معرض الرياض للكتاب يختتم فعالياته بمليون زائر

رعاه خادم الحرمين الشريفين بمشاركة 915 دار نشر و600 عنوان .. وإقبال على كتب الفكر

من فعاليات المعرض (تصوير: بشير صالح)
من فعاليات المعرض (تصوير: بشير صالح)
TT

معرض الرياض للكتاب يختتم فعالياته بمليون زائر

من فعاليات المعرض (تصوير: بشير صالح)
من فعاليات المعرض (تصوير: بشير صالح)

أسدل معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي انطلق منذ 10 أيام برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تحت عنوان «الكتاب.. تعايش» - أسدل أمس الستار على فعاليات دورته التاسعة، التي شهدت أكثر من مليون زائر، ومشاركة «915» دار نشر وهيئة ومؤسسة حكومية وأهلية وخيرية من 29 دولة، من بينها «جمهورية جنوب أفريقيا» كضيف شرف. وعرض في المعرض 600 ألف عنوان غطت حقولا علمية ومعرفية متنوعة.
ومن ظواهر المعرض تراجع الإقبال على الروايات والأشعار والقصص، بينما سُجلت زيادة ملحوظة علىإقبال كتب الفكر والفلسفة والتاريخ والإسلام السياسي، كما لوحظ إقبال كبير على شراء الكتب الهندية ربما بسبب العمالة الهندية، وكذلك إقبال نسائي على الروايات التركية ربما بتأثير المسلسلات.
ولوحظ كذلك ارتفاع القوة الشرائية لرواد المعرض، وهي ظاهرة أشارت إليها الوسائل الإعلامية المختلفة، والمتابعات الصحافية. وشهد المعرض في هذه الدورة تطورا ملحوظا في مجالات عدة، منها التوسع في استقبال دور نشر جديدة وأجنحة لجهات حكومية وخاصة، فضلاً عن التسويق الإلكتروني وخدمة الاستعلام، وزيادة عدد منصات التوقيع، والفعاليات الثقافية، وورش العمل، والمحاضرات الثقافية التي ناقشت جملة من الموضوعات المهمة وغيرها من الجوانب التي أسهمت في خدمة القارئ والكاتب والكتاب ودور النشر.
وزارة الثقافة والإعلام، قدمت ندوات شغلت نصيبا كبيرا من الهوامش المصاحبة للمعرض، حتى باتت هذه الندوات مقصدا بحد ذاته للمثقفين، عبر شعار «تعايش» الذي حمله المعرض شعارا له في دورته التاسعة. فقد نظمت 18 ندوة ثقافية تناولت مضامين أدبية وفنية وثقافية وقانونية، مستضيفة عددا كبيرا من رجال العلم والثقافة والفن والفكر المعروفين، وتصدرت ندوة «الملك سلمان وصناعة الثقافة» مختلف المتابعات الإعلامية، إضافة إلى الحضور الجماهيري الكبير.
المعرض خص الشباب والأسرة بحيز كبير من الاهتمام عبر ورش خصصت لمواضيع شبابية بالشراكة مع مؤسسات وجمعيات خيرية استضافت في مجلسها التجارب الكتابية الشبابية، ومواضيع متنوعة ذات علاقة بهذه المرحلة التي تشكل الشريحة العمرية الأكبر في السعودية.
وتضمن المعرض كذلك ورشا متعددة وجهت للأمهات فقط لمعالجة صعوبات تعليمية وتربوية، عوضا عن تطوير أساليب التواصل مع الطفل، وكرمت الوزارة 10 فائزين بجائزة الكتاب في حقول معرفية متعددة.
كما كرّمت الوزارة الأدباء الراحلين في العام الماضي، الذين أثروا الساحة الثقافية والفكرية، وخصصت جناحا لنتاجهم وكتبهم، وكرّمت أيضا، في هذه الدورة، أصحاب 10 متاحف خاصة بالتراث اعترافا بفضلهم في المحافظة وتوصيل هذا التراث للأجيال الجديدة، وتعريفهم بجوانب منه ربما ليست معروفة لديهم.
المعرض احتفى بالطفل كذلك، عبر تخصيص صالة خامسة إضافية للأجنحة التي تخدم شرائح الطفولة العمرية بإصداراتها الورقية وألعابها التعليمية، إضافة إلى أنشطة الطفل التي شكلت سببا إضافيا راجحا لزيارة المعرض.
وجاءت توقيعات الكتب التي مثلت لدور النشر حفلا تسويقيا مناسبا، إذ بلغت الكتب الموقعة حتى آخر يوم، أكثر من 250 توقيعا لكتاب وكاتبات.
صالة استقبال كبار الشخصيات في معرض الرياض الدولي للكتاب، ازدانت بـ31 لوحة تشكيلية، ضمت أغلبها فنوناً مختلفة من فنون الخط العربي، وفن «الحروفيات»، وتضمنت آيات قرآنية وأدعية وحروف عربية مزجت الخط العربي بالفن التشكيلي، وكان نصيب الزعيم الجنوب أفريقي «نيلسون مانديلا» هذا العام 4 لوحات.
ومن ناحية أخرى، اشتكى عدد من زوار المعرض من ارتفاع أسعار الكتب، رغم إلزام دور النشر بتحديد الأسعار. وبرر الناشرون ذلك بارتفاع تكاليف الشحن وإعادة الشحن، وارتفاع تكلفة الطباعة، التي ارتفعت، حسب ما يقول ناشرون، إلى أكثر من 30 في المائة عن العام الماضي. أما أسعار الشحن من موطن الدار إلى المعرض، فقد ارتفعت عن العام الماضي بنسبة 20 في المائة، إضافة إلى تكلفة الأجنحة والأيدي العاملة، وكذلك أسعار الورق التي زادت بنسبة 15 في المائة عن العام الماضي، حسب ما يقولون.
وشهد معرض الرياض الدولي للكتاب أيضا، في ختام البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض، ورشة «تجارب شبابية في التأليف» عقدتها مؤسسة الأمير محمد بن سلمان الخيرية، لصقل تجارب المواهب الشابة، بالإضافة إلى عرض مونودراما «نوستالجيا»، فيما اختتم المساء الثقافي فعالياته بأمسية «القصة القصيرة جدا».
أما بالنسبة للجوائز، فقد فاز الدكتور سليمان الحديثي، مؤلف كتاب «الأمير عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود: سيرة تاريخية وثائقية»، بجائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب لعام 2015، في فرع التراجم، ذلك لأنه «اعتمد في تأليفه على أكثر من 500 وثيقة تاريخية، وعمل أشهرا طويلة على اختيار المناسب منها، وتصنيفها»، كما جاء في حيثيات منحه الجائزة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!