اعتاد المفكرون السياسيون المتطرفون في القرن التاسع عشر انتقاد مبادئ الثورة الفرنسية وقيمها العليا نظرًا لما تتضمنه من عيب منهجي يتمثل في النظر إلى الماضي بحثا عن مدينة فاضلة وجذب انتباه الحشود على أساس هذا النموذج المثالي. تقوم الحجة الرئيسية، التي تبناها هؤلاء المفكرون، على أنه منذ فشل فكر الطبقة البرجوازية الفرنسية وما يمثله من قيم في وقت الثورة، بدأوا الاعتماد بشكل أكبر على ماض مكسو بطبقة من المثالية، وذلك لجذب الحشود لتأييد قضيتهم. لذا أضفى الثوار الفرنسيون صبغة مثالية على الجمهورية الرومانية لتبنيها قيمتي الحرية والعدالة، وساقوا صورة المدينة الفاضلة التي تقدمها كحل لكل المشاكل التي واجهتها طبقة العمال، والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى في فرنسا قبل اندلاع الثورة الفرنسية. وأطلق كارل ماركس على هذا أوهام المدينة الفاضلة، وقال في إحدى كتاباته، إن الثورة الحقيقية لن تتغذى على صور الماضي ذات الصبغة المثالية، لكنها ستبني مستقبلها بنفسها.
وكان من المحتمل أن تصبح باكستان بالنسبة إلى هؤلاء المفكرين مكانا مثاليا للبحث عن إجابات لتلك الأسئلة التي تجاهلوها في سياق روسيا أو فرنسا في حقبة ما بعد الثورة. وأعتقد أن باكستان هي المكان المثالي للبحث عن إجابات لتلك الأسئلة، حيث أرى أنها لم تشهد أي ثورة بل ولم تقترب حتى من اندلاع أي ثورة طوال 60 عامًا من وجودها. مع ذلك لا يوجد ما يكفي من الكتابات الثورية، والأدب، والترويج لماض ذي صبغة مثالية. لكن أود أولا أن أعيد صياغة السؤال الأول قبل أن أكمل وألقي نظرة على أدبيات المدينة الفاضلة التي صبغت الماضي بصبغة مثالية. ما الذي يحدث عندما تواجه الحشود، التي تغذت على صورة الماضي المثالي، الواقع؟ لا يوجد في باكستان الكثير من أدبيات المدينة الفاضلة التي تمجد الماضي الإسلامي وتصبغه بصبغة مثالية. أنتجت كل مجموعة دينية سياسية عددا كبيرا من تلك الأدبيات ونشرتها في المجتمع على مدى سنوات.
ولدى المسلمين صورة مثالية لماضيهم، بل إن جوهر دينهم يقوم على ذلك، لكن الجماعات الدينية السياسية في باكستان، والهند أثناء فترة الاحتلال البريطاني، بدأت عملية إضفاء المثالية على الماضي على نحو يختلف تماما عن الطريقة التي يضفي بها المسلمون المثالية على ماضيهم. وبسبب تأثير الحداثة الغربية التي تعرضوا لها في سياق الاستعمار، بدأ المفكرون المسلمون تقديم الإسلام ككيان منفصل عن النظام الاقتصادي والسياسي. وكان هذا في وقت بدأت الثورة الصناعية تضرب بجذورها في المجتمعات الأوروبية وقد أدى ذلك إلى ظهور أنظمة سياسية واقتصادية ذات هيكل تنظيمي متسق محدد في المجتمعات الغربية. وأضفى المسلمون على الإسلام بشكله التقليدي كديانة المثالية، نظرا للطابع العالمي الذي تتسم به قيمه وتمحورها حول الأخلاق الحميدة مثل التعاطف، وحب الخير، والتقوى. مع ذلك قلب المنادون بإعادة إحياء الدين كل ذلك رأسا على عقب، ففي محاولتهم عمل ماض ذي صبغة مثالية وعصر ذهبي، قدموا خليطا غير متجانس من المفاهيم الغربية الحديثة المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والمبادئ الإسلامية.
وكان الغرب مهووسا بالأنظمة والإدارة الآلية لحياة سكانه الاجتماعية والسياسية، واتجه هذا الهوس نحو الشرق إلى المجتمعات، التي تقع تحت الاحتلال الغربي، في القرنين التاسع عشر والعشرين. وليس من العسير رصد هذا الهوس المتعلق بتقديم الإسلام كنظام في كل محاولات دعاة إعادة الإحياء الرامية إلى تقديم صورة مثالية للماضي، أو لعصر ذهبي في أعمال العلماء والقادة المسلمين. لذا تم استبدال حب فعل الخير وحلت محله نسخة مثالية للماضي، الذي كان يخلو من المشاكل الاقتصادية. وتلقى التعاطف كقيمة دينية أكبر ضربة وحلّ محله العدوان، وتم ربط استخدام القوة والدمار الناجم عن ذلك بالتوسعات العسكرية للإسلام في بداياته. وتمت إزاحة التقوى لتأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، في حين أصبح الوصول إلى المجد السياسي هو الهدف الأول للتدين. وتم وضع كل ذلك في حزمة واحدة وتقديمه كحل لجميع المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، في المجتمع من جانب، وكقوة قادرة على وقف مدّ الهيمنة الغربية العسكرية والسياسية وجعل المجتمعات الإسلامية تحل محلها كقوة بديلة على الساحة العالمية من جانب آخر.
