تصمُت السياسة السعودية طويلا، وتستخدم، غالبا، السياسة الناعمة كثيرا، غير أن لصمتها حدودا أيضا، فإذا كانت سياستها قائمة على عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، فإن فعل ذلك في شؤونها الداخلية تعتبره الرياض خطًّا أحمر لا تتساهل فيه أبدا، وهو ما يشرح البيان الذي أصدرته الحكومة السعودية ردا على استفزازات متعددة قامت بها الحكومة السويدية ووزيرة خارجيتها، واليوم تصل العلاقة بين السعودية ومملكة السويد، الدولة الاسكندنافية الواقعة في شمال أوروبا، إلى مرحلة متقدمة من التشنج بسبب قيام استوكهولم بدس أنفها في النظام القضائي السعودي وتوجيه اتهامات مستفزة إليه.
ليست هذه المرة الأولى التي تؤكد فيها الرياض أنها لا تقبل التدخل في شؤونها الداخلية، وترفض التطاول على حقها السيادي بما في ذلك المساس باستقلال قضائها ونزاهته، ودائما ما يكرر المسؤولون السعوديون أنه «لا سلطان على القضاة في قضائهم»، كما تؤكد على أن جميع القضايا المنظورة أمام المحاكم يتم التعامل معها دون تمييز أو استثناء لأي قضية وضد أي شخص. فالسعودية لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يتعدى عليها أحد باسم حقوق الإنسان، خصوصا أن دستورها قائم على القرآن الكريم والسنّة اللذين كفلا للإنسان حقه.
تلك القضية دفعت مجلس الوزراء السعودي أمس إلى التنديد بالتصريحات المسيئة لها، الصادرة من وزيرة خارجية مملكة السويد، التي تضمنت انتقادا لأحكام النظام القضائي الإسلامي المطبق في المملكة، وتعريضا بأسسها الاجتماعية. وقالت الحكومة السعودية أمس إن تلك التعليقات السويدية «انطوت على تجاهل للحقائق وللتقدم الكبير الذي أحرزته المملكة على كل الأصعدة، بما في ذلك المكانة المتميزة التي حظيت ولا تزال تحظى بها المرأة في مختلف المجالات التعليمية والعلمية والصحية والاقتصادية والتجارية».
يمكن القول إن الموقف السويدي لم يستفز السعودية فحسب، بل كان موجها لمشاعر المسلمين حول العالم، باعتبار أن المملكة تطبق الشريعة الإسلامية ولا أحد له سلطة على قضائها إلا أحكام الشريعة الإسلامية نفسها. يقول السفير فيصل بن حسن طراد مندوب السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة في جنيف: «إن المملكة من أوائل الدول التي دعمت مبادئ حقوق الإنسان، واحترمت كل المواثيق الدولية تجاهه وبما يتفق مع الشريعة الإسلامية الغراء، ورغم كل هذه الجهود الواضحة للعيان، فإن بعض الجهات الدولية للأسف الشديد أفرغت مبدأ حقوق الإنسان من مضامينه السامية وجنحت إلى محاولة تسييسه واستغلاله في التعدي والهجوم على الحقوق السيادية للدول، مغمضة عينيها عن كل الجرائم التي ترتكب على مرأى ومسمع من العالم أجمع بحق الشعوب في فلسطين وسوريا وبورما وغيرها من دول العالم، وكأن مسألة حقوق الإنسان أضحت مسألة انتقائية لخدمة أهداف سياسية، وهو الأمر الذي لن تسمح به المملكة إطلاقا».
الحكومة السعودية أكدت مجددا أمس أن «ضمان استقلال السلطة القضائية مبدأ ثابت ومرتكز رئيس لحماية وتعزيز حقوق الإنسان، وأن قضاءها القائم على الشريعة الإسلامية السمحة كفل العدالة التامة للجميع، وأن الكل متساوٍ وله حق التقاضي والحصول على حقه، والقضاء في المملكة يتمتع باستقلالية تامة، ولا سلطان عليه غير سلطان الشريعة الإسلامية، كما أن حرية التعبير مكفولة للجميع في إطار الشريعة الإسلامية ولا يجب إضفاء ادعاءات غير صحيحة على القضايا ذات الحقوق الشخصية بين الأفراد ومحاولة إخراجها عن سياقها القضائي».
الدبلوماسية السعودية التي طالما انتهجت سياسة «ناعمة»، وخصوصا تجاه الدول الأوروبية، لم تهضم التدخل الأخير لوزيرة الخارجية السويدية التي علقت على أحكام القضاء السعودي تجاه المدون رائف بدوي، واستخدمت الرياض صلاحياتها في رفض دعوة الوزيرة السويدية لإلقاء كلمة في اجتماع الجامعة العربية في القاهرة الشهر الماضي، وأعربت عن استهجانها «من طريقة تعامل بعض الجهات الدولية ووسائل الإعلام مع قضية رائف بدوي والحكم الصادر بحقه»، وأكدت أنها «لا تسمح ولن تقبل على الإطلاق أي تدخل بأي شكل من الأشكال في شؤونها الداخلية، ورفضها للتطاول على حقها السيادي والمساس باستقلال قضائها ونزاهته».
رائف بدوي (31 عاما)، مواليد الخبر شرق السعودية 1984، متزوج وله 3 أطفال، هو ناشط ومدون أسس موقع الشبكة الليبرالية عام 2006، ألقي القبض عليه في 17 يونيو (حزيران) 2012 وتم عرضه على المحكمة الجزائية، واتهم بمخالفة نظام مكافحة جرائم المعلوماتية السعودي بإنشاء موقع إلكتروني يمس النظام العام ويساعد الآخرين في ذلك، وكذلك الإساءة للدين الإسلامي.
الخبير القانوني السعودي المحامي الدكتور صالح الطيار رئيس المركز العربي الفرنسي للدراسات، قال لـ«الشرق الأوسط»، تعليقا على تعرض السويد للنظام القضائي في ما يخص قضية رائف بدوي: «إن السويد ارتكبت مخالفة للقانون الدولي بتدخلها في الأحكام القضائية في الدول الأخرى، وهذا التدخل جاء كرد فعل على منع وزيرة الخارجية السويدية من إلقاء كلمة في اجتماع مجلس وزراء الجامعة العربية في القاهرة بطلب من المملكة».
وقال: «إذا كانت المملكة تطبق القانون فإن وسائل الدفاع مكفولة للمتهم، والسويد هنا تتجاوز القانون الدولي بتعليقها على أحكام قضائية صدرت في بلد آخر».
وقال الطيار إن «السعودية تحترم التزاماتها الدولية بشأن حقوق الإنسان، وخصوصا المادة الثانية من نظام الأمم المتحدة، وإن حرية التعبير وبقية الحريات مكفولة في المملكة، بشرط أن لا تتعدى على حريات وحقوق الآخرين».
وتحدث الطيار عن النظام القضائي في السعودية، قائلا: «إن هذا النظام قائم على المنهج الإسلامي، والمملكة تطبق الأحكام القانونية على كل من يرتكب جرائم سواء كانت حدودا أو تعزيرات، وبالتالي فإن الأحكام هناك مقننة بالكامل».
وقال: «إن بعض المنظمات الحقوقية تستنكر على سبيل المثال العقوبات الجسدية وبينها عقوبة الإعدام المطبقة في المملكة، بدعوى أنها تسلب حق الحياة من الإنسان، لكنها لا تلتفت إلى أن النظام القضائي السعودي هو النظام الوحيد في العالم الذي تتاح فيه للمتهم كل وسائل الدفاع ونقض الحكم إلى أن يصدر الأمر بتنفيذ الحكم بعد مصادقة المقام السامي، وإن الحكم يصدر عبر 3 مراحل، وكلها يجب أن يصدر من خلال إجماع قضاتها وضمانهم أن الحكم الصادر ينسجم مع نص القرآن الكريم، كما أن الحد لا يطبق قبل بذل كل الجهود مع أولياء الدم عبر لجان مختصة في الديوان الملكي أو عبر ممثلي الحاكم الإداري في مناطق المملكة من أجل السعي للتنازل وإسقاط الحكم».
