كنت أسمع باسمها دون أن أعرف عنها شيئا يذكر. ثم انطلقت شهرتها أكثر بعد انتخابها عضوة في الأكاديمية الفرنسية عام 2005. وكانت أول كاتبة مغاربية وعربية تحظى بهذا الشرف الرفيع. بعدها ببضع سنوات تكررت نفس الحادثة المجيدة مع الكاتب اللبناني الشهير أمين معلوف حيث انتخب عام 2011. وهكذا أصبح العالم العربي بمغربه ومشرقه ممثلا في تلك الأكاديمية الفرنسية العريقة المؤسسة منذ 4 قرون. وعلى عكس ما نظن فلم يكن اسمها الحقيقي آسيا جبار وإنما فاطمة الزهراء. وهو اسم شائع في البلاد المغاربية ويحظى بنوع من القداسة. وربما كان يعود إلى العصر الفاطمي. على أي حال فإنها تنتمي إلى ذلك الجيل الذي ولد وترعرع تحت حكم الاستعمار البشع والرهيب. وبالتالي فإتقانها للفرنسية كان أكبر من العربية بكثير. ولذا ألفت كل رواياتها بلغة موليير وفولتير وإن كانت أحاسيسها وهمومها تظل جزائرية، مغاربية، إسلامية. يمكن أن نقول ذات الشيء عن بقية الكتاب المغاربيين المشاهير من أمثال: محمد ديب وكاتب ياسين ورشيد بوجدرة والطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي وآخرين كثيرين. ولا ينبغي أن نحتقرهم أو نلومهم لأنهم لم يكتبوا بلغة الضاد. فظروفهم غير ظروفنا نحن المشارقة. قبل أن نحاكم الآخرين لنضع أنفسنا مكانهم ولو للحظة. يضاف إلى ذلك أن كاتب ياسين اعتبر اللغة الفرنسية بمثابة: غنيمة حرب! وهو مصطلح ناجح جدا في الواقع ولا يصدر إلا عن كاتب كبير. لماذا؟ لأنه يدل على أن الصراع ضد الاستعمار السلبي بكل المقاييس لا يعني بالضرورة احتقار لغته وثقافته وبخاصة إذا كانت رائعة وغنية كاللغة الفرنسية أو الثقافة الفرنسية. ليس غريبا إذن أن تكون آسيا جبار قد أمضت سنواتها الأخيرة كأستاذة للأدب الفرنسي في جامعة نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية.
كانت آسيا جبار أول جزائرية بل وأول مسلمة تتخرج من مدرسة المعلمات العليا في باريس عام 1955. وكانت أول امرأة تدرس مادة التاريخ في جامعة الجزائر بعد نيل الاستقلال الغالي. وبعد ذلك اشتهرت برواياتها المتلاحقة التي ترجمت إلى أكثر من 20 لغة. وفي عام 1999 ناقشت أطروحة الدكتوراه في الآداب عن نفسها وأعمالها الأدبية! وربما كانت أول شخص في العالم يفعل ذلك. فعادة نكتب أطروحات الدكتوراه عن مؤلفات الآخرين لا عن مؤلفاتنا نحن بالذات. وقد ناقشتها في جامعة بول فاليري بمدينة مونبلييه تحت العنوان التالي: الرواية المغاربية الفرانكفونية ما بين اللغات والثقافات: مسار آسيا جبار على مدار 40 سنة 1957 - 1997. ولكن الأطروحة تتحدث أيضا عن الكتاب المغاربيين الآخرين ولو على سبيل المقارنة بينها وبينهم. فهناك سمات مشتركة بين الجميع وإن كانت لكل واحد خصوصيته بطبيعة الحال. لأخذ فكرة عن توجهاتها الفكرية والسياسية يكفي أن نقرأ خطابها التاريخي الذي ألقته في الأكاديمية الفرنسية بعد انتخابها. ومعلوم أن كل عضو جديد ينبغي أن يلقي خطابا طويلا لحظة تنصيبه وذلك في جلسة مهيبة وبحضور كبار شخصيات فرنسا. وكان مما جاء فيه:
أيها السيدات والسادة: إن الاستعمار الذي عاشته الجزائر على مدار 40 جيلا على الأقل كان جرحا عميقا لا يندمل. كان عذابا حقيقيا بالنسبة للشعب الجزائري. لتوضيح ذلك سوف أقول ما يلي: في عام 1950 كان الشاعر المارتينيكي الكبير ايميه سيزير قد نشر نصا بعنوان: خطاب حول الاستعمار. وفيه يقول بكل شاعريته وبلاغيته الضخمة إن الحروب الاستعمارية لم تضر شعوبنا المستعمرة فقط وإنما أضرت أوروبا الاستعمارية ذاتها. فقد أعادتها إلى عصر الهمجية والبربرية وما عاد بإمكانها أن تفتخر بحضاريتها.
عندما سألني الصحافيون عن حقيقة مشاعري بعد انتخابي في الأكاديمية الفرنسية العريقة قلت لهم: هذا ليس تكريما لي وحدي وإنما لكل الكتاب والصحافيين والمثقفين الجزائريين الذي سقطوا إبان الحرب الأهلية الجزائرية. والكثيرون منهم دفعوا حياتهم ثمنا لحرية الإبداع والكتابة باللغة الفرنسية. ولكن لحسن الحظ فإن وطني استرد عافيته بعدئذ وخرج من تلك السنوات الـ10 السوداء لا أعادها الله.
ثم تتحدث آسيا جبار عن عظمة اللغة العربية والفكر العربي وتقول:
بعد عام 711 وحتى سقوط غرناطة عام 1492 أبدع الكتاب الأندلسيون باللغة العربية روائع أدبية وفكرية قل نظيرها. نذكر من بينهم ابن بطوطة ورحلاته الشهيرة. ونذكر ابن رشد الذي شرح أرسطو ودحض الغزالي عدو الفلسفة والفلاسفة. ونذكر أكبر متصوف أنجبه الغرب الإسلامي: محي الدين بن عربي. ونذكر ونذكر.. نعم كانت اللغة العربية آنذاك لغة الأدب والشعر والعلم والفلسفة. ومعلوم أن ترجمة مؤلفات عباقرة العرب والمسلمين إلى اللغة اللاتينية في القرون الوسطى هي التي أدت إلى نهضة أوروبا لاحقا بعد أن تمثلت أعمالهم وهضمتها. ولا ينبغي أن ننسى ابن خلدون أول مؤسس لعلم الاجتماع في التاريخ باعتراف مفكري الغرب أنفسهم. ولا ننسى أيضا ابن سينا كبير عباقرة الشرق العربي الإسلامي. فقد أدهش الكثيرين بنبوغه المبكر الصاعق الذي يذكرنا إلى حد كبير بنبوغ أحد كبار فلاسفة عصر النهضة الأوروبية: بيك الميراندولي.
أخيرا نختتم هذه العجالة بقول ما يلي: الشيء المؤثر هو أن الكاتبة الكبيرة طلبت في وصيتها بأن تدفن في مسقط رأسها في الجزائر لا في فرنسا حيث درست واشتغلت واشتهرت. وهذا يعني أنها لم تشأ أن تكون غريبة في مماتها بعد أن كانت غريبة في حياتها. تكفيها غربة واحدة لا غربتان. عجيب أمر الإنسان: لكأنه يريد أن يلتصق بالأرض والجذور إلى أبد الآبدين. يصعب عليه أن يقبر خارج تراب الوطن الغالي. آن لها أن تعود وتعانق أرض الوطن.
آسيا جبار.. أول عربية حظيت بعضوية الأكاديمية الفرنسية
طلبت في وصيتها أن تدفن في مسقط رأسها في الجزائر لا في فرنسا
آسيا جبار.. أول عربية حظيت بعضوية الأكاديمية الفرنسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة