مكتبة الإسكندرية تطلق مشروعًا ضخمًا لتوثيق مسيرة الفن التشكيلي العربي

يلقي الضوء على رواده ويناقش علاقته بتراثه المحلي والمنجز الغربي

غلاف «الفن التشكيلي في عمان»  -  غلاف الفن التشكيلي في مصر  -  غلاف «الفن التشكيلي في السودان»
غلاف «الفن التشكيلي في عمان» - غلاف الفن التشكيلي في مصر - غلاف «الفن التشكيلي في السودان»
TT

مكتبة الإسكندرية تطلق مشروعًا ضخمًا لتوثيق مسيرة الفن التشكيلي العربي

غلاف «الفن التشكيلي في عمان»  -  غلاف الفن التشكيلي في مصر  -  غلاف «الفن التشكيلي في السودان»
غلاف «الفن التشكيلي في عمان» - غلاف الفن التشكيلي في مصر - غلاف «الفن التشكيلي في السودان»

قبل أيام من انطلاق معرضها السنوي للكتاب الذي تبدأ فعالياته في 26 مارس (آذار) الحالي وتستمر حتى 7 أبريل (نيسان) المقبل، أعلنت مكتبة الإسكندرية عن تدشينها مشروعا ضخما لرقمنة وتوثيق مسيرة الفن التشكيلي العربي، ورصد مساراته وتحولاته وسماته في كل الدول والعربية، وذلك في إطار تعاون المكتبة مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو).
ومن المقرر إطلاق المشروع في احتفالية تستضيفها قريبا المكتبة بحضور الدكتور عبد الله حمد محارب مدير الـ«ألكسو»، والدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية.
يوثق المشروع لما تضمه مكتبة الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي من إصدارات قيمة سواء في شكل كتب أو موسوعات حول الفن التشكيلي الحديث والمعاصر في العراق وقطر والكويت والبحرين وتونس وسوريا ومصر والأردن وفلسطين ولبنان والسودان والسعودية، وغيرها من البلدان العربية. وتقدم السلسلة لمحة تاريخية عن نشأة الفن التشكيلي في كل بلد، وأنواع هذا الفن، وعرضا لكل نوع منه، ومدارسه واتجاهاته، وعناصر الأصالة والإبداع فيه، ومدى تأثره بالمدارس الفنية التشكيلية الأخرى، وكبار ممثلي هذا الفن من الرواد والمعاصرين؛ مع تحليل نماذج من أعمالهم البارزة، وإرفاق نماذج مصورة إيضاحية لأنواع هذا الفن.
وتقدم المجموعة بهذا الشكل سلسلة من الدراسات تستوعب الإنتاج الفني العربي، في محيطه البيئي المحلي وتقاطعاته مع حركة الفن التشكيلي العربي في سياقها العام. كما تقدم خاتمة هذه السلسلة دراسة شاملة للاتجاهات والمدارس الفنية العربية المعاصرة وتقويمها، في سياق التيارات الفنية العالمية، وطبيعة التفاعل معها والتأثر بها باعتبار الفنون التشكيلية مجالا أساسيا من مجالات الثقافة الإنسانية وتعبيرا حضاريا متميزا عن قدرات الشعوب وخصائصها.
ويقدم الكتاب الخاص بالفنون التشكيلية في مصر، وهو من تأليف رشدي إسكندر وكمال الملاخ وصبحي الشاروني، مرجعا مفيدا لكل دارس أو باحث في ميدان الفنون الجميلة المصرية. ويتضمن الكتاب صور 66 لوحة وتمثالا تمثل جميع الاتجاهات التي ظهرت في الفنون الجميلة المصرية، لتوضيح هذه الاتجاهات والتطورات التي مرت بها.
ويتطرق الكتاب إلى الفنون التشكيلية في مصر ما قبل القرن العشرين، ومدرسة الفنون الجميلة، والمثال محمود مختار، وفناني الجيل الأول، والحركة الفنية في الإسكندرية، والتربية الفنية، وجيل التمرد والثورة، وحرب 1956 وتأثيرها على الفن المصري، والقضايا الفكرية في الفن المصري، والاتجاهات الفنية في مصر، وقضية الأصالة والمعاصرة.
ويعرج الكتاب على تجربة المثال محمود مختار باعتباره أول علامة مضيئة في تاريخ فن النحت الحديث بمصر عندما استطاع أن يبتكر الصيغة الجمالية الملائمة لتزاوج القيم الفنية – الأوروبية، وبخاصة الفرنسية، في القرن التاسع عشر، بالقيم الجمالية الفرعونية، ثم سخر هذا الابتكار للتعبير عن المرحلة الاجتماعية التي عاشها؛ مرحلة النهضة والبحث عن الشخصية المصرية في أعقاب ثورة 1919 الوطنية، فحظي فنه باحترام وتقدير الأوساط الفنية الفرنسية التقليدية، واكتسب في الوقت نفسه حماس وتأييد الجماهير المصرية التي أشعلت ثورة مصر الوطنية.
ويوضح الكتاب، أثر النموذج الغربي على الحركة الفنية في مصر، خاصة الاتجاهات والمذاهب التي ظهرت في الغرب خلال قرنين من الزمان، كما يلقي الضوء على التأثيرات المحلية ودورها في بلورة ملامح خاصة بالفن المصري، عبر استلهام التراث الفرعوني، والشعبي، والاتجاه التجريدي الإسلامي، والاتجاه التعبيري الاجتماعي، واتجاه الفانتازيا، والاتجاه الفطري.
وتضم المجموعة كتاب «الفن التشكيلي في السودان»، للدكتور راشد دياب. ولا تقتصر أهمية هذا الكتاب على كونه الكتاب الأول والوحيد في مجاله الذي يؤرخ للحركة التشكيلية في السودان، بل إن أهميته تنبع فيما تنبع من سعة اطلاع مؤلفه على تفاصيل هذه الحركة بكل جوانبها الفنية والتعبيرية والفكرية، وقدرته على جمع ما قد يبدو للوهلة الأولى شتاتا غير منتظم من المذاهب الفنية والمدارس التعبيرية والرؤى الفكرية، ووضعه في عمل تاريخي ونقدي يكشف الوحدة التي ينصهر فيها ذلك التنوع الثري الذي تعبر عنه تلك المذاهب والاتجاهات لتؤلف الصورة المتكاملة لفن تشكيلي عربي يكمل نفسه والصورة الأكثر شمولا للفن التشكيلي العربي المعاصر، مبينا أثر الفنون التقليدية والشعبية في الحركة التشكيلية السودانية المعاصرة، والصلة الحتمية بين تلك الفنون في بداياتها الأولى الشعبية وفي تجلياتها اللاحقة فنونا حديثة ومعاصرة، وبين الأرض التي نبتت فيها، كونها تشكل مهادا تاريخيا وبيئة وحضارة موغلة في القدم وثقافة مميزة بالعراقة. ويتناول الباحث المدارس والمذاهب والجماعات الفنية التشكيلية في السودان في جيل رواد الحركة التشكيلية المعاصرة، ثم في الأجيال اللاحقة فيما يسميه «جيل الوسط»، حتى المرحلة المعاصرة بما قدمته من إبداعات تشكيلية جديدة، مما يتيح له تناول موضوع الأصالة والمعاصرة في التشكيل السوداني.
ويعرض الكتاب سيرة عدد كبير من الفنانين السودانيين باختلاف اتجاهاتهم؛ ومنهم: عثمان وقيع الله، وأحمد محمد شبرين، ومجذوب رباح، وإبراهيم العوام، وحسين جمعان، ومحمد عبد الله عتيبي، وأحمد محمد عثمان، ومحجوب حسن العوض، وأحمد الشريف عبود، ومحمد الأشرف علي أبو سمرة، ومحمد علي الفاضلابي، وحسان علي أحمد، وحسين شريف.. وغيرهم.
وعن الفن التشكيلي المعاصر في الأردن، يبين المؤلف الدكتور إبراهيم النجار أبو الرب، أن الفن التشكيلي المعاصر في الأردن هو امتداد ورافد لحركة الفن العربي المعاصر، ويشارك هذه الحركة سماتها الفنية والفكرية، إضافة للمقومات والدوافع المشتركة. ويتناول الكتاب العوامل المؤثرة في شخصية الحركة الفنية في الأردن وسماتها، والفن التشكيلي المعاصر في الأردن وعلاقته بالفن العربي المعاصر، وأنواع الفن التشكيلي المعاصر، والاتجاهات الفنية في الفن التشكيلي المعاصر في الأردن.
ويقدم الكتاب دراسة تفصيلية لأهم الفنانين الأردنيين عبر مراحلهم المختلفة من حيث الأجيال؛ ومنهم: جمال بدران، وعفاف عرفات، ومهنا الدرة، وكمال بلاطة، وأحمد نعواش، وياسر الدويك، وعزيز عمورة، وسامية الزرو، والدكتور محمود صادق، وزكي شقفة، ومحمد مصطفى، وديانا شيمعونكي، وخالد خريس، ويوسف الحسيني، وعدنان يحيى، وسامر الطباع.. وغيرهم.
وعن الفن التشكيلي في اليمن، يغطي الكتاب أكثر من 30 عاما من تاريخ الحركة التشكيلية اليمنية، هو العمر بأكمله للحركة الفنية، ويتناول أشكالها وصيغها المختلفة من تصوير ورسم ونحت وسيراميك وجرافيك وكولاج وملصق. ويقدم الكتاب 59 فنانا يمنيا، عارضا سيرهم ومعرفا بتجاربهم ومحللا أبرز أعمالهم مشفوعة بصور فنية كثيرة لها.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!