لم يحدث أي من هذا في عالم الواقع، بل ولا حتى في مجتمعات اقترب نظامها من النظام الإسلامي. وليست باكستان سوى مثال على تطبيق النظام الإسلامي تحت الحكم الديكتاتوري العسكري للفريق ضياء الحق. وكانت هناك محاولة جادة من النظام العسكري لتطبيق ما وصفه بـ«النظام الاقتصادي الإسلامي». وتم منع الفوائد المصرفية والربا، وبدأت الحكومة في خصم الزكاة من حسابات الأثرياء. مع ذلك ظلت المشكلات الاقتصادية تزداد سوءًا، والفقراء يزدادون فقرًا، في تلك الفترة. وعسكريا بدأ النظام يرعى الجهاد في دولة أفغانستان المجاورة بدعم من الاستخبارات المركزية الأميركية، وبدأ في جمع أنظمة تسليح تأتي مباشرة من واشنطن، لكن أخذت نقاط ضعف الجيش الباكستاني والمشكلات الأمنية في التزايد بمرور الأيام. وجاء الوقت، الذي اصطدم فيه الباكستانيون، الذين تغذوا على صور الماضي المثالية، بالواقع المرير. وكان ذلك بالنسبة إلى أفراد الطبقة المتوسطة من المهنيين، وسكان الحضر، فشلا في البرنامج الإسلامي. وهذا يفسر بزوغ نجم حزب الرابطة الإسلامية الذي ينتمي إلى تيار يمين الوسط على الساحة السياسية الباكستانية في أعقاب سقوط نظام ضياء الحق الاستبدادي.
على الجانب الآخر، كانت هناك مجموعة مهمشة ترى كل من يختلف مع مبادئ وأسس آيديولوجيتها مخطئا. كيف تفاعلت هذه المجموعة مع البيئة الجديدة التي توجد في الخلفية؟ شهد المجتمع الباكستاني في التسعينات تشدد وتعنت مواقف تلك المجموعة حيث أثبتت الأحداث أن المشروع الإسلامي فاشل وغير مقنع، فقد أخفق المشروع الإسلامي في حقبة ضياء الحق في حل مشاكل المجتمع الاقتصادية، وتراجعت مكانة باكستان على الساحة الدولية بمجرد سحب أميركا لدعمها. وأدى هذا إلى اتجاه الإسلاميين نحو فصل السياسة عن الآيديولوجيا. ولم تنجح الوسائل السياسية التي استخدمها الإسلاميون الكلاسيكيون في تحقيق النتائج المرجوة. وعلى عكس هؤلاء الإسلاميين، لم تكن تلك المجموعة المهمشة تتحدث عن المشاركة في العملية السياسية والدستورية بالدولة، حيث كانوا يعتقدون أنهم قادرون على تنفيذ أهدافهم باستخدام القوة وباللجوء إلى العنف.
وثبت أن المجتمع، الذي تسود فيه صور الماضي المصبوغة بالمثالية وتتجذر في نفوس أهله، يصبح بيئة خصبة للجماعات المتطرفة، التي كانت تروج لفكرة عدم تسييس مشروعهم من أجل تحقيق أهدافهم بعد فشل المشروع الإسلامي الذي قدمه ضياء الحق.
من جهة، نشر الإسلاميون فكرة العصر الذهبي المصبوغ بصبغة مثالية، والذي على المجتمعات الإسلامية أن تعيد إحياءه، وهو ما قدم فرصة آيديولوجية للمزيد من الجماعات، التي تنتهج العنف، لدعم الفكرة ذاتها، التي كانت تحظى بشعبية ورواج إلى حد ما في المجتمع الباكستاني. ومن جهة أخرى، دفع فشل مشروع الإسلاميين وإخفاقهم في تحقيق أهدافهم بوسائل سياسية في باكستان العناصر المهمشة إلى استخدام طرق أكثر تطرفا لتحقيق غاياتهم. وأدى الوضع بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) إلى إعادة توجيه آلية الدولة الباكستانية وأولوياتها وهو ما أسفر عن حملة تنكيل أمنية تستهدف تلك الجماعات المسلحة. ونجحت الآلية المهيمنة العنيفة للدولة الباكستانية في السيطرة على بعض تلك الجماعات المسلحة واستخدامها لخدمة أغراض الدولة على الأقل في السياسة المحلية. أما باقي الجماعات المسلحة فخرجت عن السيطرة.
وتم تقديم الإطار الفكري وكتيب الإرشادات العملية إلى تلك الجماعات المسلحة في المجتمع الباكستاني عن طريق الإسلاميين الكلاسيكيين. وكان مصدر الاختلافات الكبرى بين الاثنين هو الاختلاف بين القواعد الاجتماعية لكل منهما. وفي الوقت الذي كان يعتمد فيه الإسلاميون الكلاسيكيون، مثل الجماعة الإسلامية، على المهنيين، الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، وسكان المناطق الحضرية، كانت الطبقات الدنيا، والفلاحين تمثل القاعدة الاجتماعية الأساسية للجماعات المسلحة. وكان الحرمان الاقتصادي الذي تعاني منه تلك الطبقات حافزًا قويًا لنهجهم المتطرف. ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن تلك الجماعات المسلحة ولدت من رحم الفشل الآيديولوجي والسياسي لمشروع المدينة الفاضلة الذي قدمه الإسلاميون. ونحن نعيش الآن في عصر فشل هذا المشروع، وما الإرهاب، والتطرف، والنهج العنيف المسلح، إلا نتاج لهذا الفشل. وربما يعثر المتطرفون الغربيون في المجتمع الباكستاني على إجابة لسؤالهم وهو: ما الذي يحدث عندما يثبت فشل أوهام المدينة الفاضلة؟
فشل الإسلاميين الكلاسيكيين في حل مشاكل باكستان أفسح في المجال للمتطرفين
العناصر المهمشة استخدمت طرقًا أكثر تطرفًا لتحقيق غاياتها بعد هجمات سبتمبر
فشل الإسلاميين الكلاسيكيين في حل مشاكل باكستان أفسح في المجال للمتطرفين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة