تابعنا كيف استطاع الراهب مارتن لوثر كسر سلطان الكنيسة الكاثوليكية وصياغة حركة الإصلاح الديني في الأراضي الألمانية، ولكن هذه كانت بداية لتفسخ وسط وغرب أوروبا إلى مذاهب مسيحية مختلفة كثيرًا، منها رافضة للمذهب الكاثوليكي ولقيادة الكنيسة في روما، وقد أثرت حركة لوثر في فتح المجال أمام ظهور مزيد من حركات الإصلاح المسيحي التي استمرت إلى يومنا هذا تؤثر في النسيج السياسي والاجتماعي، بل والاقتصادي لدول أوروبا، فلقد شجع مارتن لوثر الكثير من المتحفظين على ممارسات الكنيسة والرافضين لرؤيتها الضيقة والمتشددة في الديانة المسيحية على الجهر بآرائهم، وكان منهم شخصيتان مهمتان أثرتا مباشرة في نشر مزيد من المذاهب الرافضة وكان لهما أثرهما المباشر في نشر مذهبين بروتستانتيين هامين في أوروبا وهما المُصلح زوينغلي وجون كالفن، اللذان اتخذا من المدن السويسرية مركزًا لنشر مذهبهما الإصلاحي، خصوصا أن سويسرا كانت منقسمة إلى ثلاثة عشر «كانتونًا» أو مقاطعة بلا سلطة مركزية قوية، وهو ما منحهما هامشًا من الحركة والحرية مقارنة بدول أوروبية أخرى لها سلطة مركزية قوية مرتبطة بشكل مباشر بسلطان الكنيسة في روما.
لقد بدأ زوينغلي حركته الرافضة بعد مارتن لوثر مباشرة، فبدأ حياته دارسًا ثم قسًا، ثم اتجه للتفكر بعدما رفض ممارسات الكنيسة، وبعدما أصبح راعي كنيسة «زيورخ» رفض فكرة بيع الصكوك للحصول على الغفران باعتبار أن الله هو غافر الذنوب وليس للكنيسة أي دور في هذا الإطار، ومثل لوثر قام زوينغلي بطرد مندوب البابا المكلف ببيع صكوك الغفران من المدينة، وبدأ بذلك حركة إصلاح ديني خاصة به، فقام بكتابة سبع وستين رسالة يضع فيها فكره للعودة بالمسيحية إلى أصولها، فكان مرتكز فكره هو كون الإنجيل مصدر الإيمان الوحيد، رافضًا التفسيرات المختلفة والمشتقات الفكرية التي دونت على مدار العصور والتي ركزت السلطة في أيدي البابا والسلك الكنسي، وقد ضرب الكنيسة ضربة إضافية بالتأكيد على أن الخلاص منبعه العلاقة المباشرة بين العبد وربه وأساسه الإيمان بمعتقدات المسيحية الأصلية، كما رفض الزخارف الفكرية والعملية والتجميلية للفكر المسيحي والكنسي على حد سواء، وكذا دور السلك الكنسي والوسطاء بين العبد والإله من القديسين وغيرهم، كما رفض فكرة الأديرة ودورها.
وعلى الفور تجمع الكثيرون حوله ممن وجدوا في فكره منطقًا مقبولاً، كما بدأت المراسلات بينه وبين مارتن لوثر في ألمانيا، وجرت محاولات كثيرة لتوحيد المذهبين بما في ذلك لقاءٌ جمعهم في مدينة شتراسبورغ، ولكن كل الجهود فشلت بسبب الخلاف حول نقطة محورية واحدة وهي الخاصة بالتناول والذي بمقتضاه يتحول الخبز والنبيذ إلى دم وجسد السيد المسيح عليه السلام، فعلى حين أصر لوثر على الإبقاء على التفسير الحرفي لمقولة السيد المسيح، رأى زوينغلي ضرورة أن يتم تفسير هذا النص على اعتباره رمزيًا وليس حرفيًا هدفه إحياء ذكرى العشاء الأخير والتذكرة بالسيد المسيح عليه السلام، وهو ما وضع بداية تفسخ الحركة البروتستانتية في أوروبا، ولكن العداء الحقيقي لزوينغلي وفرقته كان من الأمراء والملوك الكاثوليك وليس من الحركة اللوثرية، وبالفعل اندلع الصراع في بعض المقاطعات السويسرية حتى عام 1531 عندما هُزمت قوات زوينغلي ومات الرجل في المعركة، وعلى الرغم من ذلك فإن مذهبه بقي في سويسرا والتي كانت من أوائل الدويلات الأوروبية التي أقرت حق ممارسة الشعائر الدينية واختيار المذهب الديني.
أما جون كالفين فقد ولد في فرنسا وبدأ حياته على درب الرهبنة، ولكن والده سرعان ما غير مستقبل الابن وجعله يدرس القانون ليصبح محاميًا، وعلى الرغم من أنه لم يكن منخرطًا في الفكر الديني، فإن فرنسا في بداية عصره كانت قد بدأت تعاني بقوة من الحركات الرافضة للكاثوليكية، إذ انتشرت مذاهب مختلفة معروفة في التاريخ الفرنسي باسم الـHuguenot، وعلى الرغم من أنه كان رافضًا لفكر مارتن لوثر في بداية حياته، فإنه تأثر كثيرًا عندما رأى عملية إعدام أحد المنشقين عن الكنيسة حرقًا بالنار، وهنا بدأ كالفن يدرك خطورة مثل هذا التطرف وبدأ الشك يساوره في تعاليم وسلوكيات الكنيسة، وزاد من قناعته اعتناق كثير من أصدقائه لأفكار رافضة للكنيسة الكاثوليكية، ونتيجة لعلاقته بالمنشقين عن الكنيسة تم اتهامه زورًا ففر هاربًا في 1534 إلى مدينة بازل السويسرية، وبدأ الرجل يتفكر ويتأمل إلى أن وصل إلى قناعة بأن البابا وكنيسته قد ضلا الطريق تمامًا، وقد وضع أفكاره في عام 1536 في كتابه الشهير «مؤسسة الديانة المسيحية» الذي تمت ترجمته للفرنسية بعد ذلك في 1541 وأهداه إلى فرانسيس الأول ملك فرنسا في محاولة لاستمالته نحو الإصلاح ومنح الشعب الفرنسي حرية اعتناق المذاهب، ولكنه سرعان ما أدرك أن المؤسسة الملكية كانت كاثوليكية تمامًا، فتم حرق الكتاب على اعتباره رمزًا للكفر والهرطقة، ومع ذلك فإن هذا الكتاب أصبح ركنًا هامًا من أركان الحركة البروتستانتية الرافضة للبابا وكنيسته.
قرر كالفن أن يهاجر إلى مدينة شتراسبورغ، وبينما كان الرجل في طريقه إليها توقف في مدينة جنيف والتي كانت في حالة فوضى عارمة بسبب انتشار حركة الحريات الواسعة والتي جاءت كرد فعل للتشدد الكاثوليكي، فعم الفساد الأخلاقي في المدينة بشكل مريع، وعندما مر كالفن على المدينة سعى الإصلاحيون إليه لينشر مذهبه ويمهد لعودة المدينة إلى طريق الهداية، وقد سلموا له أمرهم وبدأ الرجل يسعى لوضع مذهبه الديني حيز التنفيذ، ولكن الحركة التحررية كانت أقوى من التيار الإصلاحي، فثارت المدينة عليه ثورة عارمة بسبب تشدده الديني فاضطر الرجل إلى الفرار إلى مدينة شتراسبورغ في عام 1538م، حيث بقي هناك لمدة ثلاث سنوات وتزوج في المدينة وبدأ في مراجعة وتطوير كتابه وفكره مرة أخرى.
لقد اعتمد فكر كالفن الديني على بعض الركائز الأساسية وعلى رأسها التفسير الضيق والعميق للإنجيل باعتباره مصدر الإيمان والسلوكيات، ولكن الرجل كان أكثر تشددًا من غيره من الإصلاحيين في تفسير الإنجيل، حيث فسره في أضيق الحدود، فمال إلى رفض كل ما ليس محللاً في الإنجيل، وكان مؤمنًا بضرورة معاقبة أي فرد يخرج عن الدين، كما تخلص تمامًا من الزخرفة الفكرية والفنية في الكنائس، كما أنهى السلك الكنسي المبني على النظام الكاثوليكي، كذلك فقد ارتكن كالفن إلى العهد القديم للوصول إلى الله أيضا فكان ذلك بمثابة خروج عن الفكر البروتستانتي التقليدي، ولكن أهم ما قدمه كالفن في فكره كان مفهوما مشابها لمفهوم الجبرية في المسيحية، فعلى الرغم من قناعته بأن الخلاص يتم من خلال الإيمان فإنه ليس كل مؤمن على موعد مع الجنة، فداخلو الجنة قد حسم الله أمرهم من قبل ميلادهم لأنه خالقهم ويعرف سلوكياتهم مسبقًا، فدخول الجنة مرتبط بالإرادة الإلهية أكثر منه بسلوكيات الفرد، وهنا ارتكن كالفن إلى الفكر التقليدي «للقديس أغسطس» حول نظرية أن الإنسان مسير وليس مخيرًا، ولكنه أخذ الفكرة إلى أبعد من ذلك بكثير في مسألة الخلاص ودخول الجنة، ولكنه رغم ذلك فرض فكرة ضرورة أن يعمل كل فرد بما ورد في الإنجيل ويسعى لتحسين مجتمعه.
وعلى الرغم من تشدد المذهب الكالفيني، فإنه بدأ يلقى اهتمامًا خاصًا في مدينة جنيف، حيث دعاه ممثلو الفريق الإصلاحي إليهم مرة أخرى ليتولى أمر المدينة بعدما فسدت تمامًا وانتشرت الرذيلة في أرجائها، وفي عام 1541م لسبب غير معروف عاد «كالفين» إلى جنيف، حيث سيطر على المدينة تمامًا وطبق فيها رؤيته لما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة بشكلها الواسع، وتمثل الفترة التي بقي فيها كالفن في جنيف تجسيدًا لحالات غير كثيرة من النظام الثيوقراطي البحت في أوروبا بعد اعتناقها المسيحية، فإذا كانت الدول الأوروبية تعاني من وجود نظام سياسي وآخر ديني يتصارعان تارة ويتصالحان على حساب الشعب تارة أخرى، إلا أن الطريقة التي حكم بها كالفن المدينة عكست سيطرته الكاملة على مقاليد الحكم فيها وما حولها، فلقد أنشأ تنظيمين لإدارة المدينة، الأول ديني يقوم هو برئاسته، والآخر مدني يتم انتخابه، ولكن مع مرور الأشهر سيطر كالفن على الاثنين معًا، وبدأ يضع القوانين الخاصة بالمدينة من خلال تطبيق حرفي للعهد الجديد، وفرض عقوبات قاسية على كل مظاهر الترف في المجتمع، فمنع المسرح إلا لو كان يعرض مسرحية واردة في العهد الجديد، كما تشدد كثيرًا في الحريات العامة وقام بحرق السحرة وكان يعتبر نفسه وكيل الله في الأرض، ومع ذلك فقد كان شخصًا رقيقًا على المستوى الاجتماعي محبوبًا من العامة، وقد استمرت مدينته الفاضلة إلى أن توفى في عام 1564، ولم يستمر الهيكل السياسي - الديني الذي وضعه طويلاً، فسرعان ما بدأت السلطة المدنية تستعيد زمام الأمور، خصوصا بعد اختفاء الشخصية الكاريزمية لكالفن، فعادت جنيف مرة أخرى إلى السيطرة المدنية، ولكنها أبقت كثيرًا من تعاليم الكالفينية، التي مثلت حجر الزاوية للحركة الإصلاحية الدينية في أوروبا، خصوصا في شرق فرنسا بعدما اتحدت سياسيًا مع حركة الـHugenout وفي إنجلترا من خلال ما عرفوا بـ«التطهيريين Puritans»، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لحرب أهلية انتشرت في كثير من الربوع الأوروبية، فكان لها دورها المباشر في بداية حرب أهلية ضروس في فرنسا كما سنرى.
استمرار حركة الإصلاح الديني في أوروبا
استمرار حركة الإصلاح الديني في أوروبا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة