من المفارقات الدالة أن تكون صحيفة «الوطن» الجزائرية، استنادا إلى مصادر عائلية، أول من يعلن عن وفاة الأديبة الكبيرة والمخرجة السينمائية الموهوبة آسيا جبار، التي اتخذت من فرنسا موطنا ثانيا ومستقرا، ومن لغتها لسانا، ومن أحد مستشفياتها مكانا لعلاجها حيث توفيت في الساعات الأولى من يوم أمس السبت. فالكاتبة والمخرجة والأكاديمية الفرنكفونية الجزائرية التي توفيت عن 79 عاما بعد أشهر من المعاناة مع المرض، بقيت تحمل بلدها في قلبها، وهمومه في وجدانها، وجعلت من أعمالها مكانا للتعبير عن كربها تجاه ما يعانيه مواطنوها، فهي روائية وقاصة وشاعرة ومسرحية وسينمائية في آن، جامعة في إبداعاتها بين العقلانية الغربية والروحانية الشرقية بشفافيتها وأخيلتها الأسطورية. وهي في كل ما كتبت وصورت بقيت صاحبة قضية إنسانية، مشغولة بتحرر الفرد، متأثرة بمبادئ الثورة الفرنسية، مصرة على انتشال المرأة الجزائرية من القهر والظلم اللذين تعيشهما. التحرر بمعناه العريض هو عنوان أساسي لدى آسيا جبار، تحرر من الاستعمار أو الديكتاتورية أو الظلم، أو العسف العائلي، لا فرق. وهي كما في الإبداع مخلصة أيضا للبحث الأكاديمي حول موروث منطقتها التي أتت منها، قادرة على توظيف معرفتها الأركيولوجية في أدبياتها وكتاباتها الروائية.
اسمها الحقيقي فاطمة الزهراء املحاين، ولدت في الثلاثين من يونيو (حزيران) عام 1936 بمدينة شرشال في تيبازة من عائلة بورجوازية، درست في البدء في مدينة موزايه بالبليدة، وسافرت بعد ذلك مع عائلتها إلى فرنسا والتحقت بدار المعلمين عام 1955 وشاركت في الإضرابات التي قام بها الطلبة الجزائريون ضد الاستعمار في بلادهم. كانت بالكاد قد تجاوزت العشرين من عمرها حين صدرت روايتها الأولى «العطش» عام 1957، تلتها بسنوات قليلة روايتها «القلقون»، وهما الروايتان اللتان ستتعرضان لنقد شديد، من قبل الثوريين الذين سيتهمونها بالروح البرجوازية. فالشابة الصغيرة، لا تكتب بالحدة المنتظرة منها، ولا تبدي روحا انتقامية أو ثأرية تفترض منها، وهو ما سيبقى من سمات أسلوبها، وأحد أسباب عدم الاهتمام بها وترجمتها في الجزائر كما حظي غيرها من الكتاب الجزائريين الفرنكفونيين.
مسار آسيا جبار المشغولة بقضاياها الوطنية على طريقتها المتزنة، والمسكونة بكتابتها عن النساء وقصصهن، مع شغف شديد بالتاريخ، ازدادت عمقا بدراستها للتاريخ المعاصر للمغرب على أيدي المستشرقين الكبيرين ماسينيون وجاك بيرك. ومع فجر الاستقلال الجزائري ستصدر لآسيا جبار من باريس هذه المرة روايتها الثالثة «أطفال العالم الجديد». وفي العام نفسه، أي 1962، ستبدأ عملها الأكاديمي في جامعة الجزائر، بدءا بتعليم التاريخ ومن ثم الأدب الفرنسي، وبعدها بسنوات مادة السينما، وستكون أول أستاذة جامعية امرأة في بلاها. كتبت «بعيدا عن المدينة»، «الجزائريات في شققهن»، «ليالي ستراسبوغ»، و«الحب والفانتازيا»، ليبقى هاجسها التاريخ، وإلهامها مستوحى من تلك البيئة الأولى التي خرجت منها.
خاضت غمار الإخراج السينمائي إذ أخرجت فيلم «نوبة نساء جبل شنوة» الذي نالت عليه تقدير لجنة تحكيم مهرجان البندقية عام 1979. فيلم ثان أخرجته هو «زوربا وغناء النسيان» عام 1982 حاز جائزة مهرجان برلين السينمائي كأفضل فيلم تاريخي.
استطاعت آسيا جبار، هذه الفتاة التي بدأت تعليمها في الكتّاب، بفضل تأثرها بوالدها ومحيطها العائلي البرجوازي، وكدّها المستمر، أن تصبح شخصية فرنكفونية ذات صيت عالمي، وأن تبلغ مراتب لعل أي كاتب جزائري لم يبلغها قبلها، فقد كانت الأولى في مراتب كثيرة. هي أول جزائرية تنتسب إلى دار المعلمين في فرنسا، وأول أستاذة جامعية امرأة في الجزائر، وأول كاتبة عربية تفوز بجائزة السلام التي تمنحها «جمعية الناشرين وأصحاب المكتبات الألمانية»، وكذلك أول امرأة عربية تفوز بكرسي في الأكاديمية الفرنسية عام 2005، ونجازف ونقول ربما هي أول مرشحة عربية جدية لجائزة نوبل للآداب، كان هذا عام 2009، لكنها لم تفز بها.
نالت آسيا جبار جوائز عالمية كثيرة، ولها تقديرها الكبير ومكانتها الأدبية المرموقة في فرنسا، كما أنها درست الأدب الفرنكفوني في جامعة نيويورك، وتميزت باستمرار بهذا النفح المرهف وتلك اللغة الأنيقة الحريصة على التفاصيل ورشاقة العبارة، ورقي الأسلوب.
عاشت تكتب عن التحرر دون أن تعتبر يوما، من أبناء وطنها، من الكتاب الثائرين الذين يثيرون ضجيجا. حسها الاعتدالي في تعبيرها بقي غالبا، فلم تكن من مثيري الشغب ولا طلاب النجومية السريعة المبنية على الانفعالية. أكاديميتها ربما قصّت أجنحة الجنوح في سلوكها، مما أبقاها بعيدة عن السجالات الجزائرية الكبيرة والصاخبة.
ولكن برحيل آسيا جبار اليوم، لا شك أن كثيرين سيعيدون حساباتهم وهم يقرأون تلك الأديبة المتنوعة الشاملة، التي تكتب وكأنما تختلط عليها الأجناس الأدبية، فتأنس لذلك وتسعد وتطرب، وتترك لقارئها حرية أن يسافر معها على طريقتها، أو يتركها إلى غيرها.
وكانت آسيا جبار التي توفيت في مستشفى باريسي قد أوصت بأن تدفن في مسقط رأسها، شرشال (غرب الجزائر)، وكأنما أرادت في طفولتها كما في كل أعمالها ومن ثم موتها أن لا تغادر هذا المكان أبدا.
رحيل الكاتبة الجزائرية آسيا جبار قبل أن تنال «نوبل» للآداب
تداخلت عندها الأجناس الأدبية بعد أن كتبت الرواية والشعر وأخرجت الأفلام
رحيل الكاتبة الجزائرية آسيا جبار قبل أن تنال «نوبل» للآداب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة