رغم مرور أيام على أحداث العنف والشغب في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند، فإن نيران الغضب لم تخمد، وربما ستظل أحداث بالتيمور تؤرق الضمير الأميركي لما تحمله من خليط من الصراع الطبقي والعنصري بين البيض والسود.
وتأتي أحداث بالتيمور المثيرة والخطيرة بعد أحداث شغب مماثلة ولأسباب عنصرية أيضا بين البيض والسود، وقدر كبير من العنف من قبل رجال الشرطة تجاه السود. فقد شهدت مدينة فيرغسون بولاية ميزوري (وسط الولايات المتحدة) أعمال شغب مماثلة في أغسطس (آب) العام الماضي أثر مقتل الشاب الأسود مايكل براون برصاص شرطي أبيض. اندلعت الاحتجاجات في 17 ولاية أميركية بعد قرار عدم محاكمة الشرطي الأبيض الذي قتل براون. وفي نيويورك توفي إيريك غارنر مخنوقا وهو يصرخ لرجال الشرطة الجاثمين لتقييد حركته «لا أستطيع التنفس».
أظهرت إحصاءات أميركية أن أكثر من 570 شخصا في الولايات المتحدة أغلبهم من السود قتلوا على أيدي عناصر الشرطة الأميركية منذ مقتل مايكل براون في أغسطس 2014 حتى مقتل فريدي جراي في بالتيمور في أبريل (نيسان) 2015. وتشير التقارير إلى أن أفراد الشرطة ارتكبوا جرائم أفظع من أخطاء ضحاياهم التي لا تستحق أن يفقدوا حياتهم من اجلها خاصة أن الضحايا كانوا عزلا. وفي معظم الحالات اشتعلت المظاهرات الغاضبة من تصرفات الشرطة وأعلن إجراء التحقيقات حول ممارساتها انتهت معظم تلك التحقيقات إلى تبرئة رجال الشرطة أو عدم وجود أدلة تكفي لإدانتهم.
كيف اندلعت مظاهرات بالتيمور
بدأت أحداث بالتيمور في السابع والعشرين من أبريل (نيسان) الماضي حينما ألقى محتجون حجارة وقوالب طوب ضد ضباط شرطة بالتيمور عقب جنازة الشاب الأسود فريدي غراي، 25 عاما، الذي توفي أثناء احتجازه لدى الشرطة إثر كسر في الفقرات الرقبية. ونقلت كاميرات التلفزيون الأميركية أعمال نهب وتخريب ومظاهرات غاضبة حيث أحرق المتظاهرون سيارات الشرطة ونهبوا عددا من المتاجر وأحرقوا بعض البنايات وألقوا على رجال الشرطة الحارة والزجاجات والعصى. وأعلنت حالة الطواري ومنع التجول في أعقاب تلك الأحداث وأرسل حاكم ولاية ميريلاند تعزيزات من الحرس الوطني. وعند سؤال أحد المتظاهرين عند أسباب اندلاع العنف في المدنية قال: «الناس ملوا من قتل الشرطة لشباب سود دون سبب»، وأبدى حزنه على ما يحدث من أحداث تخريب وحرق ونهب لكنه قال: «هذا كان يجب أن يحدث».
وتباينت الروايات حول ما الذي حدث بالضبط للشاب الأسود فريدي جراي وأسباب إصابة عموده الفقري ووفاته بعد أسبوع واحد من نقله إلى المستشفى بعد احتجازه من قبل الشرطة. وذهبت معظم الروايات إلى أنه تعرض لمعاملة عنيفة من شرطة المدينة. وبعد التحقيقات في أسباب وفاة فريدي جراي أعلن المدعي العام لولاية ميريلاند محاكمة ستة من ضباط الشرطة (بينهم ثلاثة ضباط سود) بتهم القتل من الدرجة الثانية والاعتداء والاعتقال غير القانوني. ورغم بعض الارتياح والترحيب بتقديم رجال الشرطة إلى المحاكمة فإن المظاهرات لم تخمد في بالتيمور بما يشير إلى أنها أكثر من مجرد سوء معاملة لرجل أسود وانتقاد للنظام الاجتماعي والاقتصادي الأميركي بأكمله الذي يضطهد الأقليات، ويستخدم منفذو القانون القوة المفرطة ضد أفراد تلك المجتمعات، والسياسات الاقتصادية التي تدفع الأميركيين الأفارقة إلى الطبقات الفقيرة ونظام العدالة الجنائية التي يضعهم دائما في دائرة الشبهات خاصة فيما يتعلق بتجارة المخدرات وغيرها من أنواع الجرائم الجنائية.
لماذا بالتيمور؟
جغرافيا تعد مدينة بالتيمور في الشمال الشرقي للولايات المتحدة في منتصف ولاية مريلاند، وهي أكبر مدن ولاية مريلاند ويقطنها 620 ألف نسمة يمثل السود 63 في المائة منهم بينما يمثل البيض 29 في المائة من عدد السكان. وتحتل بالتيمور المرتبة السادسة والعشرين من مدن الولايات المتحدة من حيث عدد السكان وقد أثارت تلك الأحداث سؤالا ظل يدور في الأذهان وهو «لماذا وقعت أحداث الشغب؟ ولماذا مدينة بالتيمور؟»
بعض المحللين سردوا تحليلات عميقة حول أوضاع الأميركيين الأفارقة وما يعانونه من فقر ومعدلات بطالة مرتفعة ويعيشون في تجمعات وأحياء تسودها الجريمة والمخدرات وفقدان الثقة بين الشرطة وسكان تلك المجتمعات. وتقول التقارير إن الحي الذي كان فريدي جراي يعيش به (حي ستاندتاون وينشستر) يعد من أفقر أحياء بالتيمور حيث خمس سكانه من العاطلين عن العمل. وفي المقابل يقول سيما اير أستاذ الاقتصادي بجامعة بالتيمور إن أعمال التنمية ومناطق الجذب السياحي والمحلات التجارية الفاخرة تم بناؤها حول ميناء بالتيمور الذي تسكنه في الغالب الأقلية البيضاء. والبعض أشار إلى جذور مشكلة العنصرية والتفرقة العنصرية ضد السود في المجتمع الأميركي رغم تقلد عدد كبير من السود لمناصب رفيعة في الحكومة الأميركية وفي الحياة العامة ووصول أول أميركي أسود إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. والبعض أشار إلى بالتيمور باعتبارها استمرارا لنضال السود في أميركا منذ حرب تحرير العبيد في القرن التاسع عشر حتى نضال وانتصار مارتن لوثر كينغ في ستينات القرن الماضي. مدينة بالتيمور نفسها لديها تاريخ ونمط من الفصل العنصري الذي شاع قبل أكثر من قرن من الزمان ولا تزال أطلاله باقية، ففي عام 1910 اعتمدت مدينة بالتيمور سياسية تمنع السود من السكن في الأحياء التي تقطنها أغلبية بيضاء وقد أدى تطبيق تلك السياسات إلى تقسيم المدينة إلى كتل سكنية بيضاء وأخرى سوداء.
وفي السادس من أبريل عام 1968 بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ اجتاحت المظاهرات مدينة بالتيمور مثلها مثل الكثير من المدن الأميركية الأخرى وخلال المظاهرات في بالتيمور تم نهب وإحراق أكثر من ألف شركة وقتل ستة أشخاص وأصيب 700 آخرون خلال تلك الأحداث. ويقول مايكل هيجنبوثام أستاذ القانون بجامعة بالتيمور فإن أحداث الشغب في بالتيمور في أبريل 1968 تتشابه إلى حد كبير مع أحداث الشغب في أبريل 2016 وتتفق مع اندلاع المظاهرات بعد وفاه شخص (مارتن لوثر كينغ في عام 1968 وفريدي جراي في عام 2015 مع ملاحظة أن كينغ كان رمزا للنضال من احل الحقوق المدنية، فيما يشير البروفسور بيتر ليفي المؤرخ بكلية يورك أن الاضطرابات الحالية في بالتيمور تركزت بشكل أساسي على العلاقة المتوترة بين مجتمع الأميركيين السود ورجال الشرطة.
البعض اتهم الشرطة بالعنف المفرط ودللوا على انتهاكات الشرطة في مدينة بالتيمور بصفة خاصة، بالسجلات التي تشير إلى دفع أكثر من 5 ملايين دولار في تسوية قضايا ضد انتهاكات قامت بها الشرطة ومعظم القضايا تخضع لقواعد تلزم الضحايا بعدم الحديث عما تعرضوا له مقابل مبالغ التسرية وحماية سمعة جهاز الشرطة. ووفقا لقرارات المحكمة الدستورية العليا فمن حق رجل الشرطة استخدام القوة في حالتين الأولي هي حماية حياته وحياة أبرياء آخرين والثانية هي منع المشتبه به من الهرب. البعض الآخر تعاطف مع رجال الشرطة وما يعانيه رجل الشرطة من مخاطر أثناء تأدية عمله. وذهبت بعض الآراء إلى إلقاء اللوم على الضحية فريدي جراي لمحاولته الهروب من الشرطة والمطالبة بأهمية إطاعة أوامر الشرطة وهيبة رجال الشرطة وهيبة الدولة.
بعض المحللين اعتمدوا على تحليلات علماء النفس والاجتماع حول الدهنية العنصرية حيث ما زالت صورة الرحل الأبيض هي نموذج للرجل المبدع والمثقف والملتزم بالقواعد والقانون مقابل الصورة الذهنية للرجل الأسود الجاهل رمز الجريمة والشغب وكسر القواعد وعدم احترام القوانين. وذهب البعض إلى رفض ربط أحداث بالتيمور بالعنصرية بين البيض والسود خاصة عند المقارنة بين أحداث فيرغسون حيث أغلبية السكان ورجال الشرطة من البيض، مقابل أحداث بالتيمور حيث أغلبية السكان من السود (64 في المائة من سكان بالتيمور من السود) وأغلبية رجال الشرطة ونصف أعضاء بلدية المدينة، بل وحاكمة مدينة بالتيمور نفسها من الأميركيين السود.
وثارت الأسئلة حول توصيف أحداث بالتيمور هل هي أزمة عنصرية أم أزمة طبقية؟ وتعددت الإجابات فرأت صحيفة واشنطن تايمز أن الأسباب معظمها طبقي يتعلق بضعف البنية التحتية وتفشي الجهل والفقر والبطالة. وذهبت صحيفة لوس أنجليس إلى أن السبب هو عدم الاستماع لآراء الأميركيين السود والاهتمام بتحسين مستوى معيشتهم. وأشارت صحف أميركية أخرى إلى الحاجز الطبقي بين رجال الشرطة وسكان بالتيمور حيث يتعالى أفراد الشرطة على الفقراء ويشعر السكان أنهم مستهدفون ويتم التعامل معهم بطريقة غير عادلة.
ويقول تيم لينش مدير معهد كاتو للعدالة الاجتماعية إن القضية في بالتيمور لا تتعلق بالعرق أو الطبقة وإنما تتعلق بالأساس بإحساس المرء أنه مواطن من الدرجة الثانية.
وتقول جنيفر فاي الباحثة بمعهد بروكينغز إن الانقسام الطبقي في مدينة بالتيمور في الأحياء الفقيرة يسجل تضاعفا مقابل الأحياء في وسط المدينة حين تنشط القوة الاقتصادية في عدة مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية المقدمة في ميناء بالتيمور وما تملكه المدينة من شبكة قوية من الجامعات والمستشفيات من الطراز العالمي.
وأوضحت الباحثة أن أول خطوة في طريق الشفاء لمدينة بالتيمور هو تعظيم فرص التنمية الاقتصادي للمدينة وإجراء فحص اقتصادي واسع حول الخلفيات التي أدت إلى هذه الأحداث وإجراء التغييرات اللازمة لمنع تكرار تلك الحوادث في أي مدينة أخرى. ما حدث في بالتيمور ومخاطر أن يتكرر في مدن أخرى بولايات أخرى يكشف عن ثقوب في ثوب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأميركي ويعيد للأذهان ما قاله القس الأسود مارتن لوثر كينغ «ليس كافيا أن أقف أمامكم وأشجب الشغب دون أن أشجب في نفس الوقت الظروف التي لا تطاق التي يعيشها مجتمعنا - هذه الظروف التي تجعل الأفراد يشعرون بعدم وجود خيارات سوى المعارضة العنيفة لكي يجلبوا الانتباه لقضيتهم وأنا مضطر للقول إن الشغب هو لغة الأفراد غير المسموع أصواتهم».