محمد العوضي: الفيلسوف الألماني يطالبنا بحمل السوط على المرأة

نيتشه يثير نقاشًا حادًا في مؤتمر «ألق بصرك للقراءة»

الناقد السعودي محمد العباس والكويتي محمد العوضي في برنامج القراءة ({الشرق الأوسط})
الناقد السعودي محمد العباس والكويتي محمد العوضي في برنامج القراءة ({الشرق الأوسط})
TT

محمد العوضي: الفيلسوف الألماني يطالبنا بحمل السوط على المرأة

الناقد السعودي محمد العباس والكويتي محمد العوضي في برنامج القراءة ({الشرق الأوسط})
الناقد السعودي محمد العباس والكويتي محمد العوضي في برنامج القراءة ({الشرق الأوسط})

ألقى جمهور الثقافة في دولة الكويت نظرة على الكتب وما تحتويه من معرفة، وذلك استجابة لنداء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الذي أقام هذا المؤتمر على مدى يومين تحت عنوان «ألق بصرك»، بالتعاون مع مشروع «حرف» الثقافي وترأسه الناشطة الثقافية رزان المرشد، وتتبناه مجموعة من المثقفين. ودعي إلى الفعالية نخبة من الأدباء ورجال دين مهتمين بالقراءة وشخصيات اجتماعية من داخل الكويت وخارجها، يحملون أفكارا مختلفة من شتى الاتجاهات. وربما أنه النشاط الأميز حتى الآن لمجلس الثقافة، وذلك لندرة الفكرة وتميزها.
المؤتمر أقيم تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر مبارك الحمد الصباح وافتتحه وزير الإعلام ووزير الدولة لشؤون الشباب الشيخ سلمان صباح سالم الحمود الصباح، واستمر ثلاثة أيام متضمنا ندوات أدبية وفكرية وأمسيات شعرية وورش عمل للكتابة والقراءة وحفل غنائي للفنان اللبناني مارسيل خليفة.
وتقوم فكرة مؤتمر «ألق بصرك» حسبما وصفها وزير الإعلام على تبني «استراتيجية وطنية لتشجيع الناشئة والشباب، وغرس وتعزيز دورها في لغة القرآن الكريم، عبر التعاون والتنسيق بين المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب والجمعيات والكيانات التربوية، عملا بمبدأ المشاركة الوطنية.. وإن المؤتمر يشكل دعوة للالتفات إلى الكتاب لنتخذ منه رفيقا في الحياة وجسرا للارتقاء بالفكر المستنير ووسيلة خلاقة لتطوير علاقة الإنسان بالحياة عبر التواصل الثقافي والبشري».
وشهد المؤتمر حراكا كبيرا، كان أبرزه المحور الذي تحدث فيه الدكتور محمد العوضي والناقد محمد العباس، حيث جرى نقاش حاد وتبادل بعض الجمهور الاتهامات للمحاضر العوضي بأنه يجرح الفلاسفة والمفكرين، وذلك بعد انتقاده للفيلسوف نيتشه تحديدا، فما الذي جرى بالضبط، وما وجهة نظر العوضي؟
«الشرق الأوسط» اتصلت بالدكتور محمد العوضي الذي قال: «كل ما هنالك أنني أوضحت لهم حقائق عن نيتشه بعضهم لا يعرفها، وأحضرت معي كتبا تتضمن ما قاله نيتشه عن المرأة مثل أنها في أحسن حالاتها بقرة، وأنه يتوجب عليك أن تذهب إلى المرأة والسوط معك». هذا الكلام حسبما يقول العوضي في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط»، أثار حفيظة بعض الجمهور، ويضيف: «دعوت في الندوة إلى تحرير المصطلح وألا ننبهر بالأسماء قبل أن نقرأ لها، فلا بد من التزام المنهج بل القراءة أو معها، وأن نأخذ بعين الاعتبار القواعد المعرفية والعقلية الضابطة للقراءة، واتفقت مع زميلي في المحاضرة محمد العباس في بعض النقاط واختلفت معه في نقاط أخرى، فاتفقنا على سلبية الثقافة الاستهلاكية، واختلفنا حول نيتشه».
ويقول د.العوضي، كانت بداية النقاش الحاد في الندوة حين سألني أحدهم إن كنت زرت نيتشه، فقلت له بأنني زرت بيته فقال لي: «هذا شرف لك»، فقلت له: «أي شرف؟، فهو فيلسوف يعلن صراحة عداءه للمرأة ويتبنى فلسفة القوة، وهو رجل عدمي، وليس تنويريا، يسقط الكليات وينصب القوة بشكل سلبي». ويتابع د.العوضي بأنه ذكر نصا للرافعي يفيد بأن «نيتشه فيلسوف تركته الإنسانية مجنونا فأراد أن يتركها مجنونة». واستدرك د.العوضي بأنه يقصد الجنون الفلسفي وليس المرضي. ويشير د.العوضي إلى أن موقف نيتشه من المرأة لا يفهم إلا في ظل قراءة الفيلسوف شوبنهاور الذي بدوره يحتقر المرأة ويعد من ألد أعدائها.
ويرى د.العوضي في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن نيتشه تبنى هذا العداء للمرأة نتيجة فشله في الحب أكثر من مرة، وأن الكثير من الفلاسفة الذين كان بعض الحضور ينبهر بهم، هم من المعادين للمرأة، مثل فرويد وداروين ونيتشه نفسه.
هذا وتضمن المؤتمر أنشطة استهلت بمعرض للكتاب ثم ندوة ضمت عدة محاور هي: «مفهوم القراءة وبيان هوية القارئ ودوره في المجتمع» للدكتور أيمن بكر، ثم «التأويل وإشكالية فهم النصوص الأدبية والفكرية» لكل من الكاتب يوسف زيدان والدكتور سعد البازعي، وشارك الروائي أمير تاج السر بمحور «وسائل تشكيل الفرد القارئ»، بينما تحدث المترجم المعروف صالح علماني عن «حركة الترجمة»، ولم يفوت المؤتمر أيضا فرصة التطرق إلى الفن السابع، حيث تحدث المخرج وليد العوضي وغسان عبد الله عن «دور السينما الثقافي»، وكان المحور المثير للنقاش ذاك الذي قدمه الدكتور محمد العوضي والناقد محمد العباس بعنوان «القراءة: التوعية والتأصيل»، ومحور «تهميش وسائل الإعلام للثقافة» تحدثت فيه الشاعرتان الإعلاميتان سعدية مفرح وبروين حبيب، وتضمن المؤتمر أيضا حلقة نقاشية بعنوان «الرقابة والتأويل» لكل من الأكاديمي الدكتور الزواوي بغورة والكاتبة بشرى خلفان، كما تم إحياء للشاعر قاسم حداد قدمته سعدية مفرح، وأمسيات شعرية لشعراء شباب.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!