لا يحفل مهرجان «ترايبيكا» بجوائز تهز الدنيا كما حال «كان» أو «برلين»، أو عدد ضئيل آخر من المهرجانات الدولية، لكنه يبقى واحدًا من تلك المناسبات السينمائية التي تثري مدينة نيويورك وضواحيها (يقام في ضاحية ترايبيكا لكن يؤمه جمهور من كل أطراف المدينة) التي انطلقت مباشرة في أعقاب هجوم 9/11 لأجل إثبات أن المدينة تستطيع الحفاظ على هويّتها الثقافية والحضارية على الرغم من العملية الإرهابية.
وإذ انتهت أعماله في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، فإن من اشترك فيه من السينمائيين وجد نفسه في احتفاء يستحق التقدير. «ترايبيكا» ليس المهرجان النيويوركي الوحيد، بل هناك حفنة منها أهمها «مهرجان نيويورك» و«مهرجان مخرجون جدد - أفلام جديدة»، لكنه استطاع في سنوات قليلة أن يتبوأ قدرًا عاليًا من الاهتمام وسط الحقلين الثقافي والفني لمدينة دائمًا ما عُرفت بثرائها في هذين المجالين.
القيمة الإجمالية للجوائز بلغت 175 ألف دولار وتوزّعت على ثلاث عشرة جائزة في مجال الفيلم الطويل وست جوائز في مجال الفيلم القصير. وأبرز الأفلام الفائزة «جبل عذري» وهو إنتاج مشترك ما بين آيسلندا والدنمارك، ونال جائزة أفضل فيلم روائي طويل، و«ديمقراطيون» الدنماركي الذي حصد جائزة أفضل فيلم تسجيلي. أفضل ممثل هو بطل «جبل عذري» واسمه غونار جونسون، وأفضل ممثلة هي الأميركية هانا موراي عن دورها في «بريدجإند»، وهو أيضا له جذور اسكندنافية من حيث إن نصف تمويله جاء من الدنمارك، والنصف الثاني بريطاني على أميركي.
جائزة أفضل مخرج ذهبت إلى زاكاري تريتز عن فيلمه التاريخي «رجال يذهبون إلى المعركة»، تقع أحداثه خلال الحرب الأهلية الأميركية.
عشرة أفلام من تلك المعروضة، بما فيها بعض تلك الفائزة، استوقفتنا على نحو أو آخر. كأي مهرجان حافل لا يمكن مشاهدة كل شيء حتى وإن لم يفعل المتابع شيئًا آخر سوى المشاهدة.
* آباء وأبناء
كان لافتا وجود فيلم من إنتاج محطة «الجزيرة أميركا» في مسابقة الفيلم التسجيلي. من مطلع الفيلم يركب المخرج ألبرت مايلس وفريقه قطار «إمباير بيلدر» المنطلق من الغرب والمتوجه جنوبًا على مدى ثلاثة أيام يمر خلالها بمدن وقرى وسهول وجبال وآبار نفطية. لقطاته خارج القطار في مجملها ساحرة، لكن همّ الفيلم الأول هو التقاط الحياة بين مجموع المسافرين الذين لا يعرف أحدهم الآخر. كل راكب هو في هذا القطار طالب وجهة مختلفة في ذاتها حتى وإن نزل في المحطة نفسها. كل منهم يعكس ذاتًا مختلفة حين سؤاله لماذا هو في هذا القطار. لكن ليس كل المقابلات تتم بين الشخصيات وبين الكاميرا، بل معظمها التقاط حي لما يدور بين الغرباء مع تسجيل ذلك القدر العالي من الألفة والمودّة بين الناس. هناك رجل يسجّل بكاميرته الراكبة الحامل التي تعود إلى أهلها ليكونوا لجانبها حين الوضع ويعلّق: «هي ستغيب، لكنها في ذاكرة هذه الكاميرا».
تلك الألفة نجدها كذلك في «ميدولاند» لريد مورانو (مثل سايلس هو مدير تصوير أيضا). إنها ما يبحث عنه الزوجان لوك ولسون وأوليفيا وايلد. لكنهما لن يجدانها بسهولة. حياتهما تبدّلت منذ اختطاف ابنهما قبل نحو سنة، إذ بغيابه تلاشى الكثير من أسباب الهناء بينهما كما بينهما وبين باقي العالم. يلتقط الفيلم محاولتهما الخروج من تلك العزلة التي عاشاها منذ ذلك الحين، لكنه يسجل كيف أن هذه المحاولة محفوفة بالمخاطر، إذ تزيد الانقسام الحاصل صمتا بينهما. دراما جيّدة لمخرج جديد جاء من خلفية التصوير وكله رغبة في تسجيل تفاصيل المشاعر عوض إطلاقها في موجات من الفعل وردود الفعل الكبيرة.
وهناك دراما أخرى تبحث في العلاقات الأسرية مجسدة في فيلم «مفكرات أدرأول» لباميلا رومانوفسكي. هنا يلعب جيمس فرانكو (الذي لديه فيلم حالي في الأسواق عنوانه «قصّة حقيقية») دور كاتب حقق نجاحًا في أول عمل له الذي استخلص مادته من ذكرياته حول ما تعرّض له من تعنيف وسوء على يدي والده (إد هاريس). الآن وبعد النجاح الأول لا يجد ما يكتبه ويبيعه لكنه يهتدي إلى قضية رجل (كريستيان سلاتر) متهم بقتل زوجته. يجدها (كما في «قصّة حقيقية» وإن لعب فرانكو هناك دور القاتل) فرصة ذهبية لتحقيق نجاح آخر. ما يعوق كل شيء انهياره عندما يتعرّف على صحافية (أمبر هيد) كاشفًا عن مدى الجراح التي ما زالت تنتابه من جراء خلفية الحياة العائلية التي شهدها. الفيلم داكن وغير متوازن. إد هاريس أفضل ما فيه، بينما لا يزال جيمس فرانكو يبحث لنفسه عن صورة.
* حدث خلال الحرب
وفي منحى آخر من علاقة الآباء والأبناء نجد «إرث نازي: ما فعله آباؤنا». هذا فيلم تسجيلي آخر، وله علاقة بالآباء والأبناء والتاريخ. المخرج ديفيد إيفانز يسرد ما حدث للمحامي اليهودي فيليب ساندز عندما التقى برجل أكبر منه سنّا اسمه نيكلاس فرانك. والد نيكلاس كان من بين من أمرت محكمة نورمبيرغ بإعدامهم معتبرة إياه شريكًا في جرائم حرب وعن طريق نيكلاس تعرّف المحامي على هورست فون ووشتر الذي أدين والده أيضا بتصفية اليهود. يتابع الفيلم علاقة هؤلاء بعضهم ببعض وكيف راقب المحامي ردّ فعل كل منهما حيال التهمة التي لصقت بوالده وموقفهما اليوم من تلك الذكرى. على الرغم من انضمام الفيلم، في نهاية مطافه، إلى كل تلك الأفلام التي ما زالت تريد محاسبة أبناء اليوم على أخطاء الأمس، هناك منوال عمل مثير للاهتمام، لكن عناصر الاهتمام بالموضوع تتساقط بالتدرج لتضمحل عن عمل عادي.
«حلم - قاتل» هو فيلم تسجيلي آخر عن العلاقة بين الآباء والأبناء، الفيلم السابق («مفكرات أدرأول») يجدها مهزوزة، لكن «حلم - قاتل» يمنحها ما تستحقه من إضاءة إيجابية. الواقعة حدثت في مدينة كولومبيا (ولاية) ميسوري عندما تدخلت عوامل عدّة للحكم على شاب اسمه رايان بارتكاب جريمة قتل. المخرج أندرو جنكز يوفر من البداية دلائل على تعسّف هذا الحكم وبراءة الشاب، لكنه يتمحور حول الأب وبذله وعناده في سبيل البرهنة على أن ابنه لم يرتكب أي جريمة. لم تكن المساعي المبذولة سهلة التحقيق ولا نتائجها كانت من النوع الذي نشاهده في المسلسلات التلفزيونية (تتحقق في ساعة). يجعل الفيلم مشاهديه يدركون سريعًا أن بعض الناس ليس لديهم في العالم بأسره من يقف لجانبهم في المحن سوى آبائهم.
في «رجال يذهبون إلى المعركة» ينتقل المخرج زاكاري تريتز إلى عام 1860 حيث يقدّم لنا شخصيتي شقيقين (تيم مورتون وديفيد مالوني) يعيشان في بلدة صغيرة في ولاية كنتاكي في كنف الحرب الأهلية الدائرة. هذا ليس سهلا على أحد، وأحدهما لن يستطع البقاء مستقلاً عن تلك الحرب، بل سيلجأ إليها، ولو أن لجوءه له علاقة بطبيعته الشخصية وليس بأي من الموقفين السياسيين اللذين كانا السبب في وقوعها.
فاز «رجال يذهبون إلى المعركة» بجائزة أفضل مخرج، كما تقدّم. بدوره تمتع الفيلم الذي فاز بجائزة أفضل فيلم روائي، وهو «جبل عذري»، بتقدير كبير منذ أن عرض سابقا في مهرجان برلين (خارج المسابقة). موضوعه معالج ببعض الرقّة والكثير من التفهم: رجل ضخم الجثة يحمل قلبًا عاطفيًا ويبلغ من العمر 43 سنة، لكنه لا يزال عذريًا لم يمارس الحب بعد. مانعه نفسي وعاطفي إلى جانب أن أحدًا لا يريد الاقتراب من رجل يوحي، بسبب حجمه، بأنه أبعد ما يكون عن الرومانسية. يعلم المشاهد ما ستؤول إليه الأحداث عندما يتعرّف على فتاة ضئيلة الحجم لا تخشاه وتفهم أعماقه في الوقت الذي لديها ما يعكّر نفسيتها أيضًا. على ذلك هناك معالجة جيّدة وإنسانية لهذه التوقعات تخدم رغبة الفيلم في تقديم شخصيات غير مألوفة.