تطل الثقافة المصرية بوجهها الإيجابي خارج صندوق المؤسسة الثقافية الرسمية، التي بات المثقفون لا يعولون عليها كثيرا في شد أزرهم وهمومهم الإبداعية، رغم أنها مؤسسة خدمية بالأساس. الأمر نفسه ينطبق على اتحاد كتاب مصر، والذي يفتقر إلى خطة عملية، تحتضن تيارات الإبداع المصري، في سلسلة منتظمة من الندوات، وفي سياق حوار نقدي ومعرفي جاد، يضيء الخطاب الإبداعي، ويكشف ملامح خصوصيته، وما ينطوي عليه من أوجه إضافة ونقص على شتى المستويات.
تتجلى حيوية هذا الوجه الثقافي عبر عشرات الإصدارات، من الشعر والرواية والقصة وقضايا النقد والفكر والأعمال المترجمة، لا تكف عن ضخها دور النشر في سوق الثقافة المصرية، لكن معظم هذه الإصدارات يظل يتيما، مفتقدا أي ضوء نقدي، خاصة إذا كان يمثل الشرارة الأولى لكتاب وشعراء شباب، بينما يحتفي النقد غالبا بأعمال لكتاب مكرسين، طالما أكل على موائدهم وشرب إلى حد التخمة والغثيان.
اللافت أن الكثير من الإصدارات الشابة، تمتلك جرأة المغامرة والتجريب، وتنبئ بطاقات إبداعية موهوبة، من الممكن أن تثري الحياة الأدبية، وتحتاج إلى من يكشف لها عثرات الطريق، ويساعدها في صقل مغامراتها، حتى لا تصبح مجرد صراخ في البرية، وهو ما التفت إليه عدد من المنتديات الأدبية الخاصة في القاهرة والإسكندرية، وبعض الأقاليم الأخرى، أخذت على عاتقها مهمة الاحتفاء بالتجارب الجديدة في الكتابة، وتقديمها بالشكل اللائق للجمهور في ندوات خاصة، أو حفلات توقيع، ترافقها دراسات نقدية عن العمل نفسه.
في مقدمة هذه المنتديات الخاصة يبرز «منتدى المستقبل للفكر والإبداع»، الذي دشنه مجموعة من الشعراء والكتاب، على رأسهم الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله، والشاعر محمود قرني، والروائي عبد الستار حتيتة. ويعقد المنتدى ندوة ثقافية أسبوعية، بـ«مكتبة خالد محيي الدين» بميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، محاولا تنشيط الحياة الثقافية، وإيجاد صيغة أدبية بديلة عن نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية، وطابعه الكرنفالي التقليدي النخبوي، وذلك بالتركيز على الأصوات الجديدة الفاعلة في الإبداع المصري، وإعلاء قيمة التنوع الثقافي عبر الحوار النقدي البناء لإبراز هذه الأصوات وتسليط الضوء عليها.
يستهدف المنتدى تبني وتوسيع دائرة التلقي الإبداعي والنقدي مصريا وعربيا عبر قراءات نقدية لأهم الأعمال الإبداعية مصريا وعربيا في كل الأنواع الأدبية، وكذلك مناقشة أهم الأعمال الفكرية التي تغطي مساحات طليقة وحرة ومتجددة من المعرفة الإنسانية. ويرى القائمون على المنتدى أن «الواقع المصري بات يفتقر إلى آليات شفافة للعمل الثقافي، بعد أن تعاظم فساد المؤسسة الثقافية الرسمية وبات وجودها تعبيرا فجا عن استعادة قيم أزاحتها وثارت عليها ثورتان كبيرتان». ويؤكدون أن المنتدى «يعتد بالتنوع والاختلاف المثمر، بين شتى أطياف الكتاب والمبدعين، ويسعى لأن يكون طاولة مفتوحة يلتقي عليها الجميع، بكل الحب والاحترام، كما يسعى إلى إزاحة الغبار عن كتاب حقيقيين في أقاليم البلاد، يعانون من التهميش والإقصاء، ولا يجدون فرصة حقيقية، تقدر إبداعهم، وتضعه في السياق الصحيح».
وأقام المنتدى في الآونة الأخيرة عددا من الندوات الأدبية اللافتة، من بينها ندوة رواية «جد كاب» للكاتب يحيي مختار، ورواية «بولاق أبو العلا» للكاتب فتحي سليمان، ورواية «الحريم» للكاتب حمدي الجزار. كما أقام أمسيتين شعريتين شارك فيهما شعراء من مختلف التيارات الشعرية، وناقش المنتدى في بادرة جديدة مخطوط ديوان جديد للشاعر محمود قرني.
أيضا في هذا السياق الذي يأخذ على عاتقه إبراز الوجه المضيء للثقافة في مصر، وتقاطعاتها عربيا، يبزر صالون ابن رشد الثقافي، وهو عبارة عن ملتقى ثقافي نصف شهري تعقده دار ابن رشد للطباعة والنشر والتوزيع بمقرها بالقاهرة، وتنهض فكرة الصالون على الحوار الحي المباشر بين الكاتب والجمهور. واستضاف الصالون مؤخرا الكاتب والمؤرخ الفلسطيني فؤاد أبو حجلة، في ندوة تحدث فيها عن تجربته مع الإبداع والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، كاشفا عن تفاصيل تنقله بين عدد من العواصم العالمية حاملاً بين يديه قضية وطنه في محاولة لطرحها والتعريف بها عبر القنوات الإعلامية المختلفة. واستمع الحضور إلى عدد من المقالات الصحافية ذات الصيغة الأدبية، من أرشيف الكاتب، والتي وصفها كاتب هذه السطور بأن كلا منها في ذاته هو نواة لمشروع روائي مكتمل الأركان، كما استضاف الكاتب المصري أحمد هريدي، صاحب الإنجاز المتميز في أدب الرحلات.
ودشنت دار ابن راشد جائزة سنوية للشعر، يتم الإعلان عن الفائزين بها في الرابع والعشرين من يناير (كانون الثاني)، بالتزامن مع ذكرى الثورة واستشهاد الناشطة السياسية الشابة الشاعرة شيماء الصباغ، عضو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي. وقال أحمد إبراهيم مدير دار ابن رشد للنشر: «إن تسمية الجائزة باسم شيماء الصباغ تأتى لتخليد ذكراها، خصوصا أنها عانت بشكل كبير في نشر الديوان الشعري الأول لها». كما قامت الدار بطبع ديوانها الشعري «على ظهر تذكرة»، وأقامت له ندوة موسعة بأتيلييه القاهرة للفنون والآداب، بالإضافة إلى حفلات التوقيع التي تقيمها لكتاب وشعراء، تقوم بإصدار مؤلفاتهم، ومنها حفل توقيع للشاعر حمدي عابدين بمناسبة صدور ديوانه «رجل الهاى لوكس» عن الدار نفسها، وأيضا الشاعر عبد الحفيظ طايل، بمناسبة صدور كتابه «فقه الانتهاك».
ويتوالى المشهد نفسه في الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر، فرغم وجود الكثير من المنابر الثقافية بها، ومنها مكتبة الإسكندرية، وقصر الإبداع، وعدد آخر من قصور الثقافة، فإن النشاط في هذه المنابر يخضع للسياق الرسمي، ويفتقر إلى الحيوية والاستقلالية، كما أن أغلب نشاطه روتيني مناسباتي يقام من قبيل سد الخانة وملء الفراغ، كما يقول أحد أدباء الإسكندرية.
ومن بين المنتديات الثقافية الخاصة بالإسكندرية مؤسسة «التراسينا» للثقافة والفنون، والتي أقامت في الفترة الأخيرة، مجموعة من الأنشطة الأدبية المهمة، من بينها، ندوة لمناقشة الفضاء الأدبي والمعرفي في رواية الكاتبة التركية إليف شفاق «قواعد العشق الأربعون» والتي ترجمت للعربية أخيرا. كما أقام ملتقى «الكابينة» الثقافي بعروس المتوسط، حفل توقيع لرواية «الحالة صفر» للشاعر المصري عماد فؤاد، وشهد الحفل إضاءات نقدية للرواية، قدمها عدد من النقاد والكتاب.
ويرى الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله، أحد مؤسسي منتدى المستقبل للفكر والإبداع، أن وجود هذه المنتديات ضروري، للنهوض بالإبداع المصري، وإبراز دوره الخلاق في المجتمع، مشيرا إلى أن تنامي هذه المنتديات وطبيعتها الحرة المستقلة من شأنه أن يكشف خواء الثقافة الرسمية والتي بحاجة لمراجعة حقيقية لراهنها المتعثر، وماضيها القريب المثقل بالخيبات.
ويلفت الدكتور يسري إلى أن هذه المراجعة لن تتم برأيه إلا «عبر مسارين مركزيين، أولهما يستلزم وجود تصور محدد المعالم صوب الثقافة المصرية، وماهيتها، ودورها، والمأمول منها، وآليات استعادة ما تمثله من قوة ناعمة مضافة إلى متن الدولة المصرية، وهذا جميعه يحتاج إلى وسط بيئي مسكون بالحرية، والمنطق الديمقراطي لهيئات الوزارة المختلفة، وتفعيل لامركزية الإدارة الثقافية، والإيمان المطلق بحق الاختلاف، بوصفه حقا إنسانيا، وثقافيا لازما وواجبا في آن، وإيجاد طرائق واضحة وخطوات إجرائية ذات طابع عملي للخروج من مأزق انفصال الثقافة الرسمية عن جماهير شعبنا في القرى والنجوع المصرية، والتي تركت فريسة للجهل وللأفكار المتطرفة»، مؤكدا أن هذا الدور تقوم به ضمنيا هذه المنتديات الثقافية الخاصة.
منتديات خاصة تضيء فضاء الإبداع في مصر
كسرت نمطية المؤسسة الرسمية واحتضنت تيارات الكتابة الجديدة
منتديات خاصة تضيء فضاء الإبداع في مصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة