العقوبات الأميركية.. مفترق الطرق

فرضت على السودان وإيران وسوريا وكوبا وكوريا الشمالية ولم تحقق المطلوب

العقوبات الأميركية.. مفترق الطرق
TT

العقوبات الأميركية.. مفترق الطرق

العقوبات الأميركية.. مفترق الطرق

في الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية استثناءات في العقوبات المفروضة على السودان (منذ عام 1996). وفي الشهر الماضي، أعلنت استثناءات في العقوبات المفروضة على كوبا (منذ عام 1963)، وذلك مع مبادرة الرئيس باراك أوباما بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا. وقبل ذلك، أعلنت استثناءات في العقوبات المفروضة على إيران (منذ عام 1980). هذه الاستثناءات أثارت جدلا كبيرا في الأوساط السياسية أميركيا وعالميا، وطرحت تساؤلات عن جدواها.. هل هي خطوة نحو إلغائها؟ هل الاستثناءات التي حدثت مؤخرا دليل فشل أم دليل نجاح؟ ما تأثير العقوبات على الدول التي طالتها، وما أثرها على الاقتصاد الأميركي. جملة تساؤلات عن جدواها سياسيا، ومدى فاعليتها.. معظم هذه الأسئلة ظلت بلا إجابات محددة بين مؤيد ومعارض.. لكن حقيقة واحدة تؤكد أن الولايات المتحدة تتجه الآن في اتجاه خلق بيئة مغايرة وخريطة سياسية واقتصادية جديدة تبدو فيها سياسة العقوبات أسلوب تخطاه الزمن.

تظل العقوبات الأميركية على كوبا هي الأطول، والأقل إنسانية. يسميها الكوبيون «بلوكيو» بالإسبانية «بلوكيد»، محاصرة بالإنجليزية. وهي شاملة: سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية. فرضت أول مرة في عام 1960، بعد عامين من الإطاحة بنظام باتيستات (صديق أميركا، وشركات الموز والتبغ) مع الثورة التي قادها فيدل كاسترو. في البداية، كانت عقوبات «إنسانية» (تسمح بالطعام، والأدوية). لكن، عندما أمم كاسترو شركات النفط الأميركية، توقف كل شيء. ثم عندما تحول كاسترو من الثورية إلى الشيوعية، قل، أو نفذ، آخر عطف عليه وسط الأميركيين.
تنفذ العقوبات على كوبا اعتمادا على خمسة قوانين: قانون التجارة مع العدو (عام 1917، منذ الحرب العالمية الأولى)، وقانون المساعدات الخارجية، وقانون تنظيم الودائع والمستندات، وقانون الديمقراطية الكوبية، وقانون هيلمز - بيرتون (معاقبة أي طرف ثالث، مثل البنوك والشركات الأوروبية.
وكما هو متوقع، تشدد الرؤساء الجمهوريون في العقوبات، ريغان، بوش الأب، بوش الابن، وأعلن بوش الأب قانون الديمقراطية الذي ينص على مواصلة العقوبات ما دامت حكومة كوبا ترفض السير على طريق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. لكنّ رئيسين ديمقراطيين هما كلينتون، وأوباما، تساهلا كثيرا.
في عام 2000، تساهل كلينتون، وأعلن قانون «مقاطعة إنسانية»، يسمح بإرسال المواد الغذائية والأدوية. وقبل شهرين، تساهل أوباما كثيرا جدا، وأعلن إعادة العلاقات الدبلوماسية، ودراسة إمكانية رفع تدريجي لكل العقوبات. عن هذا قالت نيرا تاندوم، الخبيرة في مركز «أميركان بروغريس» (المركز الرئيسي للفكر الليبرالي التقدمي)، لـ«الشرق الأوسط»: «يستحق الرئيس أوباما الثناء لوضع مصالحنا الوطنية فوق الحجج السياسية العقيمة التي تعبنا منها. بعد أكثر من 50 عاما من العبث، صار واضحا أن سياستنا نحو كوبا فشلت في تعزيز الديمقراطية هناك. لهذا، صار ضروريا وضع سياسة جديدة». وشرحت أن هذه السياسة يجب أن تقوم على عمودين: أولا: العلاقات الدبلوماسية، والتي يمكن أن تستمر بين دولتين تعاديان بعضهما البعض (مثلما كان الحال بين أميركا وروسيا خلال سنوات الحرب الباردة). ثانيا: تشجيع المجتمع المدني في كوبا للدفاع عن حقوق الإنسان لشعب كوبا (وأيضا، تشجيع منظمات حقوق الإنسان العالمية لتفعل نفس الشيء).
وأضافت: «ها نحن نشاهد عودة الآن غروس (جاسوس أميركي كان معتقلا في كوبا) إلى عائلته وأصدقائه. وها نحن نشاهد إطلاق سراح أكثر من 50 سجينا سياسيا في كوبا، وعودتهم إلى عوائلهم وأصدقائهم. ها نحن نشاهد تطورات إيجابية خلال أسابيع قليلة ربما أكثر من كل التطورات الإيجابية خلال خمسين عاما».
وحسب تقرير أصدره مركز «بروغريس»، صار واضحا أن عقوبات خمسين عاما كانت بدعم، ودفع، وضغط، من جالية كوبية صغيرة، لكنها قوية (لأنها تعتمد على رجال أعمال هربوا من كوبا إلى ولاية فلوريدا الأميركية). وفي وقت من الأوقات، نافس اللوبي الكوبي اللوبي الإسرائيلي في تأثيره على أعضاء الكونغرس. وصار واضحا أن النقاش داخل الولايات المتحدة حول العقوبات على كوبا لم يكن عما إذا هي إنسانية أو غير إنسانية (كانت غير إنسانية لقرابة أربعين عاما). بل حول جدواها.

* عقاب السودان
في عام 1993، أعلن الرئيس بيل كلينتون وضع اسم السودان في قائمة الإرهاب، بسبب دعم النظام العسكري الإسلامي (بقيادة الرئيس عمر البشير) للإرهاب والإرهابيين. وفي نفس العام، أغلقت السفارة الأميركية في الخرطوم. وفي عام 1997، فرضت الولايات المتحدة عقوبات شاملة (اقتصادية، وتجارية، ومالية، وثقافية). وفي عام 1998، في أعقاب تفجيرات السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، شنت الولايات المتحدة ضربات صواريخ «كروز» ضد منشآت في الخرطوم، واستدعت السفير تيم كارني، وفرضت عقوبات إضافية.
بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، دخلت الولايات المتحدة والسودان في حوار حول مكافحة الإرهاب، ووفرت حكومة السودان معلومات كشفت عن نشاطات إرهابية. لكن، لم ترفع الولايات المتحدة عقوبات الماضي. بل، في عام 2007، فرض الرئيس السابق جورج دبليو بوش عقوبات اقتصادية جديدة بسبب سياسات حكومة البشير في دارفور، وعرقلة عملية السلام مع جنوب السودان.
رغم ذلك، ظلت السياسات السودانية كما هي لم يتغير شيء.. لم تتوقف الحرب.. لم يهنأ أهل دارفور بالسلام، واستمرت السياسات الإقصائية، في السودان. ورغم ذلك ظلت الولايات المتحدة المانح الرئيسي للمساعدات الإنسانية إلى السودان منذ ثمانينات القرن الماضي. في عام 1989، أرسلت مساعدات «شريان الحياة». في عام 1991، أرسلت مساعدات إضافية للتخفيف من حدة نقص الغذاء الناجم عن الجفاف. في عام 2001، أرسلت مساعدات مباشرة إلى جنوب السودان. ثم إلى سكان دارفور، هناك وفي تشاد ودول مجاورة.
هذا بالإضافة إلى المساعدات العسكرية لحفظ السلام في دارفور. ومساعدات تنفيذ اتفاقية السلام، والإعمار والتنمية في جنوب السودان، لهذا، تختلف العقوبات الأميركية على السودان عن عقوبات كوبا وإيران، مثلا. وذلك بسبب تعقيدات العلاقات الأميركية مع السودان، خاصة دور أميركا في تقسيم السودان.
وقبل أسبوعين، أعلن دونالد بوث، مبعوث الرئيس باراك أوباما للسودان، رفع المقاطعة عن الهواتف الذكية، وأجهزة الكومبيوتر الجوالة، وغيرها من أجهزة الاتصالات والبرمجيات. أعلن هذا رغم أن مسؤولين أميركيين يواصلون إدانة سياسة الرئيس عمر البشير في دارفور. وكانت آخر إدانة بسبب عرقلة التحقيقات الدولية في تقارير بأن جنودا سودانيين مارسوا، في العام الماضي، سلسلة من الاغتصابات الجماعية على النساء في دارفور هناك.
يقول مسؤول في قسم العقوبات والمقاطعات في وزارة الخزانة لـ«الشرق الأوسط»: «تظل العقوبات الاقتصادية طويلة الأمد على السودان مستمرة. هذه هي العقوبات التي تدين السودان كدولة راعية للإرهاب، وتدين حكومة البشير لأنها تظل تشن هجمات على المدنيين، وتظل تتدخل في المساعدات الإنسانية إلى دارفور، وتظل تعرقل المساعدات الإنسانية لإقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق». هذان هما الإقليمان اللذان تستمر فيهما حرب أهلية بين قوات الحكومة وثوار معارضين.
وقال مسؤول في مكتب المبعوث الأميركي لـ«الشرق الأوسط»: «إن فتح تصدير تكنولوجيا الاتصالات الشخصية إلى السودان سيفيد الشعب السوداني.. وسيشجع حرية التعبير، وسيساعد السودانيين للتواصل مع بعضهم البعض، وللوصول إلى الإنترنت، وللاتصال مع بقية العالم». هل هو تراجع لنجاح أهداف العقوبات أم لفشلها؟ سؤال يسهل الإجابة عنه.

* عقاب إيران
في العام الماضي، نشرت مجلة «تايم» الأميركية تقريرا عن العقوبات الأميركية على إيران، جاء فيه أنها لم تدمر إيران كما يقول الإيرانيون: أولا: مع قسوة العقوبات، توجد فيها استثناءات واسعة للسلع والخدمات الإنسانية. مثلا: تسمح ببيع السلع الزراعية، والأغذية، والأدوية، والأجهزة الطبية. ثانيا: تقيد حكومة إيران توفير العقاقير والأدوية، وكانت وزيرة الصحة السابقة، مرضية دستجردي، فضحت هذه الممارسات الفاسدة. وكشفت عن أن البنك المركزي الإيراني، في عام 2102، استخدم فقط 600 مليون دولار للأدوية والمعدات الطبية من جملة 2.5 مليار دولار خصصت في الميزانية السنوية. ثالثا: تبالغ حكومة إيران في تصوير تأثير العقوبات على خدمات الإنترنت الإيرانية. الحقيقة هي أن حكومة إيران تحجب ملايين المواقع، بما في ذلك أكثر من 50 في المائة من أشهر المواقع في العالم. وأيضا، تستعمل أجهزة إلكترونية لتكون سرعة الإنترنت بطيئة. وأيضا، تشوش إشارات الأقمار الفضائية لمنع بث الإذاعات والتلفزيونات الأجنبية. رابعا: تقول حكومة إيران إن العقوبات تحرم الطلاب الإيرانيين من الدراسة في الجامعات الغربية. لكن، الحقيقة هي أن الاتحاد الأوروبي لا يسمح فقط، بل يشجع، ذلك. بل يوفر منحا خاصة للطلاب الإيرانيين. وتسمح العقوبات الأميركية بإعفاءات لتسهيل بعثات الطلاب الإيرانيين. وصار هؤلاء يغادرون إيران بنسب متزايدة للدراسة في الولايات المتحدة.

* مؤيدو العقوبات
وسط النقاش الأميركي حول العقوبات، توجد منظمات وجماعات وخبراء يؤيدون العقوبات، على شرط أن تكون «إنسانية». من بين هذه منظمة «يونايتد إغيسنت نيوكليار إيران» (متحدون ضد إيران نووية) في واشنطن. ويرمز إليها بـ«ياني»، وهي أكبر منظمات اللوبي الأميركية المعارضة لإيران. وقالت جولي شين، خبيرة في المنظمة، لـ«الشرق الأوسط»: «تظل العقوبات الدولية المستهدفة، بالإضافة إلى الإعفاءات الإنسانية المسؤولة، تشكل ضغطا قويا على النظام الإيراني. لكن، إذا توقفت هذه العقوبات، وإذا توقفت احتمالات عقوبات إضافية، لن يكون هناك حافز أمام النظام الإيراني للتخلي عن برنامجه النووي». وأضافت: «الحقيقة المزعجة ليست عدم إنسانية العقوبات. الحقيقة المزعجة هي أن النظام الإيراني يستشري فيه الفساد، وسوء الإدارة، والقمع. وهو الذي يدمر الاقتصاد الإيراني، ويقيد الحريات. لهذا، فرض عقوبات على إيران، عقوبات محددة ومستهدفة ومتعددة الأطراف، هي سياسة غير عنيفة. وتظل تؤذي النظام».
هذا هو التفسير الذي تسير عليه الحكومة الأميركية. وهو يعكس أهمية منظمة «ياني» في واشنطن. وليس هذا غريبا، لأن المنظمة فيها خليط من سياسيين ودبلوماسيين يهود وغير يهود. وكان أسسها، قبل عشر سنوات تقريبا، ريتشارد هولبروك، مساعد سابق لوزير الخارجية، وفؤاد عجمي، أستاذ سابق في جامعة جونز هوبكنز (توفي الاثنان مؤخرا). ومؤخرا، قال وزير الخارجية جون كيري: «ليس التواصل مع إيران استراتيجية كافية. إذا لم تنجح الدبلوماسية، يجب أن تكون مدعومة بتهديدات احتمالات صعبة. بتصعيد العقوبات متعددة الأطراف. بالضغط على إيران قويا لتغير سلوكها».

* مبدأ العقاب
بينما يقول أميركيون، إن مبادئ الحرية والعدل الأميركية (ناهيك بالمصالح السياسية، والعسكرية، والاقتصادية) يمكن أن تخدم بالعقوبات «الإنسانية»، يجادل آخرون في العقاب كمبدأ، ويقولون إن أي عقاب لأي دولة هو «غير إنساني». كتب عن «الإنسانيين»، د. هنري هامبيغررا، أستاذ في جامعة كاليفورنيا، وعضو في منظمات «إنسانية» دولية منها منظمة «إنترناشونال بروغرس» (منظمة التقدم العالمية)، ويرمز إليها بـ«إي بي أو»، ورئاستها في فيينا. ومنظمة «حوار بين الحضارات»، ورئاستها في فيينا أيضا. و«رودس فورم» (ملتقي جزيرة رودس).
تحدث هامبيغررا عن مبدأ العقوبات. وقال إن منظمة «إي بي أو»، مثلا، تعارض كل أنواع العقوبات. بداية بعقاب كوبا، ثم إيران، ثم العراق. من قبل هجمات 11 سبتمبر،، عام 2001. ومن قبل الحروب ضد الإرهاب. وقال: «يوجد تناقض أساسي بين حقوق الشعوب وعقاب الشعوب. يعاقب شعب، متمثلا في نظام القضاء فيه، شخصا إذا ارتكب جريمة، حسب قانون معترف به دوليا. لكن، كيف يعاقب شعب شعبا آخر؟ عبر التاريخ، لا يوجد قانون دولي عن معاقبة شعوب لشعوب، ناهيك بهذا القرن الحادي والعشرين».
وقال إن العقوبات الاقتصادية، خاصة عقوبات اقتصادية شاملة، هي شكل من أشكال العقاب الجماعي التي تناقض تماما المبادئ الأساسية للعدالة وحقوق الإنسان، والحق في الحياة، والحق في التغذية الكافية، والحق في الرعاية الصحية. هذه حقوق غير قابلة للتصرف.
وقال: «يحث هذا بقرار من مجموعة من الدول تسيطر على مجلس الأمن، من أجل الحصول على تغيير في السلوك السياسي لدولة أخرى». وأضاف أن في هذا تناقضا تاما مع اتفاقية جنيف عام 1949. وأنه، من المفارقات أن مجلس الأمن يفعل ذلك، بينما لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة تدين مبدأ عقاب الشعوب.
عن هذا، قالت جولي شين، خبيرة مركز «ياني» في واشنطن، المؤيد للعقوبات ضد إيران: «تقدر العقوبات الدولية المحددة، والتي تتضمن إعفاءات إنسانية مسؤولة، على أن تكون أداة فعالة للضغط على الدول التي تخالف القوانين الدولية».

* قائمة العقوبات الأميركية
* دول: كوبا (1962): عقوبات شاملة، لها صلة بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي.
إيران (1979): بدأت مع الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني، واحتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران.
كوريا الشمالية (1950): بدأت مع بداية حرب كوريا بين روسيا والصين في جانب، والدول الغربية والأمم المتحدة في الجانب الآخر. والآن، بسبب برنامج كوريا الشمالية للأسلحة النووية والصواريخ عابرة القارات.
السودان (1993): مع وضع السودان في قائمة الإرهاب. ثم (2002) بسبب سياسة حكومة السودان في دارفور.
سوريا (1986): بدأت بسبب مقاومة سوريا لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وإيواء الفدائيين الفلسطينيين. ثم (2011) مع بداية الثورة ضد نظام الرئيس بشار الأسد.
* شخصيات: من روسيا البيضاء: عرقلة التطور الديمقراطي، بداية بالرئيس ألكسندر لوكاشنكو.
من ساحل العاج: تمرد بدأ بعزل رئيس الوزراء الحسن وتارا، بقرار رئيس الجمهورية غباغبو، في صراع شبه ديني.
من الكونغو: عرقلة التطور الديمقراطي. الكونغو رقم 186 من 187 في قائمة خروقات حقوق الإنسان.
من العراق: قادة نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وفي الوقت الحاضر، شخصيات تقاوم الديمقراطية أو ارتكبت أعمال عنف.
من لبنان: شخصيات متورطة في قتل رئيس الوزراء رفيق الحريري، وهجمات «حزب الله» ضد إسرائيل، ثم تحالف «حزب الله» مع نظام الأسد في سوريا.
من السودان: شخصيات في نظام الرئيس البشير، وهو نفسه، لانتهاكات حقوق الإنسان في دارفور.
من جنوب السودان: بعد استقلال جنوب السودان، وبداية الحرب الأهلية هناك. بتهم القتل، أو تشجيع القتل، أو عرقلة العملية الديمقراطية.
من أوكرانيا: بعد بداية الحرب الأهلية هناك قبل عام، خاصة المؤيدين لروسيا.
من روسيا: بعد غزو واحتلال شبه جزيرة القرم، خاصة النخبة التي تحيط بالرئيس بوتين.
من اليمن: بدأت بالرئيس السابق على عبد الله صالح. ومؤخرا عبد الخالق الحوثي وآخرين.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