في حوار أجراه الزميل فتح الرحمن يوسف مع الدكتور راشد المبارك، بتاريخ 10 ديسمبر (كانون الأول) 2009، سألته «الشرق الأوسط» عن اتهامه الموروث الأدبي العربي بأنه لا يهتم بالفكر، فأجاب: «من طبع الناس في الماضي والحاضر أن يجفلوا مما يشير إلى نقص ينسب إليهم أو خطأ يؤاخذون عليه، وما قلته عن بعض جوانب التراث ليس اتهاما لكنه إشارة إلى ظاهرة شديدة الوضوح، الغريب فيها أنه لم يلتفت إليها أو يتحدث عنها أحد، في ما أعرف. هذه الظاهرة هي أن حظ الفكر، من حيث هو نشاط عقلي، لم يجد من الاهتمام به والتوجه إليه ما ينبغي أن يعطى له، والشواهد على ذلك يتعذر إحصاؤها، وأحسب أنه يكفي أن أذكر من ذلك التالي:
1) أنه لم ترد في الموروث الجاهلي، شعره ونثره، في ما عرفت، مفردة (فكر) بالمعنى والمفهوم الذي أشرت إليه.
2) أنه مع ما ورد في القرآن في مواضع كثيرة من دعوة إلى التفكر والتأمل وجعله من صفات المؤمنين (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً)، فإن (التفكير)، ومن ثم (الفكر)، لم يكن محورا من المحاور التي دار حولها الموروث من ماضينا، ولم يتغير الحال في حاضرنا تغيرا كبيرا، لقد أطلق على الأعلام كثيرا من الصفات مثل: الفقيه، والمحدث، والطبيب، والشاعر، والأديب، والحافظ، ولم يحدث أن أطلقت صفة (المفكر) على واحد من هؤلاء الأعلام.
3) أنه أُلفت كتب كثيرة عرفت باسم (كتب الطبقات)، مثل طبقات الفقهاء، وطبقات المحدثين، وطبقات الأطباء، وطبقات الشعراء، بل لقد أُلف عن ذوي العاهات، ولم يعرف أنه وُضع مؤلَّف واحد عن طبقات المفكرين.
4) أن من اشتغلوا ببعض جوانب الفكر مثل الفلسفة أو العلم الطبيعي لم يكونوا موضع الاحتفاء والتقدير من أغلب أفراد مجتمعاتهم، فجابر بن حيان، وهو من هو في مكانته، مات في سجن العباسيين، والكندي مات معتزلا للناس، وابن الهيثم كان يكسب قوته من نسخ الكتب، ولم يكن حال أبو بكر بن الطفيل وأبو الوليد بن رشد يختلف عن ذلك كثيرا، أما نهاية لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله - فقد كانت مأساة».
وفي سؤال آخر عن قوله إن العرب السابقين اشتغلوا بـ«صناعة الكلام»، كما في كتابيه «قراءة في دفاتر مهجورة» و«أوراق من دفاتر لم تقرأ»، أجاب: «ما جاء في الكتابين المذكورين لا يعدو كونه إشارة إلى واقع، فقد كان الانشغال بأمثال (قفا نبك) وأخواتها أكبر ما ينصرف إليه الناس ويشتغلون به، وكان مما اكتشفه نقادُنا الأقدمون تلك المعجزة البلاغية في قول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ)، فقد وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والأطلال في نصف بيت. لقد اكتشف - في نظرهم - قانونا من قوانين الكون الكبرى، وبقينا قرونا نردد هذا القول وأمثاله، وغاب عمن قاله والمرددين له أنه لو شرعت عصابة في محاولة السطو على مصرف مالي، ولمح أحد أفراد العصابة أفراد شرطة قادمين إليهم، وقال لعصابته (الشرطة.. الحقوا بي)، فإن هذا اللص قد كشف مصدر الخطر وعرّفه وعرّفَ به ونبه إليه ودلهم على طريق النجاة في كلمتين فقط، فعلى مقياس نقادنا ينبغي أن يوضع هذا اللص على رأس قائمة البلغاء، ومن المعلوم أن أكثر ما تزدحم به المكتبة العربية هو الكتب المتعلقة بصناعة الكلام، ولعل أضخم مؤلف عرف، أو من أضخم المؤلفات، كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا)، وأما أن ذلك قد صرف الناس عما هو أهم فيكفي أن نعرف أنه كانت لقلة من النابهين في تاريخنا بدايات لو وجدت بذورها التربة الصالحة لكنا قادة العالم في ما تفوق فيه وبه الآخرون وهو البحث العلمي، وما أعطاه من تقانة ملأت الدنيا وشغلت الناس، وقد أعطى هذا التفوق أصحابه ما هم عليه من قدرة وسيطرة وغنى. لقد حضّر جابر بن حيان حامض الكبريت وعرف قانون النسب المتضاعفة، وكانت أبحاث ابن الهيثم في الضوء والإبصار من الفتوح العلمية التي استفاد منها الآخرون، ومثل ذلك اكتشاف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى، ولكن هذه البذرات لم تجد التربة الملائمة فتوقفت عن أن تكون شجرة ذات ثمر وأغصان، وابن خلدون الذي يُعد من العقول الكبيرة في تاريخنا يقول في مقدمته عن جابر ابن حيان: (وكبيرهم الذي علمهم السحر)».
اشتغل العرب بـ«صناعة الكلام» و«قفا نبك» عن الفكر والبحث العلمي
راشد المبارك في حوار سابق مع : {الشرق الأوسط}
اشتغل العرب بـ«صناعة الكلام» و«قفا نبك» عن الفكر والبحث العلمي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة