القصيدة مصيدة العالم

الشاعر أسامة الحداد في ديوانه «أن تكون شبحًا»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

القصيدة مصيدة العالم

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يتمرد الشاعر أسامة الحداد على فكرة الوجود المادي الماثل للعيان، في ديوانه «أن تصبح شبحا»، ويرى أنه وجود ناقص ومشوه ومبتور، كل يوم يكرر نفسه، ويحاصره بحزمة لا تنتهي من الذنوب المستعارة، تكبل طاقته العاطفية والروحية، وتجعلها مجرد قشرة هشة حائرة في منعطفات واقع لا يكف عن اجترار ذاته، في حلقة لا تنتهي من الاضطراب والعبث، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.. وعلى شتى المستويات.
في مواجهة كل هذا، يلجأ الشاعر في ديوانه هذا الصادر حديثا عن دار «إيزيس» بالقاهرة إلى ارتداء قناع الشبح، ويوهم به عبر قصائد الديوان، في مغامرة جديدة، تناوش فكرة الخلاص من شرور العالم والواقع المعيش، ومحاولة إيجاد معني مغاير لها، بعيدا عن تراتب الحياة المنطقي وتداعيات الأشياء التي لا تبرح ظلا لها، السقيمة الباردة. فالعيش تحت سقف هذا القناع يوفر للذات مساحة خصبة، غير مرئية، لتبادل الأفكار والأدوار وتنويع أشكال اللعب في النص، وأيضا الهروب من وطأة الزمن بثقله المادي المباشر، وعقده السميكة القابعة في قاع اللاوعي. كما يوفر هذا اللعب القدرة للخيال على النفاذ بحيوية فيما وراء العناصر والأشياء، وتفكيك وحداتها وعلائقها السرية، حسب ما يقتضي النص الشعري من ضرورة فنية. فكأن النص محاولة مستميتة، ليست فقط لإعادة تريب العالم جماليا، وإنما أساسا محاولة للانتصار على الواقع الذي يعيش فيه، ورفض مظاهر التكيف والخنوع الكاذبة. وهو ما يطالعنا به الشاعر في أولى قصائد الديوان، التي يحتفي خلالها بالوحدة بديلا لافتقاد الآخر، حيث تصبح القصيدة بمثابة شبكة أو خطة لترتيب الواقع، أو على الأقل جعله مقبولا، يسير الهضم شعريا، حتى بمراياه المهشمة، كما تهجس به القصيدة حيث تقول:
«خطة مقبولة للأمس
لأيام أعيشها من جديد
أرتب خلالها المواعيد
التي هربت في الحافلات العامة
وأحدد أعمالا أكثر روعة من أشجار بلاستيكية
أختار ملامح مغايرة لي
وأشكالا متناسقة للخونة واللصوص
بحيث يمكننا العمل مع على إخفاء الهواء».
تنوع القصيدة مفردات وحدتها وعالمها الجديد التي توهم به، فهو خال من الأضداد، له وجه واحد، لا مسافة فيه بين الحلم واليقظة في سياقهما الخارجي والداخلي، وأيضا بين المعرفة والخلاص.. بين الوجود وطيفه، تحت قناع الشبح نفسه؛ حيث «الكلمات لا حواف لها/ والأسماء متطابقة، وعاجزة عن التداول، والمناخ لا يمكن الشعور به، وعادة يمر بلا ضجيج مفتعل». ومن ثم تكثف الذات الشاعرة كل نشاطها للوصول إلى نقطة مركزية عليا، تطمح أن تختصر من خلالها العالم وتهيمن عليه، وفي الوقت نفسه تحقق حريتها كاملة بلا شروط أو قيود، أو رقابة ما.. إنها نقطة الاستواء الطبيعية، الخالية من أي مفاجآت مزعجة، وهي نقطة تنساب ببساطة وتلقائية في عمقها العادي المألوف، بعيدا عن الرتوش والزوائد الفجة.. فأن تكون شبحا، يعني، وكما يقول الشاعر، أن «تغدو كل الأشياء عادية، لا لزوم لها، ويكون من العبث البحث عن قارة غارقة في كوكب بعيد، أو ارتياد أماكن محددة».. ومن ثم تمثل هذه النقطة العليا، وطرق الأنا في الوصول إليها ذروة الصراع دراميا في الديوان، لذلك لا تكف النصوص عن البحث عنها، بل مساءلتها واصطيادها من زوايا كثيرة، وبتراوحات متباينة دلاليا وفنيا في القصائد، لكن يظل الانفلات من تخوم الوعي شرطا جوهريا لتحقق هذا الوجود الجديد المغاير؛ فالحلم بالحرية لا ينفصل عن الحلم بواقع مغاير، كما أنهما وعيان يتصارعان من أجل حرية القصيدة في النهاية، والوعي بأنها النقطة المركزية للذات في الوصول إلى ذروة تمردها في رفض فجاجة وقبح ولا معقولية هذا العالم.. واللافت أن هذه النقطة ليست مسالمة تماما، فهي أحيانا تشبه اللعنة، لكنها لعنة تكتسب مسحة تطهيرية، كما تصفها إحدى القصائد، مشيرة إلى أن عدم العدوى بها يفضي إلى التعاسة.. «كم هو تعيس من لا تصيبه اللعنة، ومن يفشل الوباء في مرافقة عظامه، دون علامة تعجب قاسية».
