بعد الروبوتات التي تجيب على أسئلتك، وتلك التي تعزف على آلة موسيقية، وغيرها التي تكتب الشعر أو تسطر خبرا صحافيا، تتقدم بسرعة الأبحاث على برامج بمقدورها بمرور الوقت أن توصلنا إلى روايات شبيهة بتلك التي يدبجها الإنسان، بعد أن تم إنجاز نصوص روائية بالفعل لكنها لا تزال تفتقر للحس الإنساني النابض والحساسية البشرية.
أمر لا يحبط عزائم البحاثة بل يدفعهم إلى مزيد من المحاولات الحثيثة والمستمرة منذ سنوات.
أكثر من أمر يعزز فرضية أن الروبوت الروائي بات ممكنا جدا. فالعمل على هذه البرامج الذكية يتم في أكثر من مكان وجامعة في العالم بشكل متزامن. ثمة باحثون في أميركا وروسيا وكندا ولندن ودبلن، يتسابقون جميعا على الوصول إلى النتيجة الأدبية الأفضل، وهناك برامج تعاون بين بعض الجامعات لتبادل الخبرات في هذا المجال الذي لا يزال شائكا. أما الأمر الثاني الذي يفترض أن يؤخذ بعين الاعتبار، فهو أن هذه المشاريع الإلكترونية ذات الطابع الأدبي، تأتي ضمن فورة جديدة للذكاء الاصطناعي، الذي سيصبح بعد سنوات قليلة مقبلة، جزءا أساسيا من يومياتنا. فقد تنبأ راي كيرزويل، مدير قسم الهندسة في شركة «غوغل»، بأن تصبح الكومبيوترات أكثر ذكاء من أي إنسان، بحلول عام 2029.
ومن الآن هناك روبوت شرطي، وآخر يساعد المعاقين، وثالث باحث في مختبر. هذا عدا الإعلان عن برامج ذكية يتم تطويرها بمقدورها أن تكتب تقريرا اقتصاديا من 15 إلى 20 صفحة في غضون دقائق قليلة، وهو ما كان يحتاج إلى مجموعة من الصحافيين لإنجازه، بحسب ما أعلن كريس هاموند، مسؤول في شركة «ناراتيف سينس» التي كما يدل اسمها على أنها متخصصة في مجال السرد.
وبالتالي فالسؤال اليوم، ليس حول إذا ما كانت الكومبيوترات ستكتب تحقيقات صحافية وتدبج روايات أدبية، وإنما هل ستكون هذه الكتابات بمستوى الفوز بجائزة «بوليتزر» للصحافة أو «البوكر» للرواية. على هذا السؤال يجيب كريس هاموند، بأن الموضوع الصحافي المتفوق الذي بمقدوره أن يحصد الجائزة الصحافية الأولى، سيكون ممكنا خلال 5 أعوام، لكن أحدا اليوم لا يستطيع التنبؤ بعدد السنوات التي تحتاجها الرواية المكتوبة إلكترونيا لتصل إلى النبوغ الإنساني المنشود.
يبدو أن المبرمجين يقتربون من الهدف، بخطى واثقة. كل يعمل على مجال معين ومحدد، ومحصلة النتائج التي سيتم التوصل إليها هي التي ستجعل الآلة قادرة على امتلاك ما يشبه المهارة البشرية التخيلية.
«لا شيء يدعو لأن يبقى الكومبيوتر عاجزا عن كتابة قصة»، يقول الكاتب كورت فونجت الخبير الذي عمل طويلا على تحليل البناء الروائي لعدد كبير جدا من الروايات.
