال الشرطة وسكان بالتيمور حيث يتعالى أفراد الشرطة على الفقراء ويشعر السكان أنهم مستهدفون ويتم التعامل معهم بطريقة غير عادلة.
ويقول تيم لينش مدير معهد كاتو للعدالة الاجتماعية إن القضية في بالتيمور لا تتعلق بالعرق أو الطبقة وإنما تتعلق بالأساس بإحساس المرء أنه مواطن من الدرجة الثانية.
وتقول جنيفر فاي الباحثة بمعهد بروكينغز إن الانقسام الطبقي في مدينة بالتيمور في الأحياء الفقيرة يسجل تضاعفا مقابل الأحياء في وسط المدينة حين تنشط القوة الاقتصادية في عدة مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية المقدمة في ميناء بالتيمور وما تملكه المدينة من شبكة قوية من الجامعات والمستشفيات من الطراز العالمي.
وأوضحت الباحثة أن أول خطوة في طريق الشفاء لمدينة بالتيمور هو تعظيم فرص التنمية الاقتصادي للمدينة وإجراء فحص اقتصادي واسع حول الخلفيات التي أدت إلى هذه الأحداث وإجراء التغييرات اللازمة لمنع تكرار تلك الحوادث في أي مدينة أخرى. ما حدث في بالتيمور ومخاطر أن يتكرر في مدن أخرى بولايات أخرى يكشف عن ثقوب في ثوب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأميركي ويعيد للأذهان ما قاله القس الأسود مارتن لوثر كينغ «ليس كافيا أن أقف أمامكم وأشجب الشغب دون أن أشجب في نفس الوقت الظروف التي لا تطاق التي يعيشها مجتمعنا - هذه الظروف التي تجعل الأفراد يشعرون بعدم وجود خيارات سوى المعارضة العنيفة لكي يجلبوا الانتباه لقضيتهم وأنا مضطر للقول إن الشغب هو لغة الأفراد غير المسموع أصواتهم».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».