لم يكن سهلا على أحد تحقيق فيلم عن أي من روايات توماس بينشون السابقة. كانت كتابته عصية على الترجمة إلى صور كونها لا تكتفي بخلق حبكة بل تغمرها بالحبكات الجانبية وبالأفكار الاجتماعية والسياسية بحيث يصبح من المتعذر، أو هكذا اعتقد كثيرون، تحقيق فيلم عنها، لأنه إذا ما تم الاكتفاء بالحبكة الرئيسية باتت المادة خفيفة وغير مغرية لعمل سينمائي، وإذا تم الحفاظ على الخيوط الشخصية والجانبية الكثيرة، أصبح العمل صعب التحقيق بسبب هذا الأسلوب تحديدا.
الرواية الوحيدة التي تحولت إلى فيلم تجرأ صاحبه على نقله إلى السينما هو «بروفستاند الخامس» الذي حققه الألماني روبرت برامكامب عن رواية بينشون الجديرة بالاهتمام «قوس قزح الجاذبية» Gravity›s Rainbow المنشورة عام 1973 وسط اهتمام أدبي ونقدي حافلين. الفيلم لم يجد أي احتفاء مواز لذلك.
هذا إلى أن قام بول توماس أندرسن بتحويل «عيب موروث» إلى فيلم ضمه إلى سيرته السينمائية المميزة بأفلام رائعة مثل «سيكون هناك دم» و«مانغوليا» و«السيد». أميركيا استقبل الفيلم جيدا مع وجود أصوات وصفته بأنه «أسوأ فيلم حققه أندرسن إلى اليوم». لكن معظم المرحبين بالفيلم اعتبروا المخرج جريئا في اختياره والفيلم ملهما من حيث عودته إلى الستينات حيث كمنت الحكاية: تحرٍ خاص (واكيم فينكس) يحقق في اختفاء شخصيات وجرائم قتل كما هي عادة كل تحر خاص آخر، لكن الجديد هنا هو تلك الركائز المهمة في عناصر الرواية والفيلم: التحري «هيبي» يواجه اليمين المتحفظ (ممثلا بشخصية تحر آخر إنما من الشرطة ذاتها يؤديه جوش برولين) والبيئة الاجتماعية الحاضنة هي بيئة نهاية الستينات (كما في الرواية) حيث كانت الموجة «الهيبية» في طريقها إلى زوال أبدي بعدما كانت احتلت رقعتها طوال ذلك العقد معبرة عن رفضها للحرب الفيتنامية (كما المؤلف نفسه في عريضة وقعها لجانب نحو 600 مثقف ونشرت في «ذا نيويورك تايمز») ودعوتها للحرية الشخصية إلى أكثر مدى. دعوة كان لا بد أن تثير معارضة غالبية الأميركيين وبينهم ليبراليين سابقين.
* جيل الوردة
لكن هذه المعارضة لم توقف سيلا من أفلام الهيبيز التي خرجت في ذلك الحين سواء قدمت شخصيات منمطة على هذه الصورة (رجال ونساء يرفعون أصابعهن في رمز للحرف V علامة النصر، ويرتدون الثياب المزينة بالورود ويتركون شعورهم تسترسل فوق أكتافهم راسمين ابتسامة نافذة بين ضبابيات الفترة ودخان لفائف الماريغوانا.
عدة أفلام انطلقت سنة 1968 لتقدم ملاحظاتها الأولى عن حياة «الهيبيز». المخرج الراحل باري شير قدم فيلما منسيا اليوم، لكن جريئا في ذلك الحين، عنوانه «فلتان في الشوارع» (الترجمة الأقرب لـWild in the Streets) حول ما يمكن أن يحدث لو وصل الشباب (دون الثلاثين) إلى البيت الأبيض وأصبح أحدهم رئيس جمهورية.
المخرج بلاك إدواردز صاغ السؤال على نحو أحداث كوميدية تقع في حفلة عادية تتحول، بوصول فوضوي يؤديه بيتر سلرز إلى كارثة بعنوان «الحفلة». والممثل جاك نيكولسون كان عمدة هذا النوع من الأفلام حتى قبل ذلك التاريخ إذ ظهر في عدة أفلام تعبر عن تلك الفترة خير تعبير مثل «ملائكة الجحيم على دراجات» (1967) و«سايك - أوت» (1958) وكلاهما من إخراج رتشارد رش. وفي عام 1969 ظهر في أهم هذه الأفلام وهو «إيزي رايدر» إلى جانب بيتر فوندا ودنيس هوبر الذي قام بتحقيق الفيلم عن كتابة له ولفوندا.
«إيزي رايدر» لم يكن كأفلام الدراجات السابقة. تلك كانت تقحم المشاهد في مقاربات إعجاب وبغض متبادلة للموجة الشبابية. لكن فيلم فوندا أراد تمجيدها عبر تقديمها كمفهوم اجتماعي لا يقصد أن يؤذي أحدا. نيكولسون هو المحامي الشاب الذي كان يمكن له أن يصعد درجات المهنة بعيدا عن هذه المتاهات. في يوم يلتقي بوايات وبيلي وهما يركبان دراجتيهما في رحلة عبر البلاد. يقلدهما نيكولسون ببراءة ويصبح ثالث الفريق الذي يتعرض على الطريق لهجوم المواطنين الشرسين. يسأل نيكولسون صديقيه الجديدين: «لماذا يكرهوننا؟»، يجيبه بيتر فوندا: «بسبب ما نمثله من حرية».
لكن المفهوم على صحته في هذا المجال ساذج لأن الموقف الأكثر شيوعا ليس مثاليا على النحو الذي تطوع به الفيلم. الهيبيون كانوا مع حرية الحب والعلاقات المفتوحة ومع التدخين الممنوع والمجتمع الخالي من القيود، يمينية أو يسارية. ربما موقفهم الأقوى الوحيد هو معارضة الحرب الفيتنامية، لكن تلك لم تنته بسببهم بل بسبب معارضة معظم الأميركيين لها وقد بدأوا باستقبال المزيد من القتلى والمعوقين عاما بعد عام من دون تحقيق نصر فعلي.
* نهاية مفتوحة
إذ حمل «إيزي رايدر» لواء الدفاع عن فكر هذه الجماعة جاء فيلم «وودستوك» التسجيلي (لمايكل وادلي، 1970) احتفاء كبيرا آخر، ولو أنه اكتفى بنقل وقائع الحفل الغنائي الكبير الذي أقيم حينها وشمل مئات ألوف الشبان الذين افترشوا أرضا قدمت إليهم لاحتوائهم، واعدين بعدم الفوضى وتنظيف المكان بعد مغادرتهم لـ3 أيام وليالٍ من العزف والغناء.
في الوقت ذاته، كان «بيلي جاك» يدافع عن الهنود الحمر الحاليين، وقد اشترك في فيلم دراجات نارية من قبل عندما لعب «ولدوا ليخسروا» Born Losers من إخراجه سنة 1976.
ما أسهم في كسر نجاح هذه الموجة فيلم خرج من لا مكان، حققه مخرج لم يحقق سواه ثم غاب هو جيمس ويليام غويريكو. الفيلم هو «إلكترا غلايد إن بلو» مع روبرت بلاك الذي يتقدم الفيلم مصنفا وضعه إذ نراه يرتدي بزته الرسمية كشرطي سير على دراجة في تلك الطرق الريفية والجبلية البعيدة. إنه يقوم بدوره كمواطن عادي، بل ربما كمواطن بسيط. في النهاية يطلق عليه أحد الهيبيين رصاصة بندقيته فيرديه على الفور.
هذه الرسالة التي تنتمي إلى اليمين بلا شك أنهت الجنوح في تصوير الهيبيين كحركة سلام وحب، ولو أن السينما لم تكف عن تصوير الفترة وما حملته من مواجهة بين تيارات الحياة السياسية في الولايات المتحدة المفتوحة منذ مطلع الستينات على كل آيديولوجيا وفكر بصرف النظر عن حجم شعبيته.
في السبعينات لاحظنا أن بطلة «قصة حب»، إلى ماكغرو، تنتمي إلى المفهوم ذاته عندما تلتقي بالمليونير رايان أونيل. آرثر بن قدم «مطعم أليس»، وهال أشبي «هارولد ومود»، وميلوش فورمان «هير» و«الإقلاع»، ودنيس هوبر عاد في دراما أخرى توعز بإثارة الموضوع ذاته في «الفيلم الأخير»، بينما حاول الرسام رالف باكشي الإحاطة بالأجواء ذاتها في «فريتز القط».
في الثمانينات، خفت الظاهرة كثيرا ثم خفت أكثر في التسعينات إلا إذا اعتبرنا «ذا دورز» لأوليفر ستون و«خوف وازدراء في لاس فيغاس» لتيري جيليام من تلك البارزة في مجال استعادة تلك الحقبة. لكن الأفلام التي تعود إلى تلك الحقبة المهمة، بما لها وبما عليها، لم تتوقف. قد يلخص عنوان فيلم حققه بروس بيرسفورد قبل 3 أعوام، وهو «سلام وحب وسوء فهم»، الكثير مما يمكن قوله في هذا التيار.
* عندما ندمت هوليوود
* في عام 1969 تشجعت شركة مترو - غولدوين - ماير وطلبت من المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني تحقيق فيلم «نقطة زابريسكي» وهو وافق، وكان فيلمه الأميركي الأول والوحيد. ما كان في بال هوليوود لم يخطر على بال أنطونيوني إذ ذهب إلى حد تأييد نسف المؤسسات الكبرى على أيدي الشبان المتمردين.