رحيل صاحب «الإبداع» و«حديث الحداثة»

الكاتب والمفكر السعودي عابد خزندار توفي في باريس ويشيع اليوم في جدة

عابد خزندار
عابد خزندار
TT

رحيل صاحب «الإبداع» و«حديث الحداثة»

عابد خزندار
عابد خزندار

فقدت الساحة الثقافية والأدبية السعودية، أمس، الكاتب والناقد والمفكر المعروف عابد خزندار، الذي وافته المنية في العاصمة الفرنسية باريس، التي انتقل للإقامة فيها بجوار ابنتيه، منى مديرة معهد العالم العربي السابقة في باريس، وسارة أستاذة التراث المعماري في جامعة السوربون، وذلك بعد وفاة زوجته في أغسطس (آب) 2012. ومن المقرر أن يوارى الثرى غدا الخميس.
وعرفت الأوساط الثقافية والأكاديمية السعودية عابد خزندار كواحد من ألمع الكتاب الذين أثروا الحياة الثقافية والفكرية، وسجل حضورا باهرا في المشهد الثقافي المحلي عبر مقالاته وكتبه، ومنها كتبه: «الإبداع»، و«حديث الحداثة»، و«قراءة في كتاب الحب»، و«رواية ما بعد الحداثة»، و«أنثوية شهرزاد»، و«معنى المعنى وحقيقة الحقيقة»، و«مستقبل الشعر موت الشعر»، و«المصطلح السردي»، و«معجم مصطلحات السميوطيقا»، وكتابه «التبيان في القران الكريم: دراسة أسلوبية»، الذي صدر عن مؤسسة اليمامة (2012). وأخيرا روايته «الربع الخالي» الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي في 2014.
وحظيت مؤلفاته وتجربته الفكرية بالعديد من الدراسات النقدية، أبرزها كتاب: «أنماط القراءة النقدية في المملكة العربية السعودية.. عابد خزندار نموذجا» للناقد أحمد العطوي. وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، خاصة الألمانية، وقد تم الاحتفاء به في معرض فرانكفورت للكتاب عام 2005. وكان مشواره في الكتابة الصحافية بدأ في «الشرق الأوسط» ثم «الرياض» خلال الفترة 1983 - 1985، ثم أصبح كاتب عمود يومي في جريدة «عكاظ»، وبعدها انتقل للكتابة في «الرياض» مجددا، ولديه زاوية في صحيفة «الرياض» تحمل عنوان «نثار». وتميزت كتاباته بالجرأة والنقد مما تسبب في إيقافه فترات عن الكتابة.
ولد عابد خزندار في حي القشاشية بمكة المكرمة، عام 1935، وفي المدينة المقدسة تلقى تعليمه، حيث درس المرحلة الابتدائية في مدرسة «الفلاح»، ثم التحق بمدرسة «الرحمانية» الحكومية وحصل منها على الشهادة الابتدائية، وحصل على الشهادة الثانوية من مدرسة تحضير البعثات بمكة في عام 1953، ثم التحق بكلية الزراعة جامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1957، وأتاحت له إقامته في القاهرة في الخمسينات الميلادية بناء علاقات وطيدة بالمفكرين المصريين ومن بينهم سلامة موسى وأحمد عبد المعطي حجازي، وقرأ هناك لطه حسين.
وفي عام 1961 تزوج من الراحلة شمس الحسيني، ثم غادر إلى الولايات المتحدة الأميركية لمواصلة دراسته في الكيمياء الحيوية وحصل على شهادة الماجستير من جامعة (ميريلاند) عام 1963. وبالمناسبة فإن زوجته الراحلة عملت هي الأخرى محررة صحافية في الصفحة النسائية بجريدة «اليمامة» عند استئناف صدورها في عهد المؤسسات الصحافية نهاية عام 1964، وذلك بدعوة من الشيخ حمد الجاسر.
بعدها انتقل للعيش في الرياض حيث عمل مديرا عاما في وزارة الزراعة إلى عام 1963.
وفي عام 1965 انتقل إلى فرنسا التي أقام فيها عدة سنوات، حيث درس الأدب الإنجليزي والفرنسي إبان إقامته في فرنسا والتي استمرت لمدة عشر سنوات متصلة. وربما أصبحت هذه الفترة من أكثر الأعوام ثراء في تجربته العلمية، حيث نهل من الثقافة الفرنسية والفرنكفونية، وأسهمت في إثراء تجربته النقدية، حيث قرأ لرواد هذه المدرسة أساليبهم في النقد الحديث، وانعكس تأثره بالمنهج الغربي والفرنسي تحديدا في كتاباته.
وفي كتابه «عابد خزندار: مفكرا.. ومبدعا.. وكاتبا»، وثق الكتاب والباحث محمد عبد الرزاق القشعمي سيرة الأديب الراحل عابد خزندار، وهو الكتاب الذي صدر عن دار الانتشار العربي في 2013، بمناسبة بلوغ عابد خزندار عامه الثمانين، ويقع في 334 صفحة، تضمنت تسعة فصول. ويسرد القشعمي شهادات من رفاق درب خزندار ومجايليه، وبينهم الأديب الراحل عبد الكريم الجهيمان، حيث نقل عنه قوله إنه عرف «جميع حركاته وسكناته وطريقته في الحياة، فرأيت ما أعجبني من رجولة ومكارم وأخلاق.. يضاف إلى علم غزير ومعرفة بلغتين أو ثلاث أو أكثر من اللغات الأجنبية الحية، علاوة على اللغة العربية..». في حين يصفه محمد العلي بـ«الهرم اللامرئي (...) الذي تمر عليه الأندية الأدبية المنتشرة في ساحاتنا الثقافية دون أن تراه».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!