«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي

الفرع السويسري هز الجذع الدولي لبنك «إتش إس بي سي»

«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي
TT

«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي

«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي

بدأت فضيحة ما يعرف بـ«سويس ليكس»، التي تورط فيها مصرف «إتش إس بي سي» البريطاني العملاق، كنار وسط هشيم، سرعان ما اتسع خطرها، واضعة سمعة هذه المؤسسة المالية وفروعها في أنحاء العالم على المحك.
بدأت فصول هذه الفضيحة، التي أثارت عاصفة سياسية قبل الانتخابات العامة في مايو (أيار) المقبل، بادعاءات بوجود تورط في عمليات تهرب ضريبي وغسل أموال، ما زالت تحقيقاتها مستمرة. التحقيقات الجديدة جاءت رغم تأكيدات البنك بأنه قام بتنظيف الممارسات الخاطئة في الفرع السويسري، خصوصا في ما يتعلق بالتهرب الضريبي، منذ ظهور أول تسريبات شبيهة في عام 2008.

الأسبوع الماضي قامت السلطات السويسرية بغارة على الفرع السويسري في جنيف لفحص مزيد من مستندات البنك، ووثائقه، بعد أن تعالت الأصوات وتصاعدت موجة التسريبات لتشمل فروعا في عدد من بلدان العالم. ويواجه البنك حاليا تحقيقات في البرازيل والمكسيك والأرجنتين وفرنسا وبلجيكا والدنمارك، وهي تحقيقات تتعلق بحسابات سرية بعضها يخص قضايا فساد واختلاس وغسل أموال.
لم تتوقف الأمور عند حد.. وتصاعدت التطورات أخيرا بعد كشف مزيد من الوثائق السرية تؤكد إحداها أن المدير العام للمصرف، ستيوارت غاليفر، الذي تعهد بإصلاح هذه المؤسسة المالية التي طالتها الفضيحة، كان هو نفسه يملك ملايين الدولارات في حساب في سويسرا.
وبحسب الصحف البريطانية، فإن المدير العام للمصرف كان من عملاء فرعه السويسري المتهم بمساعدة زبائن أثرياء على التهرب من دفع الضرائب. وأفادت الصحف أن ستيوارت غاليفر كان يملك نحو 7.6 مليون دولار عام 2007 في حساب باسم «ورستير إيكويتيز»، وهي شركة مسجلة في بنما.
وكانت الصحف البريطانية نشرت قبل أيام رسالة اعتذار من غاليفر على أنشطة فرع «إتش إس بي سي» السويسري. وأكد غاليفر في رسالته أنه تمت «إعادة هيكلة كاملة» للفرع السويسري للمصرف بعد2007 بعدما سرب مهندس معلوماتي فرنسي يدعى ارفيه فالشياني قوائم بعملاء المصرف الذين يملكون حسابات في سويسرا وسلمها إلى السلطات الفرنسية.

* جذور القضية
تعود جذور قضية بنك «إتش إس بي سي» إلى ما قبل 7 سنوات، ولكنها انفجرت مرة أخرى قبل أيام عندما حصلت عدة وسائل إعلام من فرنسا وبريطانيا وحول العالم على وثائق سرية قررت معها نشر تفاصيل جديدة حول نشاط البنك في مساعدة عملائه على التهرب من دفع الضرائب وعلى غسل الأموال. وتأتي التفاصيل الجديدة في وقت حرج قبل الانتخابات البريطانية في شهر مايو المقبل حيث تستغلها الأحزاب البريطانية سياسيا.
وفي بريطانيا، يبحث الإعلام في سر تعيين رئيس البنك السابق ستيفن غرين وزيرا للتجارة، وعما إذا كان رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون يعلم بفضيحة البنك في وقت التعيين عام 2010.
وقائع قضية بنك «إتش إس بي سي» بدأت عام 2008 حينما قام محلل برامج اسمه ايرفي فالشياني كان يعمل في الفرع السويسري للبنك بسرقة بيانات سرية لأكثر من 30 ألف عميل للبنك يملكون في حساباتهم أكثر من مائة مليار دولار. وتعود هذه الحسابات إلى الفترة ما بين 2005 و2007، وذلك في أكبر عملية تسريب مصرفية في العالم تشبه عملية «ويكيليكس» لتسريب المعلومات الدبلوماسية الأميركية.
هرب فالشياني بالوثائق الإلكترونية إلى فرنسا. وفي فرنسا سلم فالشياني المعلومات للسلطات الفرنسية مقابل حمايته من طلب الاعتقال السويسري.
وفي عام 2009، بعثت وزيرة المالية الفرنسية آنذاك كريستيان لاغارد لائحة بعملاء البنك المذكورين في قوائم حسابات البنك إلى السلطات البريطانية وإلى حكومات عدد من الدول الأخرى.
ورغم علم السلطات البريطانية بفضيحة البنك، فإنها قامت بتعيين ستيفن غرين رئيس بنك «إتش إس بي سي» خلال فترة المخالفات وزيرا للتجارة، ثم رفعته إلى مجلس اللوردات في عام 2011.
القضية التي عادت إلى الظهور مرة أخرى متعددة الجوانب وتمس مجالات الضوابط المالية على البنوك خصوصا في مناطق الـ«أوفشور»، وأيضا الجوانب السياسية والإعلامية في الدول المتأثرة بالفضيحة، وما إذا كانت هناك جهود تبذل تحت الستار لإخفاء التحقيقات.
«الشرق الأوسط» اتصلت بهيئة الإشراف المصرفي (FCA) لمعرفة ما إذا كانت تقوم في الوقت الحاضر بتحقيقات حول وضع «إتش إس بي سي»، فكان رد المكتب الصحافي فيها أن «الهيئة تبحث في ممارسات البنك، ولكنها لا تقوم بتحقيق في الوقت الحاضر». وأضافت المتحدثة أن التسريبات في الفرع السويسري «أظهرت أهمية أن تعمل البنوك وفق الضوابط نفسها في كل المواقع والفروع». وأكدت الهيئة أنها تتعاون مع «بنك إنجلترا» ومع مصلحة الضرائب «من أجل معالجة أي قضايا إشرافية تظهر جراء الممارسات الحالية في «إتش إس بي سي».
وقال رئيس الهيئة مارتن ويتلي أمام هيئة برلمانية بريطانية إن الادعاءات ضد البنك تعود إلى أحداث وحسابات في الفترة ما بين 2005 و2007 وتخص الفرع السويسري وحده، وأضاف أن الهيئة تتابع ممارسات البنك جيدا وتعتقد أنها تحسنت بدرجة ملحوظة.
من ناحية أخرى، رفض «بنك إنجلترا» التعليق على القضية أو تأكيد ما إذا كان الجهاز الرقابي في البنك يقوم بمراجعة ممارسات بنك «إتش إس بي سي». كذلك رفضت مصلحة الضرائب البريطانية الإجابة عن أسئلة حول مجرى التحقيقات حاليا في حالات العملاء البريطانيين للبنك من المخالفين لقوانين الضرائب. وقال متحدث من المصلحة إنها لا تعلق على قضايا خاصة بأفراد أو بشركات فردية مثل «إتش إس بي سي».

* تداعيات إعلامية وسياسية
من أهم تداعيات القضية إعلاميا كانت استقالة كبير المحررين السياسيين في صحيفة «تلغراف» البريطانية بيتر أوزبورن، في نزاع مع ناشر الصحيفة حول محاولات منع نشر مقالات سلبية عن بنك «إتش إس بي سي» خوفا من منع إعلانات البنك عن الصحيفة. وطالب أوزبورن بالتحقيق في مدى تحكم أقسام الإعلان في السياسة التحريرية للصحف، وقال إن تغطية الصحيفة لموضوع بنك «إتش إس بي سي» هي فضيحة في حد ذاتها وغش للقراء. وكشفت صحيفة الـ«غارديان» البريطانية أن الأخوين باركليز حصلا على قرض قيمته 250 مليون إسترليني (375 مليون دولار) من بنك «إتش إس بي سي» لشركات أخرى غير الصحيفة مما يثير الشكوك في ادعاءات المحرر أوزبورن الذي استقال.
ويستغل حزب العمال المعارض هذه القضية سياسيا في إبراز تعيين رئيس «إتش إس بي سي» السابق ستيفن غرين وزيرا للتجارة في عام 2010، وأيضا لأن التحقيقات البريطانية لم تسفر إلا عن قضية تهرب ضريبي واحدة. ويلعب الحزب على أوتار الاعتقاد السائد بأن الفقراء فقط هم الذين يعاقبون على التهرب الضريبي في بريطانيا. وقدم الحزب استجوابا لوزير الخزانة جورج أوزبورن عن مدى معرفة وزارته بتوجه مصلحة الضرائب لعدم محاكمة مخالفي قوانين الضرائب وعما إذا كانت الوزارة سمحت بذلك.
أما حزب المحافظين فيرفض إجراء تحقيق علني، ويقول المتحدث باسم رئيس الوزراء إن مصلحة الضرائب البريطانية تصرفت بعقلانية عندما فضلت تحصيل الضرائب والغرامات بدلا من رفع قضايا جنائية.
من ناحيتها، تقول وزارة الخزانة التي تلقت المعلومات من فرنسا إن السلطات الفرنسية وضعت بعض القيود على استخدام المعلومات وهي قيود لم ترفع إلا أخيرا.

* جوهر القضية
جوهر الفضيحة كما عرف من الحسابات السويسرية للبنك هو أن بعض العملاء المذكورين يملكون حسابات سرية لا تعرف عنها مصلحة الضرائب البريطانية شيئا، وأن البنك ساعد هؤلاء العملاء على التهرب الضريبي مع معرفته بذلك، بل وسهل لبعض العملاء استخدام أموالهم بطرق غير مشروعة للتهرب الضريبي.
في إحدى الحالات طلب أحد العملاء البريطانيين من الفرع السويسري إرسال شحنة مالية نقدية سرية إليه في لندن مع موظف من البنك، فطلب منه البنك التوجه إلى فرع لندني لتلقي المبلغ المطلوب نقدا.
في حالة أخرى صرف البنك السويسري مبلغ 2.5 مليون إسترليني (3.75 مليون دولار) نقدا لعميل ذهب لسويسرا لتسلم المبلغ في حقيبة.
عميل ثالث في بريطانيا طلب وسيلة للوصول السهل إلى حسابه السري، فصرف له البنك بطاقة ائتمان يمكن بها صرف أي مبالغ نقدية فورية من أجهزة الصرف الآلي حول العالم.
وبعد كشف هذه المعلومات منذ عام 2009 في بريطانيا حول حسابات سرية لأكثر من 5 آلاف عميل بريطاني، لم تسفر التحقيقات إلا عن توجيه الاتهام لشخص واحد بالتهرب الضريبي، بينما تم تحصيل مبلغ 135 مليون إسترليني (202 مليون دولار) من بقية عملاء البنك المتهربين من الضرائب، وهو مبلغ أقل مما حصلته دول أخرى لديها عدد أقل من العملاء في بنك «إتش إس بي سي». فالتسريبات أدت إلى تحقيقات جنائية وعمليات اعتقال في كل من فرنسا وبلجيكا والأرجنتين.
وتدل عملية الاقتحام والتفتيش من السلطات السويسرية لفرع البنك في جنيف أخيرا على أن سويسرا تعتبر التهرب الضريبي جريمة أكبر من السرقة التي أدت إلى الكشف عن هذا التهرب، فقد كانت في السابق تلاحق سارق المعلومات فالشياني وحده، أما الآن فهي تلاحق البنك والسارق معا، وتقول إنها قد تحاكم فالشياني غيابيا.
البنك نفسه يقول إنه يتعاون مع السلطات السويسرية منذ علمه بسرقة معلومات الحسابات في عام 2008. ويشير البنك إلى أن القضية قديمة وأن ما يثار حولها الآن يجري لأغراض أخرى. وأكد بيان من البنك أنه منذ عام 2008 قام البنك بتغيير شامل لتعزيز المراقبة ومعرفة هوية المودعين، مما أدى إلى خفض عدد المودعين في البنك السويسري بنسبة 70 في المائة منذ عام 2007.
وفي الأسبوع الماضي نشر البنك إعلانات على صفحات كاملة في الصحف البريطانية يعتذر فيها عن ممارسات الفرع السويسري، ويشير إلى أن المخالفات وقعت قبل 8 سنوات وأن مناخ وضوابط العمل في البنك قد تغيرت منذ ذلك الحين.
ويقول المتحدث الإعلامي في الفرع الرئيسي للبنك إن عدد الموظفين المشرفين على الالتزام الضريبي زاد 4 أضعاف إلى 6 آلاف موظف. وفي عام 2012 وقع البنك اتفاقية مع السلطات الأميركية للالتزام بقواعد منع غسل الأموال، وذلك بعد دفع أكبر غرامة في تاريخ المصارف الحديث، قدرها 1.9 مليار دولار لمخالفته قوانين الحظر على إيران وشبهة غسل أموال لشبكات مخدرات مكسيكية.

* سر عودة قضية «إتش إس بي سي» إلى واجهة الأحداث.. وحقائق أخرى
* رغم أن قضية «إتش إس بي سي» تعود إلى عام 2008 وتتعلق بحسابات مصرفية بين عامي 2005 و2007، فإنها انفجرت إعلاميا في عام 2015، لسبب بسيط؛ وهو أن بعض وسائل الإعلام حصلت على التسريبات المصرفية وقررت نشر الوقائع. من هذه الوسائل كل من صحيفة «لوموند» الفرنسية التي كانت المصدر الأصلي قبل توزيعها معلومات الحسابات السرية على كل من «بي بي سي» والـ«غارديان» البريطانية ونحو 50 صحيفة أخرى حول العالم.
* هناك فارق قانوني مهم في قضايا الضرائب، حيث تساهم معظم البنوك الخاصة في مساعدة عملائها على كيفية تجنب دفع الضرائب، وهو نشاط يسمى (Tax Avoidance) ويعتبر قانونيا تماما رغم أن بعض البنوك تذهب إلى أبعاد خيالية لتجنب الضرائب. أما إخفاء الأموال أو تهريبها من أجل التهرب الضريبي (Tax Evasion) فهو أمر مخالف للقانون وتعاقب عليه بعض الدول بالسجن وبعضها بالغرامة.
* ما لم تذكره التقارير حول تسريب الحسابات السويسرية لبنك «إتش إس بي سي» هو أن معظم العملاء على اللائحة يتمتعون بوضع قانوني سليم؛ حيث اتضح من الأرقام أن المخالفين لقوانين الضرائب كانوا أقل من عميل واحد من كل 7 عملاء على اللائحة البريطانية. وتفتح الحسابات المصرفية السويسرية لكثير من الأسباب وليس فقط للتهرب الضريبي. وصرح مصرفي بريطاني أنه فتح حسابا سويسريا بمبلغ 10 ملايين دولار من أجل إخفاء حجم عمولته عن زملائه.
* تكتسب عملية الإشراف المصرفي أهمية إضافية في الوقت الحاضر مع جهود ضبط ومنع مصادر تمويل الإرهاب. ومن المتوقع أن تعزز السلطات السويسرية من التزام البنوك السويسرية بقواعد منع غسل الأموال والتهرب الضريبي ومعرفة هوية أصحاب الحسابات المصرفية.

* وسائل «إتش إس بي سي» الست للتهرب الضريبي
* استخدم بنك «إتش إس بي سي» 6 وسائل من أجل تحقيق أهداف تجنب دفع ضرائب أو التهرب منها، لعملائه: وهي تشمل إحدى أو بعض الخطوات التالية:
- الحصول على الإقامة السويسرية عن طريق الإقامة في البلد لعدة أشهر كل عام ودفع معدلات الضريبة المنخفضة فيها. ولكن هذا الأسلوب يخص كبار الأثرياء فقط، وهو قانوني تماما.
- استخدام حق «غير المقيم» في الدول التي يعمل فيها عميل البنك. وفي بريطانيا، يحق للمواطن الذي يقيم في الخارج لفترات معينة من العام أن يتجنب دفع ضرائب على كل استثماراته وممتلكاته خارج بريطانيا.
- تأسيس صناديق «أوفشور»، وهو أيضا من الممارسات القانونية، ولكن تغييرات في قوانين الضرائب شملت هذه الصناديق ضمن الأصول غير المعفاة ضريبيا أدت إلى خفض شعبيته حاليا.
- أسلوب آخر هو تحويل الحسابات الشخصية إلى حسابات شركات لتجنب الالتزام بدفع ضرائب وفق اتفاقية وقعتها السلطات السويسرية مع الاتحاد الأوروبي في عام 2005.
- الأسلوب السهل وإن كان غير قانوني هو فتح حساب مصرفي سويسري سري وعدم إبلاغ السلطات الضريبية به.
- الوسيلة الأخيرة هي سحب الأموال نقديا وشحنها مع المسافر من الخارج إلى موقع إقامته. وإذا زادت هذه الأموال عن حدود معينة ولم يتم الإفصاح عنها فهي تصبح أيضا وسيلة غير قانونية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».