باحث أميركي آخر، في مجال الرقميات الإنسانية من جامعة نيبراسكا، يدعى ماثيو جوكرس حلل آلاف الروايات، بحثا عن المفاصل الرئيسية التي تشكل بنية السرد، ليخرج بنتيجة أن 6 أنواع من العقد، هي تلك التي نجدها في أي رواية نقرأها. وقد خرج جوكرس بهذه النتيجة بعد عمل طويل على نصوص أدبية مكتوبة بالإنجليزية، صدرت على مدار مائة سنة، محاولا إيجاد المشترك بين مسارات الأحداث، طمعا في رسم العلاقات اللامرئية سواء على مستوى الأحداث أو الشخصيات، وكذلك رصد الفرق في الأسلوب، بعمل مقارنات بين الكاتب الذكر والكاتبة الأنثى.
وصل جوكرس إلى تحليل نحو 3500 نص، باستخدام برامج رقمية، وهو عدد هائل، بالتأكيد، كان يحتاج دهرا لولا القدرات الإلكترونية المستجدة.
حلل الرجل النصوص عبر إحصاء المفردات المفاتيح وتفنيدها، كما رصد الخطوط البيانية للمشاعر الإيجابية والسلبية، وبفضل معادلات رياضية تمكن من نشر رسوم توضيحية للعقد أو الحبكات الروائية.
يقول جوكرس: «في البداية أردت أن أعرف كيف تطور المحتوى العاطفي والانفعالي في الرواية، طوال مائة سنة، وتحديدا خلال القرن التاسع عشر. واكتشفت بمحض الصدفة أن المشاعر والأحاسيس التي رصدتها، بمقدورها أن تكشف لي الوصفة التي تصنع العقدة، في كل مرة».
هكذا يصبح النص الروائي بعد تحليله أشبه برسم لتخطيط القلب أو قياس ضغط الدم، بدل أن يكون مجموعة من الكلمات والعبارات المنمقة.
أبحاث جوكرس وزملائه في الجامعات والمختبرات التي أعلن عنها مؤخرا، ليست مفاجأة لأحد، فقد سبق لصاحب دار نشر «استول» الروسية في بيترسبورغ أن خاض تجربة التأليف الإلكتروني، وعمل مع مجموعة من المبرمجين طوال 8 أشهر، وأصدر بالاعتماد على برنامج «بي سي رايتر 2008» مجموعة قصصية اعتمدت على رواية تولستوي «أنا كارنينا» وأبطاله، لتأليف أول كتاب لم يسطره بشر، لكنه خضع للتصحيح من قبل كتاب، حمل عنوان «الحب الحقيقي» وأبصر النور عام 2008، ويبدو أن نسخه بيعت بآلاف. وأعرب الناشر حينها عن سعادته، لأن تكاليف تأليف الكاتب قد انخفضت إلى النصف ومدة إنجاز النص مكتوبا كانت قياسية للغاية.
أكثر من ذلك، ثمة مسابقة تجري اليوم في الولايات المتحدة الأميركية تحت عنوان الكتابة الجديدة،
حيث يتبارى مبرمجون لكتابة 50 ألف كلمة تحكي قصة متكاملة البنية السردية. وثمة من يقول إن هكذا مباريات، ستزيد حماسة العاملين في المجال، لبذل مزيد من الجهد، وربما في المستقل القريب سيزور القارئ معرض الكتاب للقاء مؤلفه الافتراضي / الروبوت، بدل ذهابه لمقابلة كاتبه المفضل الذي يوقع له نسخته.
الرهان الحقيقي هو على أن الآلة الذكية هي التي تساعد على ابتكار آلة أذكى منها، وبالتالي فإن كل نجاح في مجال التأليف الذكي الآلي، سيفتح الباب أمام نجاحات إضافية.
هناك تعاون بين عدة جامعات أوروبية في كل من لندن ودبلن وجورجيا، حول برنامج واحد للبحث في مجال السرد الأدبي الإلكتروني، فالباحثون باتوا يعون جيدا أن مهمتهم معقدة، وتحتاج لعمل جماعي ومتشعب للوصول إلى أهدافهم. وباختصار، فهم بحاجة لتحويل عملية الكتابة إلى مجموعة من الخوارزميات والعمليات الحسابية القائمة على الاحتمالات.
المهمة الأصعب هي كيف نعلم الكومبيوتر الخيال، والبحث عن الإجابات التي تعطي القارئ الرضا والنتيجة الجذابة، وقد تحمل له المفاجأة. كيف نعلم الكومبيوتر كل الاستعارات والكنايات التي نستخدمها، ونزوده بفرضيات للإجابة على عشرات آلاف الأسئلة، ونمنحه القدرة على تخيل المواقف، ونروضه على دفق الأحاسيس، والقدرة على التجريد، ونعوده على روح السخرية، والتعبير عن السخط والغضب. كل هذا يتم درسه في محاولة لحل التعقيدات نقطة تلو أخرى.
الباحث في جامعة دبلن طوني فييل ابتكر برنامجا يسمى «ميتافور ماجنت» بمقدوره أن يبتكر الاستعارات والسخريات، بعد أن لقن جهازه كل الاحتمالات التي يحتاجها والتي جمعت عن الشبكة الإلكترونية. أما فيما يتعلق بالإيقاع السردي، العقد الروائية، وبناء الشخصيات، فهي مشكلات أخرى، تركها لزملاء آخرين. ويقول فييل إن «المهمة الأصعب تبقى كامنة. فما لا يعرفه الكثيرون، إنه من السهل أن تبتكر حكاية بواسطة آله، فهذا أمر مفروغ منه لكن الصعوبة اليوم هي الوصول إلى رواية جيدة، تستحق القراءة».
ما يمكن أن يبلغه الذكاء الاصطناعي من أعاجيب سحرية، كان دائما الشغل الشاغل لصناع أفلام الخيال العلمي. اليوم جزء كبير من نبوءات هؤلاء تحقق والجزء الثاني يعد المبرمجون بأنه قيد الإنجاز. لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون، هل النصوص التي سيتم التوصل إليها، تشبه تلك التي نقرأها لفيكتور هوغو، أو مارسيل بروست أم أننا سنكون أمام أدب من نوع آخر مختلف تماما؟ وهل يفترض أن يتوجس الأدباء من أن يلغى دورهم ويفقدوا مواقعهم لصالح آلات لقنت سر مهنتهم، إلى درجة الاستغناء عنهم؟
ما يعنينا نحن كعرب في هذا الموضوع، أن الأبحاث تتقدم، والنصوص الأوروبية تدرس وتبرمج وتحلل ويتم استخلاص النتائج منها، فيما لا نسمع أن هناك أي محاولات عربية مشابهة. وبالتالي، ماذا سيفعل العرب، هل سيترجمون النتائج الغربية ويحاولون تطبيقها على أدبهم؟ وهل هذا ممكن؟ أم إن لكل لغة أدبها الذي يعتبر ضميرها، وفيه تكمن أسرار استعاراتها وتشابيهها ومجازاتها؟ وبالتالي فإن انتظار الغير هذه المرة، لن يكون مجديا، وكما تم العمل على اللغة العربية وبرمجتها والاجتهاد لتطويرها على الشبكة، أمام المبرمجين العرب والنقاد والأدباء مهمة رصد النصوص الأدبية ودراستها بدقة، واستخلاص النتائج والإفادة منها، قبل أن يستفيقوا ويجدوا أنهم حتى في الأدب خسروا الرهان.
نذكر فقط بأن النتائج الأولية للدراسات الغربية تقول من الآن، إن خير الروايات وأكثرها عبقرية ستكون تلك التي ستكتب بتعاون تخيلي ولغوي وأسلوبي، غير مسبوق بين الأديب وآلته الذكية. هذه الآلة التي ستتحول إلى ما يشبه مؤلف ثان شريك في كتابة النص.
«الروبوت الأديب» ولد لكنه يسعى لبلوغ العبقرية
مبرمجون في عدة جامعات غربية يتعاونون لتحقيق الحلم
«الروبوت الأديب» ولد لكنه يسعى لبلوغ العبقرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة