شهرزادات مزيفات

«الراويات» لمها حسن دخلت القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

شهرزادات مزيفات

غلاف الرواية
غلاف الرواية

في عملها الأخير «الراويات» (2014، دار التنوير)، الذي وصل هذا العام إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، تسبر السورية مها حسن أغوار السرد وعوالمه الخفية، بشقيه الكتابي والشفاهي. ويدور العمل حول مجموعة من الشخصيات، التي ليست بالضرورة مترابطة، ونسائية في أغلبها، يشغلها هم الروي، وتتملكها رغبة ملحّة بالتعبير عن المخيلة.
ابتداء من الإهداء.. «إلى النساء الحكواتيات في بقاع الأرض، اللاتي لم تساعدهن الحياة، على نشر رواياتهن على الملأ، فعشن ومتن في الظلمة»، وانتهاء بآخر جملة في العمل «عبر الكتابة، تحررت أعماقي، وخرجت إلى الضوء» (ص 190)، تحضر نبرة احتفالية، تكاد تكون ساذجة، حول أهمية الروي ودوره في خلق عوالم «يُكتب لها الخلود» (ص 8).
فالراوية الأولى تعيش كما تقول حياتَيْن، واحدة سطحية «نمطية» في عالم الواقع، وأخرى «غنية كثيفة» (ص 7)، تدور حول الكتابة وما يتخللها من شد وجذب مع شياطين السرد. «خُلقتُ لأروي» تقول الراوية، مستعيرة عبارة ماركيز بتصرّف، كتعبير عن مدى تعلّقها بهذا الفن. فهي «ليس لديها إلا متعة وتسلية الروي، لتمضية الحياة، وتمريرها بسلام، حتى النهاية» (ص 38). حتى عندما يسطو أحدهم على روايتها الأولى ويقوم بنشرها باسمه، لا تكترث أبدون، «وما الضرر، المهم أن شخوصي يملكون فرصة للخروج إلى العالم.. المهم أن تخرج الحكايات ليقرأ العالم.. المهم هو الرواية، لا الروائي» (ص 78، 79).
راما، آخر الراويات، تعيش في عالم موازٍ خاص بها، مليء بشخصيات وهمية لا وجود لها، لذلك حاولت أمها، التي خشيت عليها من الجنون، «زجر» مخيلتها بإرهاقها بشتى التمارين الجسدية وهي طفلة. فالطفلة التي وُلدت في الهند، ورثت عن جدتها «سحر القدرة على الحكي» (ص 181) وعلى عكس أقرانها الصغار، الذين يجدون في الاستماع إلى حكايات الجدات ممرا إلى النوم، راما تنتظر نهاية الحكاية لتفككها وتعيد بناءها بتفاصيل جديدة. عندما كبرت وصلت علاقتها مع زوجها إلى جدار مسدود، ذلك بعد أن اعترفت له بأن «اللحظات التي أشعر بها بنشوة تشبه الأورغازم، تتحقق فقط حين أروي» (ص 188).
هناك نقاط تشابه كثيرة لا يمكن تجاهلها بين الراويتين، أحدها هي الوصول إلى المتعة الجنسية عبر الروي. تقول أبدون: «ثمة طاقة جنسية تتولد بداخلي أثناء الكتابة» (ص 42).
لكن يخطئ من يظن أن هذا كل ما تنطوي عليه «الراويات»، أو أن شخصيات العمل النسائية هنّ «شهرزادات» يسرن على خطى معلمتهن الأولى التي استطاعت بعد «ألف ليلة وليلة» من الروي أن تنتصر على ذكورية الملك شهريار. «الراويات» لمها حسن أعمق من مجرد صرخة مدوية في وجه الثقافة الذكورية، أو مانيفيستو حماسي يدعو إلى ثورة نسوية. فأسفل السطح الاحتفالي «الثوري» الصقيل للعمل، هناك شبكة سردية معقدة من الحفر والمطبات تهدد بالانهيار.
تنطوي كل قصص الشخصيات على انقلاب مفاجئ في الحبكة، يناقض توقعات الراوية، كما يثير التساؤلات حول مصداقيتها ومدى إلمامها، أي الراوية، بالواقع الذي ترويه. فبينما ترى أبدون، على سبيل المثال، في ساباتو رجل الأحلام الذي قدم لها كل ما بوسعه لتكتب روايتها الأولى، يتبين للقارئ في نهاية قصتهما أنه استخدمها لتحقيق غايات نفعية بحتة.
كذلك الأمر بالنسبة لراما، التي بعد أن تعتقد أنها وجدت في الموسيقي الحالم أرافيند حيّزا لتتحرر روحها السجينة، تتلقى صفعة مدوّية لدى إدراكها، ولكن بعد فوات الأوان، أنه مجرد «أبله فاقد للمخيلة» (ص 189).
يقول الناقد والأكاديمي الأميركي جوناثان كولر: «روي القصص ينطوي على ادعاء سلطة معينة يقرّها المستمع». وكذلك هي علاقتنا كقراء مع راويات مها حسن الست، إذ أمام نبرة الشخصيات الاحتفالية حول دور السرد في تحطيم الثقافة الذكورية، لا نجد خيارا سوى أن نصدّق بظاهر ما يقلن، وبالتالي أن نعترف بسلطتهنّ على اعتبار أنهنّ الطرف المسيطر في عملية الحكي.
لكن وبعد الخذلانات، أو الصفعات، المتكررة للشخصيات/ الراويات، لا بد أن تساورنا الشكوك فيما إذا كنّ فعلا أهلاً للثقة التي منحناهن إياها في بداية العمل. لذلك يمكننا القول، إن الانعطافات المفاجئة داخل البنية الدرامية للعمل تحمل تساؤلات مبطنة حول مصداقية السرد، وفيما إذا كان الطرف السارد فعلا يستحق السلطة التي يمنحه إياها المستمع. بعكس «ألف ليلة وليلة» الذي يتمحور حول تمكّن شهرزاد من فن الروي، يسلّط عمل مها حسن الضوء على إخفاق الراويات في التحكم بخيوط السرد. فالعمل يدعي الشيء ويفعل نقيضه، إذ إن النبرة الحماسية للشخصيات توحي بثقتهنّ تجاه ما يروين، لكن الانقلاب الدرامي في النهاية يحيل الثقة إلى خذلان. راويات مها حسن يقدمن صورة مزيفة عن شهرزاد.
في أحد أكثر المشاهد ابتعادا عن أجواء العمل، تقوم أليس، المختصة في «دراسة الفلسفة وعلاقتها بالفن» (ص 156)، بزيارة القاهرة، بعد أن «مسّتها روح الفراعنة» (ص 158) القسم يطفح بإشارات حول نجاح تجربة الربيع العربي في مصر. تقول أليس، إنها «تثق بالمصريين، من أسقط مبارك، قادر على إسقاط الإخوان ولن يقبل ديكتاتورية جديدة» (ص 159، 160).
هذه وغيرها من العبارات، التي تبدو لنا الآن إما تهكمية أو ساذجة، يتم تمريرها بغاية الجديّة على لسان الراوية أليس، على الرغم من انقلاب الربيع العربي إلى خراب. حتى الآن، وبناء على ما كُتب عن «الراويات»، هناك نوع من الإجماع على عدم ضرورة هذا القسم، إذ إن الاعتقاد السائد يقول بإقحامه على بقية نص مها حسن. لكن في الواقع القسم بالغ الأهمية، إذ إنه يظهر بجلاء التباين بين الواقع والروي. فأليس، تقدّم للقارئ «روايتها» عن الربيع العربي، التي تتباين مع الواقع إلى حد كبير.
جميعنا شاهد عبر شاشات التلفزيون، وقرأ في الصحف والمجلات المختلفة عن الأحداث في مصر. بمعنى أن ما نعرفه عن الربيع المصري لا يرتقي إلى أكثر من «روايات» تعبر عن وجهة نظر أصحابها. الإنسان محاط بـ«الراويات» في كل مكان، في الصحف والكتب والتلفزيون و«يوتيوب»، ناهيك بوسائل التواصل الاجتماعي التي هي في نهاية الأمر منصة لأصوات/ روايات متعددة. لكن ترى هل كلها تعكس الواقع؟ «الروايات» لمها حسن تجيب بالنفي.
القارئ أيضا ينال نصيبه من الصفعات. فالبناء السردي لـ«الراويات» مربك في تشعبه، إذ يحتوي على أربع روايات في آن معا، «جلد الحية»، و«حور العين»، و«مقهى شهرزاد»، وأيضا «الحياة المزيّفة» لأبدون، جميعها تتداخل فيما يشبه دمية «الماتريوشكا» الروسية. كما أن تعدد وتداخل الأصوات الروائية يجعل القارئ لا يكفّ عن تكرار هذين السؤالين في رأسه: «من المتكلم؟» و«عماذا يتكلم؟»، يضاف إلى ذلك «تلذّذ» مها حسن، على ما يبدو، في ممارسة لعبة الأسماء الفضفاضة مع شخصياتها. فأبدون هي نفسها ميريام التي هي نفسها مها، وساباتو هو نفسه إرنستو، وكذلك فرانكو. أما ديبة فقد تصبح ظبية أو لويز، لا فرق، إذ «ليس لأسمائنا أهمية.. نحن كائنات افتراضية» (ص 38) كذلك الأمر بالنسبة للفضاء المكاني للعمل، فالمكان هو «تلك المدينة الكبيرة، التي تشبه القاهرة، أو نيويورك، أو طوكيو، أو باريس، أو لندن، أو بيروت» (ص 82).
«الراويات» لمها حسن عمل صِيْغَ بحرفية عالية من ناحية التكنيك والبناء، كما أن الاضطراب الظاهري للشكل يمنحه «لا نهائية» وغموض تلك الأعمال العظيمة مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«عوليس» لجيمس جويس، التي لم تقدم إجابات بقدر ما أثارت تساؤلات.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!