مارتن لوثر واندلاع العاصفة (2)

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

مارتن لوثر واندلاع العاصفة (2)

مارتن لوثر
مارتن لوثر

تابعنا كيف وقف الراهب الشاب مارتن لوثر أمام فساد الكنيسة من خلال رفضه عمليات بيع الكنيسة صكوك الغفران للعامة ضمانا لعفو المولى عنهم أو عن ذويهم اتقاء لعذاب المطهر أو الآخرة، وقد قام بتعليق رسائله الخمسة والتسعين على كنيسة فيتنبورغ في ألمانيا في عام 1517، ويفند فيها أسباب فساد الكنيسة وإفسادها للرعية من خلال هذه العملية، واصلا إلى قاعدة فكرية مهمة كانت مغيبة عن عمد في الكنيسة، وهي أن الخلاص يبدأ بالتوبة والندم، وأن الله هو واهب الغفران، وأنه لا حاجة لوساطة أحد، وعلى رأسهم البابا وكنيسته.
وعلى الرغم من أن البابا لم يكن مستعدا لقبول مثل هذه المعارضة من قبل من هو في أسفل السلم الكنسي، من وجهة نظره، أو غيره، فإن حركة الاعتراض التي قام بها الراهب الشاب فتحت الباب على مصراعيه أمام الرغبة في التغيير التي كانت طبقة واسعة من الملوك والأمراء الألمان يشتاقون إليها، بينما كان المفكرون يتمنونها، والرعية ترغبها ولكنها تخشى الخوض فيها.
بمجرد أن قام مارتن لوثر بطرح معارضته، تم عرض الأمر على البابا الذي لم يكن يتخوف كثيرا في بداية الأمر ولم يدرك الخطورة، خاصة أن الكنيسة لم يكن غريبا عليها أمثال مارتن لوثر، وكان أهمهم «Huss» الذي تم إحراقه بعد محاكمته بتهمة الهرطقة ومعارضة الكنيسة.. ولكنه لم يكن يدرك أن بعض الأمراء الألمان رأوا في مارتن لوثر أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي الذي كانوا ينشدونه، خاصة فريديريك الحكيم، الذي كان ضمن سلسلة من الأمراء الأقوياء ممن يقومون باختيار الإمبراطور، حيث رأى الرجل في هذه الحركة فرصة مواتية للإطاحة بسلطان الكنيسة، ولذلك سعى على الفور لأن تكون محاكمة مارتن لوثر في الأراضي الألمانية وليس في روما حماية له من بطش البابا.
وبالفعل انعقدت المحاكمة في مدينة أوجسبورغ، لكنها لم تسفر عن شيء محدد؛ حيث رفض مارتن لوثر التنازل عن آرائه. وفي عام 1519 جرى حوار آخر بينه وبين ممثلي الكنيسة، انتهى مرة أخرى برفض التراجع عن أفكاره، مؤكدا أن الكتاب المقدس لم يشتمل على أي فقرة تشير إلى سلطة البابا في منح الغفران، ولكنه لم يدرك أن محاكميه استدرجوه لكي يعلن رفضه لحرق «Huss»، فأصبح بذلك مدانا، وتم عزله كنسيا ومنحه 60 يوما للتوبة، ولكن الرجل كان عاقدا العزم على الاستمرار في موقفه، وعندما جاء قرار البابا بذلك، قام بحرقه في ميدان فيتنبورغ أمام الكنيسة نفسها التي علق عليها رسائله، ثم كرس وقته لمهاجمة الكنيسة وسلوكها، ووصفها في كتابه الشهير «الأسر البابلي للكنيسة» بأنها خرجت عن النص المقدس، ورفض كل الطقوس التي أضافتها الكنيسة إلى سلطانها باستثناء التعميد والتناول.
واقع الأمر أن الإمبراطور الألماني تشارلز الخامس كان منهمكا في صراعاته الداخلية، وتأخر كثيرا في التحرك لاحتواء حركة لوثر، وعندما بدأ يستفيق تدريجيا في عام 1521 دعا إلى مجلس في مدينة فورمز، وطلب مثول مارتن لوثر أمامه؛ حيث طلب منه مرة أخرى التراجع عن أفكاره، ولكنه أعاد التأكيد على موقفه مرة أخرى. وعند هذا الحد بدأت مرحلة صراع مفتوح بين الرجلين، وفي طريق عودته من المجلس وحماية له، قام فردريك الحكيم باختطاف مارتن لوثر وتحديد إقامته بعيدا عن أيدي الكنيسة والإمبراطور، حيث تم استبقاؤه في أحد القصور التابعة له لمدة عام؛ حيث عكف على ترجمة العهد الجديد ليستطيع العامة التعرف عليه بلا أي تدخل خارجي؛ حيث كان القداس الإلهي والمواعظ تتم باللغة اللاتينية من قبل الكنيسة للحفاظ على سلطانها بصفتها مسفرا مطلقا للكتاب المقدس. وفي هذا المكان بدأ مارتن لوثر يضع المبادئ الأساسية لمذهبه الجديد، فكان أول ما طالب به هو رفض مفهوم الرهبنة من الأساس، وتأكيدا لذلك تزوج من إحدى الراهبات التي اقتنعت برأيه وهربت من الدير، فكان من ضمن تعاليمه الإضافية أيضا رفض كل أنواع التزين في الكنائس، لأن بيوت الرب يجب ألا تزخر بالثراء الدنيوي من الذهب والفضة، كما تنصل تماما من رفات القديسيين الذي رأى أنه يخالف العقيدة المسيحية، وأكد على العلاقة المباشرة بين الله والعبد دون الحاجة لوجود وساطة الكنيسة التي يقتصر دورها على التعريف بالدين. كما رفض كثيرا من الطقوس التي كان البابا يقوم بها، وأدخل اللغة الألمانية أداة للتخاطب بين الكنيسة اللوثرية والعامة.
وبعد خروجه من العزلة، بدأ الرجل يجهر، وبدأ مريدوه يأتونه من كل اتجاه، وبدأ الأمراء يؤيدونه أيضا للتخلص من نفوذ الكنيسة عليهم وعلى ممتلكاتهم ورعاياهم، خاصة أن الرجل أكد على أهمية إعادة زمام السلطة للملوك والأمراء بعدما طغت عليها السلطة الروحية للكنيسة.
وكما هي الحال في الثورات الفكرية أو الدينية، فإن تبعاتها الاجتماعية والسياسية لا تنتهي باندلاعها، فعلى غرار الملوك والأمراء، رأى المزارعون ضرورة استغلال هذه المتغيرات لنيل حقوقهم؛ حيث كانوا يعانون بشدة من وطأة العيش في النظام الإقطاعي القاسي، وكانت هناك فئة غير قليلة منهم لا تزال تعاني من السخرة، فكانوا يعيشون في شظف وفقر شديدين، واندلعت نار الثورة تنهش في الإقطاعيات الألمانية؛ حيث لجأ المزارعون للثورة المسلحة من أجل الحصول على المطالب بالتحرر أو خفض الضرائب أو التحرر من السخرة، وقد رأوا في مارتن لوثر وتعاليمه ضالتهم، ولكن المصلح الديني لم يؤيد ثورتهم، بل حاول في البداية احتواءها من خلال الوساطة، ولكنه فشل، فانضم إلى النخبة والنبلاء والملوك ضدهم، وأدان ثورتهم، وأقر حق استخدام القوة ضدهم، وبالفعل أخمدت ثورتهم بعد مقتل ما يقرب من مائة ألف مزارع، وهو ما أثر سلبا على هذه الحركة الوليدة، حيث رأى كثير من المزارعين أنها لا تحقق أمانيهم، ولكنه في حقيقة الأمر كان مصلحا دينيا فقط، ولم تدخل تعاليمه في السياسة والنظم الاجتماعية إلا بالقدر القليل وكلما استطاع تفادى الأمر.
وقد اشتعلت الأقاليم الألمانية بحالة من الانقسام الديني بين مؤيد للمذهب اللوثري ومؤيد للكنيسة الكاثوليكية، وبات الصراع وشيكا مرة أخرى حول المستقبل الديني لهذه الأقاليم، وفي عام 1530 قام الإمبراطور بمحاولة أخرى لرأب الصدع بين رجال الكنيستين، وعقد مجلسا في مدينة أوجسبورغ مرة أخرى، حيث صاغ أحد معاوني مارتن لوثر صيغة توافقية يمكن أن تمثل حلا وسطا بين الكنيستين، ولكن البابا في روما رفضها تماما وأصر على القضاء على هذه الحركة الثائرة داخل كنيسته، وكان ينتظر تفرغ الإمبراطور ليضع الجنود تحت إمرته للقضاء على هذه الحركة الرافضة بقوة السلاح، وفي عام 1546 اندلع الصراع المسلح في الأقاليم الألمانية بين قوات الإمبراطور نيابة عن البابا في روما من ناحية، والقوات التي شكلتها المقاطعات المؤيدة لمارتن لوثر، واستمرت هذه الحرب حتى عام 1555 عندما عقد ما هو معروف باسم «صلح أوجسبورغ» بعدما أيقن الإمبراطور أن الصراع العسكري لن يحسم الأمر، وهنا تم إقرار مبدأ مهم للغاية أثر مباشرة في مستقبل أوروبا؛ بل غيره تماما من الناحية السياسية، وهو مبدأ «من يملك، يحدد المذهب» والمعروف باللاتينية باسم «cuius regio eius religio»، فكان هذا بداية لمفهوم «السيادة» في القانون الدولي، وبداية فكرية وعملية لمفهوم «الدولة القومية» المبنية على مؤسسات مدنية، ومنذ ذلك التاريخ صارت أوروبا على دربها السياسي الذي تطور على النحو الذي نعرفه اليوم.
وهكذا نجح مارتن لوثر في تغيير دفة التاريخ الحديث لأوروبا ووضعها على نهج مختلف تماما عما كانت عليه، فلقد كسر وحدة الكنيسة الكاثوليكية وحلمها الكبير المتمثل في «إله واحد.. إمبراطور واحد»، وهنا يمكن القول إن مارتن لوثر هو الذي أخرج أوروبا من مفهوم الأممية ومهد لمفهوم الدولة السيادية، وقد كان من نتائج حركة هذا الرجل أنه فتح الباب على مصراعيه أمام التعدد المذهبي في أوروبا، الذي كان له أكبر الأثر في ظهور فكر مختلف في بعض دولها.. كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.