تجارب وجدانية.. من بيروت الى واشنطن

«حضارات بلا حدود» لمي ريحاني

تجارب وجدانية.. من بيروت الى واشنطن
TT

تجارب وجدانية.. من بيروت الى واشنطن

تجارب وجدانية.. من بيروت الى واشنطن

لا يسع القارئ المتأني لمؤلف مي ريحاني عن الأحداث التي عاصرتها والتجارب التي اختبرتها إلا أن يتأمل بدور القدر، من جهة، ودور الإنسان، من جهة أخرى، في تحديد مسار حياته.
مي ريحاني سليلة عائلة كان الفكر والكتابة من أعمدة دارها في بلدة الفريكة في لبنان. ولو كان عمها، الكاتب والمؤرخ الراحل أمين الريحاني، حيا يرزق، لاعتبر مي، على الصعيد الأدبي، خير خلف لخير سلف.
كتاب مي ريحاني «حضارات بلا حدود»، من منشورات دار «أوثور هاوس» الأميركية باللغة الإنجليزية، أكثر من مجرد سجل لنشاط سيدة لبنانية لعبت دورا رائدا على صعيد الدعوة إلى تعليم المرأة، وأكثر من مجرد تأريخ للأحداث والتحديات التي واجهت مسيرة «حياتيها»، الشرقية في لبنان والغربية في الولايات المتحدة. كتاب «حضارات بلا حدود» خلاصة تجارب وجدانية وجهد دؤوب قدمت فيهما مي ريحاني «الغير» على «الأنا» في العديد من مراحل حياتها.
تروي مي ريحاني بشغف ظاهر ذكرياتها عن سنوات الحرية الفكرية التي عاشتها في الجامعة الأميركية في بيروت في ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي. في الجامعة الأميركية، تخصصت في العلوم السياسية وتعاونت مهنيا مع رئيس تحرير صحيفة الجامعة «أوتلوك» آنذاك، زهير الفقيه، الذي شاءت الأقدار أن يلتقيها بعد عقود في واشنطن لتصبح شريكة حياته. والظاهرة اللافتة فيما يمكن قراءته بين السطور في مذكرات مي ريحاني أن أعباء سفرات الطويلة، وحتى مرضها في فترة ما، لم تحل دون متابعتها نشاطها على جبهتين: نظم القصائد الشعرية وتلبية التزاماتها العائلية.
مناخ الحريات الفكرية في لبنان الستينات والسبعينات شجع مي على خوض غمار العمل الصحافي، مهتدية بنصيحة والدها أن لا جدران ولا حدود للكتابة، ومن خلالها يستطيع المرء أن يبلغ أقصى آفاق الحرية... فكان أن نشرت أول مؤلفاتها «حافرون على الأيام» عام 1969 وحولت منزل العائلة في الفريكة إلى منتدى أدبي أسبوعي.
إلا أن المناسبة التي أشرت إطلالتها على عالم ما خارج حدود الوطن، كانت مشاركتها في مؤتمر دولي للشباب في بوخارست عام 1974 فقد كشف لها هذه المشاركة أهمية تأثير التطورات الدولية على حياة الشعوب والأفراد معا. ثم جاء اندلاع حرب لبنان الأهلية عام 1975 ليثبت لها أن لبنان ليس مجرد مساحة جغرافية بل فسحة ثقافية تترعرع فيها الحرية والتعددية.
شؤون المرأة كانت - ولا تزال - الشغل الشاغل لمي ريحاني، خصوصا بعد أن ساهمت بإجراء بحوث حول أوضاع المرأة في الدول النامية أتاحت لها وضع قائمة مرجعية بأحوالهن في دول العالم الثالث. مع ذلك، شكلت تجربتها الأكاديمية في الجامعة الأميركية في واشنطن اختبارا آخر لمواهبها المتعددة ولأسلوب تعاطيها مع شريحة طلابية متعددة الجنسيات والذهنيات.
تجربة تدريس طلاب من جنسيات مختلفة في الجامعة الأميركية ساهمت حتما في توسيع نطاق نشاط مي الأكاديمي، فبين عامي 1991 و1992 شاركت مي ريحاني، وفريق عملها، في إطلاق برامج تربوية في العديد من الدول النامية بينها مصر والسنغال وليزوتو وأوغندا، ولاحقا في تأسيس مدرسة لتعليم البنات في بلوخستان (باكستان)، عام 2002، وبتمويل من هولندا.
إلا أن السياسة التربوية التي جذبت اهتمام مي ريحاني أكثر من غيرها كانت البرنامج الطموح للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الهادف إلى تطوير قطاع التعليم العام في المملكة السعودية، والذي وصفت واضعيه «بالواقعيين من ذوي الرؤية المسقبلية» بعد أن اطلعت عن كثب على برمجته برفقة سبعة من الخبراء التربويين الدوليين زاروا المملكة لهذه الغاية عام 2010.
«حضارات بلا حدود» كتاب شيق يوحي لقارئه بأن عصر العولمة هو عصر انهيار الحدود المصطنعة بين الحضارات العالمية وعصر انفتاح المرأة العربية المسلحة بالمعرفة على عالم العولمة بوعي إنساني وقومي.



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.