{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال

تحتفل بمئويتها.. وأرمن العالم مصرّون على اعتراف تركيا بالذنب

{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال
TT

{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال

{الهولوكوست} الأرمنية.. صراع التاريخ والسياسة.. والمال

سبقت «المذبحة الأرمنية» نظيرتها اليهودية بعقود، لكنها لا تزل تصارع للاعتراف بها بشكل كامل رغم مرور مائة عام عليها، من دون أن يكل الأرمن عن السعي لهذا الاعتراف، وعينهم أولا على «المتهمة» تركيا، وريثة السلطنة العثمانية، التي لا تزال تصر على رفض الاعتراف بها، وتقاتل من أجل منع الاعتراف العالمي.
ورغم النشاط اللافت للأرمن، واللوبيات التي أنشأوها، فإن الاعتراف بالإبادة الأرمنية لم يحصل على نطاق واسع، إذ اعترفت 20 دولة فقط بحصولها ليس من بينها الدولة الأهم، أي الولايات المتحدة، على الرغم من اعتراف 40 من ولاياتها بالإبادة، فالرئيس الأميركي باراك أوباما تجنب في خطابه هذا العام وصف ما حصل بالإبادة. ومع هذا كله، فالأمم المتحدة اعترفت بالإبادة، وكذلك البرلمان الأوروبي والكثير من المنظمات الدولية الأخرى.
في الذكرى المئوية تخلت ألمانيا عن حذرها ورفضها لاعتماد تعبير «الإبادة» فخرج الرئيس الألماني يواكيم جاوك، ليستعمل هذه الصفة، مقرا بمسؤولية بلاده الجزئية باعتبارها كانت حليفة لتركيا في الحرب العالمية الأولى حين وقعت الأحداث هذه. وقال: «إن مصير الأرمن هو مثال لتاريخ الدمار الشامل والتطهير العرقي والطرد والإبادة الجماعية، الذي يصادف القرن العشرين بمثل هذه الطريقة الرهيبة». لكن المتهم الأساسي، لا يزال يرفض الاعتراف، على الرغم من توجيه رئيس الوزراء التركي آنذاك، رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب إردوغان رسالة تعزية إلى الأرمن، في العام الماضي، هي كل ما حصل عليه هؤلاء من اعتراف تركي. وأقر إردوغان بأن معاناة الأرمن ناجمة عن «أحداث كانت لها آثار غير إنسانية مثل الترحيل خلال الحرب العالمية الأولى»، لكنه لم يلفظ كلمة «إبادة».
تتحدث الروايات التاريخية عن مجازر عدة سبقت ما يسمى بالابادة التي تعرض لها الأرمن في السلطنة العثمانية، أولها كانت ما يعرف بالمجازر الحميدية التي قام بها السلطان عبد الحميد الثاني بين عامي 1894 و1896، والتي شملت المسيحيين عامة ومن بينهم الأرمن، ثم أتت في التوقيت نفسه مجازر ديار بكر التي يعتبرها الأرمن مدينتهم، حيث سموها على اسم ملكهم ديكران الكبير الذي يقولون بناها فنالت اسم «ديكراناجيرد»، أي المدينة التي بناها ديكران.
وعند نشوب الحرب العالمية الأولى تمرد الكثير من الشعوب التي كانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية عليها سعيا لنيل الاستقلال عنها، ومن بين هؤلاء الأرمن الذين ساعدوا جيوش الإمبراطورية الروسية التي هاجمت الدولة العثمانية واحتلت جزءا من أراضيها. أتى رد العثمانيين قاسيا، فكان أن تعاملوا مع الأرمن جميعهم كخونة وجواسيس. وفي 24 أبريل (نيسان) 1915 قام العثمانيون بجمع المئات من أهم الشخصيات الأرمنية في إسطنبول وتم إعدامهم في ساحات المدينة، ثم صدر قرار بترحيل الأرمن عن مناطق الأناضول سعيا لمنعهم من تشكيل ما يشبه «حصان طروادة» في الأناضول. ونقل مئات الآلاف من الأرمن نحو الولايات العثمانية الجنوبية، أي سوريا ولبنان والأردن ومصر. ويتهم الأرمن الأتراك بإبادة مئات القرى الأرمنية شرق البلاد في محاولة لتغيير ديموغرافية تلك المناطق. كما يتهمونهم بإجبار القرويين على العمل كحمالين في الجيش العثماني ومن ثم بإعدامهم بعد إنهاكهم. بعدها أمرت جميع العوائل الأرمنية في الأناضول بترك ممتلكاتها والانضمام إلى القوافل التي تكونت من مئات الآلاف من النساء والأطفال في طرق جبلية وعرة وصحراوية قاحلة. ويقول الأرمن إن هؤلاء حرموا من المأكل والملبس. فمات خلال حملات التهجير هذه نحو 75 في المائة ممن شارك بها وترك الباقون في صحارى بادية الشام. ويورد أحد المرسلين الأميركيين إلى مدينة الرها في كتاب عن الإبادة الأرمنية ما حرفيته: «خلال ستة أسابيع شاهدنا أبشع الفظائع تقترف بحق الآلاف.. الذين جاءوا من المدن الشمالية ليعبروا من مدينتنا. وجميعهم يروون نفس الرواية: «قتل جميع رجالهم في اليوم الأول من المسيرة، بعدها تم الاعتداء على النسوة والفتيات بالضرب والسرقة وخطف بعضهن حراسهم.. كانوا من أسوأ العناصر كما سمحوا لأي من كان من القرى التي عبروها باختطاف النسوة والاعتداء عليهن. لم تكن هذه مجرد روايات، بل شاهدنا بأم أعيننا هذا الشيء يحدث علنا في الشوارع».
ويصر الأتراك، على وضع ما يسميه الأرمن بالإبادة في سياق تاريخي، مشككا بأعداد الضحايا من جهة، وواضعا إياها في إطار مآسي الحرب العالمية الأولى من جهة أخرى. ويقول نائب رئيس الوزراء التركي السابق أمر الله إيشلر، أحد مساعدي إردوغان البارزين، أن غالبية المؤتمرات، لمناقشة أحداث 1915 كانت متحيزة وبعيدة عن الحقائق العلمية، خصوصا أنها لم تتناول ظروف الحقبة بموضوعية، واعتمدت على الآراء المنحازة، لا على الوثائق المستخرجة من الأرشيف. وشدد على أن «الدولة العثمانية اعتمدت على سياسة التسامح بين جميع مكونات الدولة الدينية والعرقية (..) وظاهرة التسامح الديني والعرقي على امتداد تاريخ الدولة العثمانية ظاهرة ضربت جذورها عميقا في بنية الدولة والحكومة، وبفضلها تمكنت الدولة العثمانية من إدارة المجتمعات المكونة لها بشكل ناجح لعدة قرون. وأشار إلى أن الغاية من عملية نقل الأرمن، من بعض مناطق وجودهم، إلى أخرى داخل حدود الدولة العثمانية آنذاك.. «لم تكن محو وجودهم، إنما ضمان أمن الدولة، وحماية أولئك المواطنين، بعد انخراط الكثيرين منهم، خلال سنوات الحرب، في صفوف الجيوش الروسية الغازية، بهدف إقامة دولة أرمنية في الأناضول، وتورطهم بتنفيذ مذابح جماعية ضد المسلمين، في مناطق مختلفة من الأناضول، بغية إنشاء دولة متجانسة لهم».
ويقول إيشلر في مقالة خص بها «الشرق الأوسط»، إن الوثائق الخاصة بالدولة العثمانية، تؤكد أن الهدف من عملية التهجير، لم يكن التسبب بتلك الأحداث، وقيام الحكومة العثمانية، آنذاك، بمعاقبة من ثبت ارتكابهم تجاوزات، تثبت مصداقية ذلك، كما قامت الحكومة العثمانية بمحاكمة الموظفين الحكوميين الذين أخلوا بانتظام وأمن عملية التهجير، أمام محكمة «ديوان الحرب العليا» (محكمة الجرائم العسكرية)، التي عقدت في العاصمة إسطنبول، حيث حكمت تلك المحكمة بالإعدام، على كل من ثبت تورطهم بارتكاب انتهاكات، حتى قبل أن تكون الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، كما حصل عام 1916.
ويقول الخبير في مركز التفكير الاستراتيجي جاهد طوز لـ«الشرق الأوسط»، إن حكومة بلاده ترى أن ما حصل ليس أمرا يقره السياسيون، بل هو وقائع تاريخية يجب أن يحسمها المؤرخون والخبراء. وأكد في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن الحكومة التركية ترفض الإقرار بجريمة لمرتكبها، وربما لم تحصل. ويشير إلى أن تركيا عرضت فتح الأرشيف العثماني أمام لجنة مشتركة تركية - أرمينية، للتحقيق في الواقعة، لكن الجانب الأخر لا يزال يرفض هذا الأمر.