ومن ثم، ففي هذا المناخ الذي تتبادل فيه الذات والوجود قناع الشبح.. لا فواصل بين الأشياء، بل لا يفضي النقيض إلى ضده، وإنما يتعايش معه، ويتبادلان الأدوار بمحبة حانية، في لعبة: الأصل/ الظل، النور/ العتمة، الحب/ الكره.. فالظل هو الأصل معا، والعكس صحيح أيضا. وتنعكس هذه الدلالة «الاتصال/ الانفصال»، على الحياة نفسها، فهي مرئية ومخفية في الوقت نفسه.. هي قديمة وجديدة معا.
لكن، في هذه الرؤية الشيقة الشائكة التي يطرحها الديوان: هل اختلط النزع السريالي هنا بالعبث وأصبح قرينا له؟ وهل حافة الغموض، هي نفسها حافة الوضوح؟ أتصور أن الأمر يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فالعصب السريالي في هذا الديوان - وهو محور مركزي في كل أعمال أسامة الحداد الشعرية - يتخذ من هذه الحيل والأشكال، وسيلة للتحرر؛ التحرر حتى من شكل الكتابة، ونمطيتها الشائعة، للوصول إلى ملمح شعري خاص، وهو ما بدأ يتأكد بقوة في أعماله الشعرية، التي لا تفصل ولا تحصر اختبار الحقيقة في الوجود الخارجي للأشياء، وإنما أيضا في الوجود الداخلي للنفس البشرية، بكل ما ينطوي عليه من تعارضات الجسد والروح؛ فالأحلام لا تنفصل عن شطح ونزق الخيال، ولا معنى للخطيئة بمعزل عن براءة الإثم، بل لا معنى للعتمة بعيدا عن بياض العتمة نفسها.. لا معنى للوجود بعيدا عن الإحساس الدائم بالعدم والفناء.
كل هذا الأجواء، تتجلى في القصيدة المركزية التي وسمت عنوان الديوان «أن تكون شبحا»، وهي الأكبر؛ حيث تحتل نحو ثلث صفحات الديوان السبعين. واللافت أنها توسع من قناع الشبح وتنوع مجالات إدراكه شعريا، بالطواف في آفاق إنسانية جمة، تتناسل في القصيدة في شكل مشاعر وعواطف كثيرة، وأزمنة ومشاهد وحالات إنسانية، يتقاطع ويتلاقح فيها اليقين باللايقين.. النفي بالإثبات.. الماضي بالحاضر.. الأسطورة بالواقع.. الخيانة بالرغبة في الثأر.
ويتبدى كل هذا، في نسيج شعري، يتخفف كثيرا من حمولة المجاز التقليدية، ويعتمد على نسق لغوي يميل إلى التجريد، والبعد عن الحشو والاجترار والتكرار، فهي لغة بنت النص، تفيض عنه وتعيش فيه، مهما تفاوتت مرجعيتها الدلالية والفكرية.
في هذا الطواف الذي لا يخلو أحيانا من الإيهام بلعبة التقمص، تتحول القصيدة إلى.. مصيدة للعالم، إلى ما يشبه منصة مسرح، مفتوحة على النهايات والبدايات، لحوار الشاعر مع ذاته، والعالم والأشياء، مجسدا في الوقت نفسه، تفاهة الإنسان وانطواءه ومخاوفه وأوهامه وشعوره بالاضطهاد، وكذلك عذاباته وارتباكه إزاء كل صغيرة أو كبيرة من شؤون الحياة اليومية، وفي نفس شعري لاهث مسكون بالحيرة إلى حد المتاهة والخرافة.. وكما تقول هذه القصيدة:
«سوف أحلِّق حولكم
لست سوبرمان
ولا صاحب بساط سحري
يصنع حواديت الأمهات
رغبتي لا نهاية لها
وذاكرتي لا تحفل بالطيبين
والبخار الذي اقتنصته
لم يكن لشجرة وديعة على نهر غائب
فلا تصدقوا الأساطير
عن أشباح ثلاثية الأعين
أو سداسية الرؤوس
فالمعادلات الهندسية عدو خائب».
فهكذا، يسعي الشاعر إلى خلق منطقة من التضايف الحميم، تعيش فيها الأشياء، بكل تبايناتها.. تبحث عن شهوتها الأولى، وحريتها الأولى، بلا خوف من أن تصطدم الحقيقة بالشك في الفرد والمجتمع والوجود معا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!