لماذا يلجأ الكتاب للنشر خارج بلدانهم؟

مصر ولبنان يتصدران مراكز النشر في العالم العربي

جانب من الندوة
جانب من الندوة
TT

لماذا يلجأ الكتاب للنشر خارج بلدانهم؟

جانب من الندوة
جانب من الندوة

كيف تكون التجربة الأولى للأديب العربي مع دور النشر؟ ولماذا يتجه الكثيرون منهم إلى النشر خارج أوطانهم؟، وهل لا بد أن ينتقل الأديب للإقامة في بلد يعتبر مركزا للنشر مثل مصر أو في لبنان أو الإمارات التي تلقى فيها حركة النشر والتوزيع رواجا أكثر من غيرها؟ وهل تؤثر الجوائز على تعامل دور النشر والتوزيع مع الأديب الفائز بها؟
كانت تلك هي الأسئلة المحورية التي تطرقت إليها ندوة بعنوان «الأدب العربي بعيدا عن مراكز النشر» عقدت أخيرا ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الأدبي الأول، وأدارها الكاتب الصحافي محمد شعير، رئيس تحرير مجلة «عالم الكتاب»، وتحدث فيها أدباء من 3 دول عربية هم: السوداني حمور زيادة، والأردني فادي زغموت، والكويتي إبراهيم الهندال.
تحدث الهندال، صاحب المجموعة القصصية «بورخيس وأنا» عن تجربته في النشر قائلا: «في دول الخليج تحقق الكتب والروايات مبيعات جيدة لكن لا تحقق الانتشار خارج نطاق الخليج، لذا فإن الكاتب الكويتي عادة ما يلجأ لدور النشر اللبنانية أو المصرية لكي يحقق الانتشار، لأن الدور الكويتية لا تقوم بعملية التوزيع بشكل جيد». وأضاف: «أرى أن الدعاية الجيدة للكتاب وقدرة الدار على الدعاية والترويج لإصداراتها تساعد الكاتب أو الأديب على الانتشار السريع، وهو ما تتميز به الدور المصرية واللبنانية». وركز على تأثير الجوائز على حركة النشر، ولفت إلى أن «الجوائز التي أطلقت في أنحاء العالم العربي عامل مساعد أسهم في زيادة الإقبال على الكتاب الكويتيين»
ويرى الهندال أن أبرز أسباب انتشار الكتاب أو الرواية هو ثمنها «لا يزال انتشار الكتاب متوقفا على ثمنه، فالكتاب الذي قيمته 20 جنيها يحقق مبيعات أفضل من الكتاب الذي ثمنه 50 جنيها».
والتقط الخيط الأديب الأردني فادي زغموت متحدثا عن مأساة نشر روايته الأولى «عروس عمان» الصادرة عام 2012. قائلا: «كنت قد بدأت التدوين والكتابة على مدونتي عام 2006. وما إن أنهيت الرواية قررت أن أكتب لدار نشر لبنانية لأن دور النشر هناك من أنشط الدور في العالم العربي، ولم أتلق ردا، فقررت أن أذهب لدور نشر أردنية، وتلقيت رد خلال أسبوع من دار (فضاءات) وطلبوا مني شراء 200 نسخة، وبالفعل قمت بذلك وخلال أسبوع نشرت الرواية، إلا أنها لم توزع في المكتبات! فبدأت أذهب للمكتبات وأطلب منهم أن يعرضوا روايتي، وبالفعل وافقت إحدى المكتبات وعرضت 7 روايات».
وتحدث زغموت عن أهمية الدور الذي تلعبه الإنترنت في حركة النشر، وضرورة استغلال الكاتب لها وعدم الاستهانة بها: «توصلت إلى أنه علي أن أقوم بالترويج لروايتي وبدأت بالفعل القيام بذلك عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وقمت بالترويج لها عبر مدونتي وصفحات فيسبوك وإنستغرام، ووجدت أن المكتبة طلبت مني المزيد من النسخ، وهكذا طلبت مني عدة مكتبات أخرى إلى أن نفدت الطبعة الأولى في 5 أشهر».
وخاض زغموت تجربة أخرى مع دار نشر «جبل عمان» الأردنية، في نشر ذات الرواية لتحقيق الرواج خارج الأردن، إلا أنه اكتشف بعد 3 سنوات أنها لم توزع خارج الأردن. قائلا: «كنت أطمح أن يكون لي جمهور أوسع من نطاق الأردن وأرغب أن توزع الرواية في الخارج».
ويتفق الأردني زغموت مع ما طرحه الكاتب الكويتي إبراهيم الهندال أن على الكاتب أن يتوجه لمراكز النشر في العالم العربي سواء لبنان أو مصر، مركزا على أهمية دور الإعلام وتواصل دور النشر مع الصحافيين للترويج لإصداراتهم. فقد لجأ زغموت في روايته الثانية إلى «دار الآداب» اللبنانية وبالفعل صدرت عنها روايته «جنة على الأرض» عام 2014. وهي رواية خيال علمي، وبالفعل وجد أن «الدور اللبنانية لديها خبرة طويلة في مجال تسويق وتوزيع الكتاب» ووجدت الدار أرسلت خبرا للصحف، وأقامت حفل توقيع ساهم أيضا في الترويج للرواية، كما أنه على هامش معارض الكتاب عقدت لقاءات تلفزيونية مع عدد من القنوات اللبنانية مما ساهم في مزيد من الترويج.
وأضاف: «وحينما زرت مصر، تعرفت على صديقة نصحتني بأن أكتب خبرا صغيرا على أن تتوسط وترسله لصديق لها يعمل صحافيا، ومن هنا ذاع صيت الرواية في مصر، لذا اكتشفت أنه على الكاتب أحيانا أن يروج لنفسه خارج وطنه إذا أراد أن يصل لجمهور أكبر»
واتفق أيضا معهم الكاتب السوداني المقيم بالقاهرة حمور زيادة، صاحب رواية «شوق الدرويش» التي وصلت للقائمة القصير لجائزة البوكر 2015. وأول سوداني يحصل على جائزة نجيب محفوظ للرواية لعام 2014.
وأثار زيادة نقطة هامة ألا وهي الوجود الجسدي للأديب داخل أحد مراكز النشر، متحدثا عن تجربته في الإقامة بالقاهرة، قائلا: «قد لا يشعر الكاتب في مصر أو لبنان بمسألة الهامش والمركز، لأنه لا يشعر بالتهميش أو لا يجد صعوبات في النشر والتوزيع، وعلينا أن نعترف أنه بالفعل هنالك مركزية في دور النشر، وهو أمر واقع».
وعن المزايا التي تتيحها مصر وسطوة ووهج الإعلام فيها، قال حمور: «مصر تتميز بمسألة أنها تتيح للكاتب الانتشار رغم المقولة الشهيرة (القاهرة تكتب وبيروت تطبع) أرى أن مصر تتفوق حتى في مسألة القراءة وتحقق أكبر عدد من الطبعات لأي إصدار، وذلك نظرا لعدد سكانها الكبير فيها 90 مليونا لو قرأ منهم 10 في المائة فقط أي كتاب فإنه سيحقق مبيعات هائلة».
وأضاف: «مصر بها أكبر صناعة إعلام وبها اهتمام كبير بالأدب والثقافة، مهما اشتكى المصريون من ذلك وتدهور الفعاليات الثقافية لكن أنا كشخص جاء من الهامش أرى أن مصر ما زالت تتصدر المشهد الثقافي في الوطن العربي، ففيها قراء ونقاد وندوات وإعلام مرئي ومسموع بل إن عدد الكتاب لا يقل عن عدد القراء».
ويروي زيادة عن تجربته في الكتابة في السودان قائلا: «اتجهت للكتابة الفعلية في بداية مرحلة الشباب عام 1997. بعد أن كنت أقرأ لمحمد سالم (المغامرون الخمسة)، وكوميكس تان تان، وبدأت أكتب متوجها نحو الواقعية الاشتراكية، وفي السودان لم أكن أعرف أين يمكنني أن التقي بالمثقفين؟ على عكس مصر بالطبع. بالمصادفة التقيت أحدهم في سوق الكتب القديمة بالخرطوم، ووجدت أن هناك مكانا صغيرا يسمى (نادي اليونيسكو) يلتقي في نحو 6 مثقفين سودانيين يتبادلون النقاش والتجارب الأدبية، ناهيك عن أنه لا توجد دور نشر أصلا، ووزارة الثقافة السودانية لا تقوم بنشر أي أعمال أدبية، وعادة ما يلجأ الكتاب والشعراء إلى إرسال منتوجهم لبعض المقربين والأصدقاء بديلا عن نشر كتبهم».
ويضيف «في السودان عندما تقول فلان كاتب، أي إن له كتبا قرأوها إلكترونيا، وهناك كتاب يكتبون منذ السبعينات ولا يجدون من ينشر لهم! ويتجهون لنشر بعض إبداعاتهم في الصحف والدوريات. وهناك 3 مكتبات كبرى فقط في السودان هي التي يمكن أن تجد فيها الإنتاج الأدبي العربي ولكن بأسعار باهظة لأن تكلفة الشحن إلى السودان باهظة الثمن جدا».
وعن أول تجربة نشر، ذكر زيادة: «كانت أول تجربة لي مجموعة قصصية (سيرة أم درمانية) ذهب لدار الأحمدي بالقاهرة، وطلبوا مني أن أدفع 5 آلاف جنيه لقاء نشر الرواية وكان ذلك عام 2008. وأرسل بضع نسخ منها للسودان، لكنها لم تلق أي رواج. بعدها ذهبت لدار ميريت ووجدت ترحيبا كبيرا من مالكها محمد هاشم، وتحمس لنشر روايتي الأولى (الكونج)، ثم تلقفتني دار العين بعدها لتطبع (شوق الدرويش). أتصور أنه لولا وجودي في مصر لما كنت حصلت على جوائز أو وجدت رواياتي مثل هذا الرواج». واستشهد زيادة بعدد من الكتاب السودانيين الذين يعيشون خارج السودان سواء في قطر أو في الإمارات وكيف أنهم حققوا نجاحا لم يحققوه وهم بالسودان: «للأسف هناك كثير من الكتاب السودانيين مثل عادل مك هم علامات في الأدب العربي، لكن لم يحظوا بأي احتفاء إعلامي لعدم احتكاكهم بالوسط الثقافي في مراكز النشر مثل مصر».
وردا على سؤال «الشرق الأوسط» للكتاب الثلاث المشاركين في الندوة حول تأثير منتديات القراءة مثل «غود ريدز» على التقليل من قدر مسألة الهامش والمركز في النشر وانتشار الأعمال الأدبية؛ اتفق كل من الهندال وزغموت وزيادة، حول أهمية تلك المنتديات في الترويج لأعمالهم بل والتواصل الشخصي مع جمهور القراء، والمساهمة في التعرف على كيفية تلقي الجمهور لأعمالهم.
لكن حمور زيادة ذهب إلى أن مسألة التقييم على تلك المنتديات تخضع لذائقة القراء المختلفة بطبيعتها، لذا لا تكون محض اهتمام كبير له، ولا تؤثر في دفعه للكتابة أو التوقف عنها، قائلا: «أحيانا أجد هجوما غير مبرر من قبل البعض، ولكن دوما أقول: أنا أنتمي لمدرسة الحكائين، وسوف أظل أكتب حتى يقتنع الجميع أنني كاتب جيد، ففكرتي تكمن أنني لا أكتب رواية لكي أعالج فكرة أو أوجه رسالة للإنسانية؛ أنا أكتب لأحكي حكاية قد تعجب البعض أو لا، وهي مسألة تتوقف على اختلاف الذائقة الأدبية، وسأظل أكتب إلى أن يجد كل قارئ على اختلاف ذائقته أيا من رواياتي هي روايته المفضلة».



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!