وقال الطيار إن ذلك يعطي القانون في المملكة صفة «أقوى نظام حقوقي في العالم، فالولايات المتحدة يصدر الحكم بالإعدام عبر مرحلتين فقط».
وقال الطيار إن الجرائم التعزيرية التي تشمل جرائم أمن الدولة تم تشريعها في السعودية لحماية المجتمع، وهي قوانين جرى تشريعها عبر لجان ومؤسسات تضمن قانونيتها.
من جهته قال لـ«الشرق الأوسط» المحامي السعودي إبراهيم البحري: «إن تدخل السويد أو غيرها في أنظمة وتشريعات تابعة لدولة أخرى مستقلة يعد أمرا غير شرعي»، مضيفا أن «المواثيق الدولية لا تعطي هذه الدول حق التدخل في النظام القضائي للدول الأخرى». وقال: «إن القضاء الشرعي في المملكة يتمتع باستقلالية تامة، وهو لا يتأثر بهذه الضغوطات الخارجية»، لكنه لاحظ أن الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم بحاجة إلى مزيد من الوضوح لكي يسهل على الرأي العام فهمها. «فبعض الدول تتدخل في الأحكام لعدم معرفتها بهذه الأنظمة وسياقاتها الشرعية».
وقال إن ما قامت به وزارة الخارجية السويدية يمثل خرقا فاضحا للمواثيق الدولية، خصوصا أن المملكة لم تخرق التزاماتها بشأن التزامها بحقوق الإنسان، ومنها حرية التعبير. وأضاف: «ممثل الحكومة السويدية لم يطلع على الحكم، ولا على حيثياته، فالحكم هنا لم يصدر بسبب قيام (رائف بدوي) بإنشاء موقع إلكتروني، ولكنه قام على إدانته بخرق أسس دينية، يمثل خرقها اعتداء على حقوق الآخرين، وهو ما يجري تطبيقه في كل العالم وليس فقط في المملكة». بقيت الإشارة إلى إعلان السويد إيقاف تعاونها العسكري مع الرياض، وهو، وفقا للأرقام، ستكون استكهولم وحدها المتضررة منه، باعتبار قيمة هذه الاتفاقيات ضئيلة جدا، ولا ترقى للتأثير على إنفاق السعودية على تطوير قواتها العسكرية، وربما أرادت السويد فرقعة إعلامية بإعلانها هذا، ناهيك بأنها هي الخاسر الأكبر في أي تعاملات تجارية مستقبلية بين البلدين، إذ إن الميزان التجاري بين البلدين يميل لصالح السويد وليس العكس. إذا كانت الرياض قد ردت بشكل قوي على استفزازات وتدخلات استكهولم في شؤونها الداخلية، ولوحت بمراجعتها للعلاقات بين البلدين، فإن الرسالة الأقوى بالتأكيد وصلت إلى الدول الغربية الأخرى التي تمارس الفعل نفسه بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، تحت ذريعة مصطلحات حقوقية تصر تلك الدول على تطبيقها كما هي في بلادها، وكأن باقي الدول مجبرة على الأخذ بالمفاهيم الغربية في حقوق الإنسان، دون أي اعتبار لاختلاف الثقافات بين المجتمعات هنا وهناك، ناهيك بازدواجية المعايير التي تتغافل عن انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين وسوريا والعراق وإيران.
السعودية تضع خطوطًا حمراء لعلاقتها مع الغرب.. والرسالة تصل إلى الآخرين
الرياض تؤكد من جديد أنها لا تقبل اعتداء أحد عليها باسم حقوق الإنسان
السعودية تضع خطوطًا حمراء لعلاقتها مع الغرب.. والرسالة تصل إلى الآخرين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة