«الحشد الشعبي».. الولاء المزدوج

تأسست بفتوى من السيستاني لمقاتلة «داعش».. لكن انتهاكاتها حيرت العراقيين فتساءلوا: من العدو

«الحشد الشعبي».. الولاء المزدوج
TT

«الحشد الشعبي».. الولاء المزدوج

«الحشد الشعبي».. الولاء المزدوج

خلال حضوره جلسة برلمانية سابقة، كشف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن تعاون من نوع جديد بين جماعات أو فصائل مسلحة عابرة للطائفية. وفي سياق تحليله لقضية اختطاف النائب في البرلمان العراقي زيد الجنابي مع عمه الشيخ قاسم سويدان الجنابي (سني) من قبل ميليشيات شيعية، ومن ثم مقتله مع نجله وإطلاق سراح النائب، قال العبادي إن التحقيقات التي تجريها جهات أمنية في هذه الحادثة تشير إلى أن هناك أكثر من طرف متورط بهذه الحادثة، في إطار خلط الأوراق أمام المواطن العراقي الذي لم يعد يعرف من هو العدو.
ومع أن تلك الحادثة أدت إلى تعليق تحالف القوى العراقية (الكتلة السنية في البرلمان) مشاركته في جلسات البرلمان احتجاجا على ما عدته انفلاتا أمنيا وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على الأوضاع بسبب انتشار السلاح بيد الميليشيات إلا أن العبادي وإن لم يقل كل شيء إلا أنه أضاف، ربما دون أن يقصد، هما جديدا إلى هموم العراقيين عندما اعترف بوجود جماعات جديدة خارجة عن القانون.

رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي يسعى جاهدا لإجراء عملية فك ارتباط بين عناصر الحشد الشعبي وفصائله، وبين ما يشاع عما تقوم به الميليشيات التي كثيرا ما تختلط صورتها المشوهة في ذهن المواطن العراقي مع الحشد الشعبي الذي تحاول الحكومة والطبقة السياسية العراقية لا سيما الشيعية منها رسم صورة جيدة عنه.
العبادي وفي إطار مداخلة برلمانية أكد أن الحشد الشعبي مؤسسة عراقية ضمن منظومة الأمن الوطني العراقي. لكن العبادي اعترف في المداخلة ذاتها بوجود من وصفهم بالمندسين الذين «يحاولون الإساءة إلى انتصاراتنا بارتكاب جرائم على أمن المواطنين». ومع أن العبادي وصف الجرائم المرتكبة بأنها خطيرة إلا أنه هاجم في الوقت ذاته من يحاول «استغلال هذه التجاوزات أبشع استغلال بالكذب ونرى هذا في مواقع التواصل الاجتماعي هناك تزوير في محاولة للإساءة لقواتنا».
هذه النظرة انسحبت على سير المعارك التي يقوم بها الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنية من العراق على إثر احتلال تنظيم داعش لمحافظات نينوى وصلاح الدين وأجزاء واسعة من الأنبار حيث كان ولا يزال «الحشد الشعبي» ويضم المتطوعين الشيعة هو العنوان الأبرز لهذه المواجهة مع تنظيم داعش. وفي الإطار أيضا مقاتلون من أبناء نفس المحافظات تحت مسميات كان الأبرز فيها هم «ثوار العشائر» يقاتلون «داعش» أيضا، وبالتالي بدا عنوان المواجهة في بعض صفحاته طائفيا. وقد جرت بالفعل سلسلة انتهاكات تحت هذا العنوان الطائفي في عدة مناطق من هذه المحافظات.

* انتهاكات ممنهجة

* يعترف عضو البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين مشعان الجبوري في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن وجود «حالات انتقام حصلت أثناء عملية تحرير مدن محافظة صلاح الدين.. ورغم أننا حذرنا ودعونا إلى المزيد من الدقة لكن من غير المعقول ضبط أعداد هائلة وبعضها لديها حس انتقامي مسبق لأسباب مختلفة».
يضيف الجبوري قائلا إن «هناك عمليات اعتقال حصلت في الدور وعندما سألنا الجهات المعنية قالوا إن الذين جرى اعتقالهم وعددهم لا يزيد عن المائة إنما تم لأغراض التحقيق معهم كونهم استمروا في البقاء مع (داعش) ولم يخرجوا الأمر الذي جعل الشبهات تحوم حولهم» مبينا أن «أحدا لا يعرف متى يطلق سراحهم أو سيعاقبون أننا في كل الأحوال نريد للعملية أن تجري بطريقة سليمة». لكن رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي أرشد الصالحي يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه يسمع بمثل «هذه الانتهاكات وقد تم تشكيل لجان متابعة لها ولكن اللجنة لم تتلق حتى الآن أية شكوى بهذا الشأن سواء من قبل مواطنين هناك قيل إن دورهم أحرقت أو قتلوا ولا حتى من قبل نواب صلاح الدين».

* الأزهر يندد

* وإذا كانت عمليات ما عرف بالانتقام في معركة صلاح الدين قد حملت الأزهر على إصدار بيان تنديد بما اعتبره عمليات انتقام ضد أهل السنة فإن التداخل بين متطوعين شيعة يعترف العبادي بأن فيهم «مندسون» لأغراض الانتقام وبين عشائر سنية اختلفت مع بعضها بسبب «داعش»، وبالتالي حصلت عمليات انتقام متبادلة بينها خصوصا في منطقة البوعجيل، حيث يقول نائب رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة صلاح الدين خالد الخزرجي في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «الممارسات والانتهاكات في هذه المناطق أو سواها من مناطق صلاح الدين أو الأنبار أو نينوى هي تلك التي قام بها تنظيم داعش عبر عمليات الحرق والتفخيخ والتفجير».
وأضاف الخزرجي أن «هناك مواطنين قام تنظيم داعش بحرق منازلهم وتهجير عوائلهم وقد بدأت بعض عمليات الانتقام بين أبناء المنطقة الواحدة». مع ذلك فإن محافظة ديالى كانت هي العنوان الأبرز للانتهاكات خلال الشهور الماضية. وهنا يرى الشيخ مازن الخيزران شيخ قبيلة العزة في محافظة ديالى حيث وقعت فيها «مجزرة بروانة» في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «القبائل السنية في ديالى تقع اليوم بين مطرقة الميليشيات وسندان تنظيم داعش». ويضيف الخيزران: «ديالى واقعة بالفعل تحت تأثير (داعش) من جهة والميليشيات المسلحة من الأحزاب والقوى الشيعية من جهة أخرى غير أن ما يمكن قوله بهذا الصدد أن المعادلة غير متكافئة لأن الجماعات الشيعية المسلحة تملك غطاء حكوميا للتحرك بينما تبدو القاعدة و(داعش) وكل الفصائل السنية المسلحة مطاردة بوصفها حركات إرهابية وهو ما جعل عشائرنا ضحية للطرفين معا».
وفي السياق نفسه يرى الناشط السياسي في محافظة ديالى تراث محمود في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «محافظة ديالى وإن كانت ذات أغلبية سنية لكن هناك هيمنة مشتركة شيعية - كردية على مفاصل القرار في المحافظة، وهو ما أدى إلى احتقان مضاعف ومع تراجع هذا الدور فقد تم تأسيس صحوات في بعض المناطق لغرض مسك الأرض لكن الحكومة شنت حملة كبيرة ضد الصحوات وحولتها إلى خصم، الأمر الذي انعكس على وضع العرب السنة في المحافظة الذين بدأوا يتذمرون ويبحثون عن أية قوة يمكن أن تخلصهم من هذا الواقع المزري، وهو ما استثمرته الميليشيات الخارجة عن القانون التي تستر الكثير منها بالحشد الشعبي وراح يمارس عمليات قتل وخطف واغتصاب بالإضافة إلى عملية هدم للمساجد السنية التي تم تدمير العشرات منها من قبل هذه الميليشيات».

* الحشد الشعبي.. ولاء مزدوج

* جاء تأسيس الحشد الشعبي على أثر الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني في الثالث عشر من يونيو (حزيران) عام 2014 بعد أيام قلائل من احتلال الموصل وصلاح الدين من قبل تنظيم داعش. وعلى إثر هذه الفتوى أعلن مئات آلاف المتطوعين الشيعة من كل الأعمار تطوعهم وهو ما حمل الحكومة العراقية آنذاك إلى تشكيل مؤسسة أطلق عليها «مؤسسة الحشد الشعبي» جرى ربطها بمستشارية الأمن الوطني التي يترأسها مستشار الأمن الوطني فالح الفياض. وفي السياق نفسه فقد وجدت الجماعات والميليشيات والفصائل المسلحة الشيعية نفسها ملزمة بين الاستجابة للفتوى من جهة وبين تحريك عناصرها لمواجهة تنظيم داعش الذي أعلن الحرب على هذه الفصائل سواء بشكل مباشر أو من خلال تهديده للأماكن والعتبات الدينية المقدسة لدى الشيعة وهي حصر مراقد الأئمة سواء في مدينة سامراء التي يحاصرها التنظيم حتى اليوم أو مدن بغداد وكربلاء والنجف. ليس هذا فقط فإن الكثير من هذه الفصائل تقلد مراجع دين شيعة مختلفين، وبالتالي هي ليست ملزمة نصا بفتوى السيستاني لكن الإطار العام لانضمامها إلى الحشد الشعبي جاء في إطار تلبية الدعوة للفتوى. ولفك الاشتباك بين بعض المفاهيم الدينية في إطار مثل هذه الفتاوى كيفية الإلزام بها يقول الأستاذ في الحوزة العلمية حيدر الغرابي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «ما صدر عن السيد السيستاني فتوى صريحة لأن هناك تهديدا حقيقيا وجديا لا سيما كانت هناك دعوات صريحة من الجماعات الإرهابية بالتوجه إلى المدن المقدسة واستباحتها، فضلا عن أن العراق الآن كله بات مهددا». وأضاف أن «الأمر أصلا لم يكن بحاجة إلى فتوى لأن الدفاع عن الوطن قضية مقدسة ملزمة للجميع، لكن ما يجب لفت الانتباه إليه أن فتوى المرجع حددت الآليات والسياقات وهي بمثابة تعليمات ملزمة لأن المرجعية الدينية تعرف واقع الحال جيدا وبالتالي فإنها تقف على مسافة واحدة من الجميع، موضحا أن «هناك المزيد من التعليمات كانت قد صدرت عن المرجعية بشأن كيفية التعامل مع المواطنين من أبناء تلك المناطق والأهم أن يكون المتطوعون والحشد الشعبي تحت إمرة المؤسسة العسكرية». وفي وقت سعى فيه مرجع ديني مثل السيستاني فك الاشتباك بين ما هو ديني وتحديدا مذهبي وبين الوطن باعتبار الدفاع عنه قضية ملزمة من قبل جميع المواطنين فإن عملية فك الاشتباك بدت صعبة بين من يوالي هذا المرجع الديني أو ذاك من بين المتطوعين، علما أن بعض هؤلاء المراجع إما غير عراقيين أصلا «محمود الشاهرودي مثلا» أو يعيشون خارج العراق منذ عقود «كاظم الحائري مثلا» وبين قدسية الدفاع عن الوطن فإن ما يجري في ساحات القتال إنما هو نوع من تداخل الخنادق والولاءات. وفي الوقت الذي يضم الحشد الشعبي مئات آلاف المتطوعين من عامة المواطنين الشيعة ممن لا يرتبطون رسميا بأي فصيل من الفصائل المسلحة المعروفة لكن من الأهمية بمكان التعريف بأهم الفصائل التي يتكون منها الحشد الشعبي وهي أولا: سرايا السلام ولواء اليوم الموعود والتابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر والتي كانت تسمى «جيش المهدي» الذي سبق للصدر أن جمده منذ عام 2007 أكثر من مرة. وفي عام 2004 وعلى إثر احتلال الموصل من قبل تنظيم داعش أعلن الصدر عن تأسيس سرايا السلام كجزء من عملية الدفاع عن العراق وحدد مهمتها الأصلية في الدفاع عن مرقدي سامراء. لكن الصدر عاد وأعلن تجميد هذا الفصيل مؤخرا على إثر مقتل الشيخ قاسم سويدان واتهامه الصريح لما أسماه بـ«الميليشيات الوقحة» في عملية الاختطاف فإنه عاد وأعلن الأسبوع الماضي عن إعادة تشكيله ولكنه ربطه هذه المرة بالجيش بالكامل ويتلقى أوامره من القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي. وتضم سرايا السلام عدة آلاف من المقاتلين. ثانيا: منظمة «بدر» (الجناح العسكري) التي انشقت عن المجلس الأعلى الإسلامي قبل نحو 3 سنوات. وتضم «بدر» أكثر من 10 آلاف مقاتل مدربين جيدا وهم الأكثر تنسيقا مع إيران. ويتزعم «بدر» هادي العامري، الذي كثرت إشاداته في الآونة الأخيرة بقائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني إلى حد أنه طالب بإقامة تمثال له في بغداد. ثالثا: كتائب حزب الله وتضم آلاف المقاتلين ولا تعرف لها قيادة واضحة. رابعا: عصائب أهل الحق وكانت قد تاسست عام 2007 بعد انشقاقها عن جيش المهدي ويتزعمها قيس الخزعلي وتعد أكثر الفصائل الشيعية نفوذا لا سيما بعد أن قربها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي كثيرا. خامسا: حركة حزب الله «النجباء» وهي إحدى الفصائل التي انشقت عن العصائب. سادسا: كتائب سيد الشهداء وتضم نحو 3 آلاف مقاتل. سابعا: سرايا عاشوراء وهي الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم وتضم عدة آلاف من المقاتلين. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا إلى أي مدى ترتبط هذه الجهات بإيران؟ على هذا السؤال يجيب الأكاديمي ورجل الدين الشيعي عبد الحسين الساعدي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بالقول إن «العلاقة مع إيران سواء على صعيد الحشد الشعبي أو بشكل عام مع الطبقة السياسية العراقية شديدة الالتباس، فمن ناحية إيران وباعتراف الحكومة العراقية تساعد العراق ضد تنظيم داعش، سواء كان بالسلاح والمال والخبراء الذين هم بمستويات عالية جدا يتقدمهم قائد فيلق القدس نفسه قاسم سليماني.
ومن ناحية أخرى فإن للكثير من فصائل الحشد الشعبي علاقات متميزة مع إيران والكثير منها تتلقى مساعدات مالية وحتى عسكرية مبينا أن «العلاقة مع إيران تبدو هذه المرة مختلفة، ذلك أن وجود إيران في العراق وعلاقتها المباشرة مع القيادات العراقية لا سيما الشيعية منها يجعل من هذه الفصائل أكثر انضباطا حتى على صعيد الصلة مع الجهات الأمنية». وأكد الساعدي أن «الثقل الإيراني واضح الآن وبالتالي فإنها قادرة على التعامل مع هذه الجهات سواء بشكل مباشر حين تريد أو عن طريق الجهات العسكرية في حال وجدت أن ذلك أنفع لها». على صعيد متصل فإنه وفي ضوء هذه الأمور فإن سؤالا آخر يطرح نفسه وهو هل يرتبط الحشد الشعبي سواء بوصفه مؤسسة وطنية مثلما قال العبادي أو فصائل وكتائب مسلحة بالجيش أم لا؟ عن هذا السؤال يقول ضابط عراقي رفيع المستوى برتبة عميد ركن في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، طالبا عدم الإشارة إلى اسمه أو هويته إن «العلاقة غير واضحة المعالم وإذا شئنا الدقة هي علاقة تنسيقية أكثر منها تكاملية، فالحشد الشعبي متعدد القيادات رغم ارتباطه بالأمن الوطني وفي جبهات القتال يجب أن يكون مرتبطا بالمؤسسة العسكرية لكن دخول قيادات سياسية كبيرة تقود الحشد وهي رسميا أكبر من كل القيادات العسكرية المحترفة جعل العملية تأخذ جانب التنسيق وليس التبعية». وأضاف الضابط العراقي أن «من المسائل التي لا بد من الاعتراف بها هي أن الحشد الشعبي يقاتل بطريقة استثنائية حين يتلقى أوامره من مراجعه الدينية أو السياسية كما أنه في الغالب يتقدم الصفوف وهي إحدى الميزات الهامة له».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.