الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

رئيس الحكومة الليبية يطمح في عودة حكومته للعمل من طرابلس

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول
TT

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

الثني.. ابن الواحات في مواجهة المجهول

البدلات المدنية وربطات العنق الملونة لا تخفي الخلفية العسكرية التي جاء منها عبد الله الثني رئيس الحكومة الليبية.
لهذا تعول العديد من القيادات الليبية، سواء من داخل البرلمان أو خارجه، على قدرة هذا الرجل الأسمر القادم من واحات النخيل جنوب غربي طرابلس، في إدارة الدفة سعيا لكسب الحرب الصعبة مع ميليشيات متطرفة تديرها جماعة الإخوان وأنصارها من المتشددين.

حمل الثني العديد من الرتب العسكرية كان آخرها رتبة «عقيد» قبل أن ينال نصيبه من السجن في عهد معمر القذافي. ففي ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الجيش الليبي يخوض حربا في دولة تشاد المجاورة من ناحية الجنوب، ارتفعت لغة الانتقادات في بعض الأوساط الليبية بشأن جدوى هذه الحرب التي كانت تأكل الأخضر واليابس وقتها. ومن بين من جهروا بالقول ضد عمليات الجيش في تشاد أخ للثني نفسه.
منذ تلك الواقعة أصبحت عائلة الثني من العائلات المشكوك في ولائها للقذافي. لهذا بدأت تجربة الرجل مع التحقيقات والاعتقالات والسجون، خاصة بعد أن اضطر شقيقه، الذي كان طيارا في سلاح الجو الليبي، للفرار من البلاد احتجاجا على حرب مجنونة في صحراء تشاد راح ضحيتها آلاف الليبيين.
تبعد بلدة الثني، غدامس، نحو 540 كيلومترا، جنوب غربي العاصمة. كانت في الماضي ملتقى ومحطة للقوافل التجارية في شمال أفريقيا. هي واحة خضراء وسط الصحراء يبلغ عدد سكانها نحو 25 ألف نسمة، وقريبة من حدود ليبيا مع كل من تونس والجزائر. للوصول من غدامس إلى العاصمة لا بد من قطع طريق بري يمر عبر العديد من المدن والبلدات والواحات الواقعة بين سفوح ومرتفعات جبل نفوسة الشهير.
وبالإضافة إلى عمله العسكري في مناطق مختلفة، تمكن الثني من معرفة خارطة القبائل والعائلات في عموم البلاد. وانخرط في صفوف حكام الدولة الجديدة عقب الإطاحة بالقذافي ومقتله في سرت في خريف 2011. شغل الرجل المولود عام 1954 موقع وزير الدفاع في حكومة زيدان، وسط أجواء لم تكن تقل خطورة عن عهد القذافي. فالميليشيات التي كانت تقاتل نظام العقيد، رفضت إلقاء السلاح بعد «نجاح الثورة»، بل عملت على تعزيز قدراتها وتسليحها. وبينما كان مطلوبا من زيدان ووزير دفاعه، إعادة تأسيس الجيش الوطني، والقضاء على مظاهر التسلح، كانت الميليشيات، بمساعدة قادة من جماعة الإخوان، قد بدأت في التحدي والتحول إلى قوات بديلة للجيش، ومقاومة أي فرص لوجود كيان ذي شأن لوزارة الدفاع الجديدة.
ووفقا لما كان يدور في اجتماعات الدكتور زيدان الذي انتهى به المطاف حاليا للإقامة في القاهرة، فقد كان الثني من أشد المتحمسين للم شتات وزارة الدفاع والجيش الليبي الذي تعرض لضربات موجعة من طريقين.. الطريق الأول كان أيام الحرب ضد القذافي وجاءت منه صواريخ وقنابل طائرات حلف الناتو التي قضت على نحو 90 في المائة من قدرات الجيش، بحسب إفادة سابقة حصلت عليها «الشرق الأوسط» من رئيس أركان الجيش الحالي اللواء عبد الرزاق الناظوري.
أما الطريق الثاني الذي جاءت منه الضربات ضد وزارة الدفاع والجيش، فكان على يد قيادات جماعة الإخوان خاصة في عامي 2012 و2013 حين هيمنت الجماعة على قرار البرلمان وجانب كبير من القرار الحكومي. قاوم زيدان والثني هذا التوجه الإخواني الذي تسبب في إنهاء خدمة وعزل الآلاف من منتسبي الجيش تحت مبررات شتى من بينها أنهم كانوا يدافعون عن نظام القذافي. بغض النظر عن ألاعيب السياسة كان الليبيون الذين قاموا بثورة 17 فبراير 2011، يشعرون بالخطر، لأن أحلامهم في إقامة دولة جديدة مبنية على الديمقراطية والحرية، بدأت تتبخر. ولهذا جرى لأول مرة تنظيم مظاهرات ضد التسلح وضد الميليشيات وتؤيد الإسراع ببناء الجيش.
من هنا، أي منذ أواخر 2013، بدأ الثني يشعر أن مهمته كوزير للدفاع ليست هينة. فالمطلوب منه أولا إعادة بناء الوزارة وجيشها، وفي الوقت نفسه مواجهة الميليشيات المسلحة تسليحا قويا، وبعد ذلك بسط الأمن والاستقرار في المدن المضطربة وحماية الحدود مع دول الجوار.
هنا بدأت الميليشيات والمتطرفون في الرد لوأد ما يقوم به زيدان والثني، واشتعلت عمليات القنص والتفخيخ لضباط الجيش وسياراتهم خاصة في بنغازي التي تعد من أهم مدن ليبيا و«رمانة الميزان» فيها. أما في طرابلس فأخذت الميليشيات في التضييق على كل من يحمل توجهات زيدان والثني.
أولا وصل عدد من تعرضوا للقتل من ضباط وضباط صف وجنود لأكثر من 500 في عام واحد، في بنغازي فقط. وفي طرابلس شهد الثني عمليات العسف ضد توجهاته وتوجهات زيدان الذي ألقت الميليشيات القبض عليه في مشهد مهين، وذلك أثناء وجوده في أحد فنادق العاصمة. كما جرى الضغط على الثني أيضا بتدبير عملية أدت لاختطاف ابنه لعدة أشهر.
ومع ذلك كانت إدارة الثني للتداعيات تجري بطريقة تبدو محسوبة استنادا إلى خبراته التي مر بها عبر سنوات من الظروف الصعبة. حين قام البرلمان السابق بإقالة زيدان، اضطر للاستعانة بالثني لترؤس حكومة مؤقتة لمدة 15 يوما، حتى لا يحدث فراغ في السلطة.
يعد البرلمان في ليبيا أعلى سلطة في البلاد، وفقا للإعلان الدستوري الذي يدير الدولة انتظارا لتأسيس دستور دائم وانتظارا لانتخاب رئيس للدولة، وإقامة نظام مستقر. حين اقترب موعد انتهاء المدة القانونية لعمل البرلمان وحين جاء الوقت لإجراء انتخابات لاختيار برلمان جديد، بدأ قادة الإخوان يشعرون بالقلق بسبب تغير مزاج الرأي العام الليبي الرافض للفوضى والميليشيات.
يقول أحد من عملوا بالقرب من الثني إنه بدأ في ذلك الوقت يشعر بالانتعاش، وبدأ يعتمد على الرأي العام الليبي في قراراته وتحركاته. كانت الأجواء أمام الثني تدور على النحو التالي في النصف الأول من العام الماضي.. حكومة ضعيفة يقوم برلمان الإخوان بالتلاعب بها.. ضباط الجيش وجنوده يشعرون بالغضب بسبب ما يتعرضون له من هجمات منظمة من المتطرفين. قيادات شعبية وسياسية تدعو إلى التخلص من مظاهر التسلح وإقامة جيش قوي تعتمد عليه الدولة الجديدة.
هنا كانت صورة اللواء خليفة حفتر قد ترسخت في أذهان الليبيين على أساس أنه قادر على الرد بقوة على الميليشيات والتأسيس لجيش يمسك بزمام الأمور لتأمين الدولة والشعب. استمر الثني، المولود لأب كان يعمل في نيجيريا لسنوات، ممسكا بمقاليد رئاسة مجلس الوزراء والحكومة في ظل متغيرات صعبة وصراع مكشوف بين أنصار الدولة وأنصار الفوضى.
يمكن بكل بساطة أن تقول إنه شغل موقع رئيس الحكومة الليبية 3 مرات، بدأت عقب حجب البرلمان السابق الثقة عن سلفه الدكتور زيدان. وما زال الثني رئيس الحكومة حتى الآن رغم أنه حين بدأ في قيادة سفينة الدولة الليبية وجدها تتخبط وسط أمواج مضطربة وأعاصير عاصفة.
كان الثني وهو يتقلد موقعه في العاصمة طرابلس الغرب يأمل في أن تهدأ الأمور، لكن الرياح الهوجاء التي يثيرها المتطرفون، قذفت به وبحكومته بعيدا، وأخذ يدير شؤون البلاد من مدينة البيضاء الواقعة على بعد 1300 كيلومتر شرق العاصمة، وعلى بعد 200 كيلومتر من مقر البرلمان الذي اضطر هو الآخر لعقد جلساته في مدينة طبرق.
في هذه المنطقة الهشة التي ظهرت بين تمسك البرلمان السابق بالاستمرار في عقد جلساته، والبرلمان الجديد الذي يلتف حوله غالبية الليبيين، بدأ الثني في الضرب بيد من حديد من أجل تغيير المعادلة. فعقد جلسات سرية مع العدو اللدود للمتطرفين، وهو اللواء حفتر.. وانحاز للبرلمان الجديد، وبدأ يسلك طريقه حتى تمكن من الحصول على الاعتراف الدولي بحكومته والبرلمان الجديد الذي يعمل من خلاله، والجيش الوطني بقيادة حفتر.
رغم الوضع المعقد داخليا، أمسك الثني بالخيوط وبدأ في تحريكها بحسابات بالغة التعقيد وسط ظروف إقليمية ودولية غير مطمئنة. لهذا انطلق الثني إلى القاهرة لأنها الجارة الوحيدة تقريبا التي تحدثت بوضوح وحسم، ومنذ البداية، عن الخطر الذي أصبح يمثله المتطرفون في هذا البلد شاسع المساحة والغني بالنفط، والذي يعمل فيه مئات الألوف من المصريين.
أحد أهم المشاكل التي تعد كالكابوس أمام الثني، وتؤخر الحل في بلاده، إصرار عدة أطراف إقليمية ودولية على مساندة البرلمان المنتهية ولايته ومد المتطرفين بالأسلحة والأموال، ورفض أي تسوية سياسية داخلية لا يكون الإخوان جزءا منها، رغم تصنيف هذه الجماعة كمنظمة إرهابية، واتهام السلطات الليبية لها بالوقوف وراء الفوضى التي تضرب البلاد بما فيها حرق مطار طرابلس الدولي وتسهيل طرق تحرك المتطرفين وتسليحهم ومحاربتهم للسلطات الشرعية الليبية.
عاش الثني مراحل من حياته في أجواء واحات غدامس التي تعيش فيها قبيلتان من أصول أمازيغية، هما «وازيت» و«وليد». وظهرت الابتسامة العريضة لأول مرة على وجهه وهو يقف إلى جانب كبار المسؤولين المصريين الذين تعهدوا بعدم ترك الجارة ليبيا للفوضى. يوجد مصير مصري ليبي مشترك. على الفور جرى توقيع مزيد من الاتفاقات الثنائية لمساعدة الحكومة والجيش الوطني. فالجماعات المسلحة لا تهدد مستقبل الدولة الليبية فقط ولكنها تهدد أيضا الأمن القومي المصري، بداية من خطر تهريب الأسلحة عبر الحدود البالغ طولها بين البلدين أكثر من ألف كيلومتر، أو من خلال تهريب المتطرفين لتنفيذ عمليات إرهابية هنا وهناك. يتبنى الثني وجهة نظر لا تتوافق على ما يبدو مع التوجهات التي يريدها ممثل الأمم المتحدة في بلاده، السيد برناردينو ليون. يشرف ليون على الحوار بين الفرقاء الليبيين، لكن يبدو، منذ بدء الحوار في أغسطس (آب) الماضي، أن عملية الحوار تجري في طريق لا يفضله لا البرلمان الليبي ولا حكومته ولا جيشه ولا الجارة مصر.
توجد إشارات دولية، غربية بالأساس، عن أن طاولة الحوار لا بد أن تضم كل الأطراف بما فيها الجماعات التي تنظر إليها السلطة الشرعية في ليبيا، والسلطات المصرية، على أنها «جماعات إرهابية». ومع هذا يتحدث الثني عن ضرورة أن يتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ ليبيا من الفوضى التي تسير إليها.. لكن حتى حينما يفعل ذلك فإنه لا يعني دعوة جيوش العالم لاحتلال بلاده كما يحاول قادة الإخوان والتطرف الإيحاء بهذا..
يحتفظ الرجل في ذاكرته بتجارب مريرة عن التدخل الأجنبي. فقد احتلت إيطاليا بلدته عام 1924، ثم مر على بلدته أيضا الاحتلال الفرنسي عام 1940 وظل فيها لمدة 15 سنة. ولهذا، هو يريد من العالم، كما قال أكثر من مرة، رفع الحظر الدولي عن تسليح الجيش الليبي، وعدم المساواة بين الجيش الشرعي النظامي، والميليشيات المتطرفة التي لا بد من تفكيكها، وليس تشجيعها بالدخول في حوار سياسي، بينما هي تصمم على التمسك بالسلاح خارج سلطة الدولة. يرى الثني أن دعم المجتمع الدولي للبرلمان والحكومة، ليس انحيازا لطرف ضد آخر، بل هو انحياز للشرعية التي تمثل الشعب الليبي وفقا للاستحقاقات الانتخابية الأخيرة. هو يعتقد أنه من السهل بسط الاستقرار في البلاد في حال تدخل العالم وأجبر بعض الدول المعروفة بالمنطقة بالتوقف عن دعم الجماعات المتطرفة.
يقول صراحة وفي لغة لا تخلو من العتاب للمجتمع الدولي إن العالم صنف تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا والجماعات الموالية لها كتنظيمات إرهابية، مشيرا إلى أن العالم يقود تحالفا دوليا للقضاء على مثل هذه الجماعات في العراق وسوريا.. «أما في ليبيا فإنها تقاتل وحدها هؤلاء المتطرفين دون دعم».
وبعد واقعة ذبح داعش ليبيا لنحو 20 مصريا قبل أسبوع، يدق الثني ناقوس الخطر قائلا إن بلاده الواقعة أمام أوروبا على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، تخشى من تمدد وتسرب المتطرفين من العراق وسوريا إلى الأراضي الليبية بسبب الضربات التي تتعرض لها على يد القوات الدولية هناك.
المشاكل الرئيسية التي تواجه الثني تكمن في معاقل المتطرفين في درنة وبنغازي وطرابلس ومصراتة. وأثرت المواجهات العسكرية على المداخيل المالية للبلاد التي تعتمد أغلبها على تصدير النفط. لكن ابن غدامس، في الوقت نفسه، يبدو واثقا وهو يتحدث عن مستقبل بلاده.. ففي بنغازي أدت مؤازرة الجيش من جانب شباب المناطق أو ما يعرف بالصحوات، إلى تغيير الدفة لصالح سلطان الدولة. وفي درنة أدت الضربات المصرية الليبية المشتركة لقواعد تنظيم داعش إلى إخافة باقي ميليشيات المتشددين. وبالقرب من طرابلس أمكن إعادة العمل لاثنتين من القواعد المهمة للجيش..
يؤمن الثني بأن عودة حكومته لإدارة أعمالها من العاصمة والقضاء على التطرف وإنعاش الاقتصاد، مسألة وقت، حتى لو لم يتدخل المجتمع الدولي لمساندة السلطة المعترف بها.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.