ويقول: «الأرمن كانوا من رعايا الدولة العثمانية، لكنهم انضموا إلى الروس في قتال العثمانيين مع بدء الحرب العالمية الأولى وشكلوا عصابات نهبت وقتلت الكثير من الأتراك، فقررت الدولة تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب إلى مناطق أخرى داخل السلطنة (سوريا والعراق) كإجراء احترازي لوقف دعمهم للجيش الروسي». ويضيف: «الدولة كانت تقاتل على جبهات مختلفة، وكانت هناك أمراض منتشرة وقلة في الغذاء، ما أدى إلى موت الكثير من المهجرين، على غرار الكثير من رعايا السلطنة الآخرين». ورأى أن تسمية ذلك إبادة «غير أخلاقي وغير قانوني». ويشير إلى أن الأرمن استمروا في العيش في مناطق أخرى من تركيا، حتى اليوم. ويوضح طوز أن الأتراك عاشوا متسامحين، وما زالوا، مستدلا على ذلك بأن أتيان محجوبيان، كبير مستشاري رئيس الحكومة داود أوغلو هو شخص أرمني، كاشفا عن أن ثمة مرشحا أرمنيا، هو ماركر إسبان سينزل على لوائح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة وفوزه شبه مضمون.
ويلمح طوز إلى «أهداف اقتصادية» من الإصرار الأرميني على الاعتراف بالإبادة، مشيرا إلى أن أرمينيا تمر بظروف اقتصادية صعبة، وقد تطمح بالحصول على تعويضات مالية تسد بها عجزها». وأكد أن ثمة ممارسات كثيرة ارتكبت تحت حجة الإبادة المزعومة، فهناك 31 دبلوماسيا تركيا قتلوا على أيدي منظمات أرمنية متطرفة حول العالم، بالإضافة إلى نحو 43 مواطنا تركيا.
ويبدو أن عدم الاعتراف التركي ليس مجرد «مكابرة تاريخية»، فهذا الاعتراف تترتب عليه تبعات كبيرة على تركيا التي قد تصبح في حال اعترافها بالذنب، مجبرة على تقديم تعويضات مالية هائلة، كما يتخوف قادتها من استغلال الأمر للمطالبة بأراض يعتبرها الأرمن ملكا لهم عند الحدود بين البلدين، خصوصا أن الأرمن يسمون المناطق المحاذية لحدودهم الدولية «أرمينيا الغربية» لاحتوائها على الكثير من الأراضي التي يعتبرونها أرمنية، بالإضافة إلى جبل أرارات التاريخي الذي يقع في الأراضي التركية.
ويبدي الدكتور شفيق المصري، الخبير في القانون الدولي ثقته بأن تركيا «لن تعترف بالإبادة»، معتبرا أن «مسألة الاعتراف لها قيمة معنوية قبل أي شيء آخر، علما بأن الإبادة من الجرائم الدولية التي لا تخضع لمرور الزمن، وبالتالي حتى وبعد مرور 100 عام على المجازر الأرمنية، فتركيا وفي حال قررت الاعتراف بها فسيكون عليها تلبية كل الواجبات القانونية، ما يطرح إشكالية جديدة بعد عملية الاعتراف لجهة تحديد الضحايا والمبالغ الواجب دفعها بالإضافة إلى تحديد الأراضي التي يجب إعادتها لهم». ويضيف المصري: «مسألة الاعتراف لتركيا هي بحد ذاتها بمثابة انتحار كامل، لذلك نحن متأكدون أنّها لن تقدم على ذلك في يوم من الأيام وستصر على الإنكار وخاصة أنّها قادرة على شمل الضحايا الأرمن مع ضحايا الحرب».
وأوضح المصري في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن اعتراف تركيا بـ«المجازر الأرمنية» يترتب عليه «تبعات كثيرة وجسيمة» يفرضها القانون الدولي، لجهة دفع التعويضات اللازمة وإعادة الأراضي لأصحابها، لافتا إلى أن «تركيا هي الوريثة القانونية للإمبراطورية العثمانية وبالتالي مسؤوليتها تقتضي وفي حال الاعتراف بـ«الإبادة» بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه وذلك من خلال التعويض.
بدوره، أشار نائب الأمين العام لحزب «الطاشناق» أفيديس كيدانيان إلى أن «الأرمن كانوا يكتفون خلال الـ50 سنة الأولى من الإبادة بمطالبة تركيا بالاعتراف بما اقترفته خلال زمن السلطنة العثمانية، إلا أنهم يصرون اليوم على أن يلي الاعتراف دفع التعويضات اللازمة واسترجاع الأراضي المحتلة».
وأعرب كيدانيان في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن أسفه لكون الظروف الإقليمية والدولية مواتية لاستمرار الأتراك بإنكار اقترافهم الإبادة الأرمنية، مع العلم بأن رئيس جمهورية ألمانيا اعترف بمشاركة ومساهمة بلاده مع الأتراك بهذه الإبادة خلال الحرب. وأضاف: «فإذا كانت ألمانيا أقرّت بذلك، فورثة السلطنة العثمانية ملزمون بالاعتراف أيضا والقيام بواجباتهم تجاه الضحايا».
بعد مائة عام، لم يبقَ من يخبر. الجيل الأول الناجي من تلك الحرب، ذهب بأغلبيته الساحقة، لكن بعد أن روى لأبنائه وأحفاده ذكريات معاناته خلال عملية الترحيل. وجيل الأحفاد الذي لا يزال يعيش التجربة عبر روايات أجداده، يحاول نقل هذه الروايات نفسها إلى أبنائه.
ويؤكد آرا سيسريان، وهو ناشط أرمني لبناني، أن شعبه لا يزال مستمرا في حمل القضية «لكي لا تتكرر مثل هذه الإبادات على يد أنظمة أخرى في العالم». ويروي سيسريان لـ«الشرق الأوسط» تجربته العائلية مع الإبادة، التي سمعها من جديه لأبويه، وجدته لأمه، الذين نجوا من «الإبادة» وبقيت لديهم قصص مرعبة رووا بعض تفاصيلها لأحفادهم، وأبقوا بعضها الآخر لأنفسهم خوفا على براءة طفولتهم.
تبدأ القصة مع جد آرا لأبيه، الذي كان أستاذا تهجر من بلدته زيتون، وهرب إلى الأراضي السورية، حيث أقام في دير الزور التي شهدت أكبر المجازر بحق الأرمن ميتما لبنات الأرمن اليتيمات اللاتي تشردت بعد مقتل عائلاتهن، فآوتهن عائلات مدينة دير الزور من القبائل المسلمة. وأدار مع رفيقين له، هما أستاذان أيضا، الميتم المؤلف من منزل بغرف قليلة كانت كافية لجمع الفتيات اللاتي كانت أعمارهن تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات. واستمروا في عملهم إلى أن تمكنوا من إلحاق هؤلاء الفتيات بأقاربهن الناجين في مصر والأردن ولبنان، وأمنوا تبني من ليس لديهن أقارب. وهناك في دير الزور، نقب الرفاق الثلاثة للوصول إلى عظام وجماجم الضحايا الأرمن، وجمعوها في قبر جماعي واحد، ونصب تذكاري تحول في وقت لاحق إلى مزار للأرمن يستذكرون من خلاله «ضحايا الإبادة». بعدها انتقل الجد إلى حلب حيث استقر وتزوج وأنجب 8 أولاد، كبقية الأرمن الذين كانوا يردون على المجازر بالإنجاب قدر الإمكان.
أما جده لأمه، فهو من ديار بكر، وقد نجا مع عائلته لأن عائلة كردية أخفتهم في منزلها، وأمنت لهم طريقا للهرب بطريق أخرى غير قوافل الموت. لكن جدته لأمه التي كانت تبلغ من العمر نحو 10 سنوات، فقد شهدت المأساة الأكبر. يقول سيسريان إن الأتراك قبضوا على شقيقيها وهما في الـ15 والـ17 من العمر. وبعد ثلاثة أيام أرسلوا من يبلغ العائلة بأخذ الطعام لهم، فذهبت والدتها، وأخذت الطفلة معها لزيارة شقيقيها. وبينما هما تنتظران في باحة السجن مع الطعان، أحضر الشقيقان إلى الباحة، وأعدما أمامهما. بعد ذلك نقلت العائلة التي تبقت منها الجدة ووالدتها ووالدها العجوز عبر قوافل التهجير إلى حلب، لتكتمل معاناتهن مع ما شهدته من تعذيب وعمليات اغتصاب كانت تجري أمام الجميع، لكن أموال والدها جعلت النجاة من رحلة الموت ممكنة بفضل الرشى التي قدمها للجنود.
وفي حلب التقى والدار آرا، تزوجا، وانتقلا إلى لبنان حيث أنشأت عائلتهما الجديدة. يقول آرا إن جدته كانت قليلة الكلام، تتحدث قليلا عما شاهدته وعندما تهم بالبكاء، تتوقف عن الحديث وتذهب للصلاة. ويشير إلى أنه يروي هذه الحكايات لأولاده كي لا ننسى معاناة شعبنا، وكي نتعلم منها العبر. ويؤكد أنه - كبقية الأرمن - لا يحملون المواطنين الأتراك مسؤولية ما حصل، ولا يعتبرون أنه كان إبادة دينية، فلم يقتلونا لأننا مسيحيون ولأنهم مسلمون والدليل أن من أنقذنا دائما كانت العائلات المسلمة في سوريا وتركيا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.