ليس من المهم أن يكون اسمه زياد، محمد أو ياسين. لنسمه عبد القادر. المهم أنه صبي، بل طفل لا يزيد عمره على 8 سنوات. ابن لعائلة جزائرية تعيش في مدينة نيس الفرنسية المتوسطية منذ نحو 20 سنة، وهو تلميذ في المرحلة الابتدائية في مدرسة فلور1 القائمة في حي شعبي تسكنه جالية مسلمة كبيرة. وهذا الحي لا يعكس صورة المدينة المعروفة بواجهتها البحرية المسماة «متنزه الإنجليز» وبالكازينو الشهير المطل عليه.
المدينة هادئة بشكل عام؛ إذ ليس معروفا عنها انغماسها في العنف اليومي كما مدينة مرسيليا.
سكانها يربون على 345 ألف نسمة بينهم نحو 15 في المائة من الأجانب، بينهم 10 في المائة من مهاجري البلدان المغاربية.
ومن الناحية السياسية تميل نيس إلى اليمين، بل إلى اليمين المتطرف؛ إذ إن حزب الجبهة الوطنية الذي ترأسه مارين لو بن حصد في الانتخابات الأخيرة ما يزيد على 30 في المائة من الأصوات، وهي أفضل نتيجة حصل عليها في المدن التي يزيد سكانها على 50 ألف نسمة.
أما رئيس بلدية المدينة ونائبها كريستيان أستروزي، وهو وزير سابق وصديق مقرب من الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، فليس شهيرا بحبه للمهاجرين أو بسعيه لدمجهم في المجتمع المحلي، أستروزي يريد خفض عدد الواصلين منهم إلى فرنسا عبر استفتاء شعبي، كما أنه يدعو لحجب المساعدات الاجتماعية وخصوصا الطبية عن المهاجرين غير الشرعيين.
لم تشذ مدينة نيس عن غيرها من المدن الفرنسية التي نزل سكانها بالآلاف إلى الشوارع تضامنا مع صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة ودفاعا عن حرية الرأي والرسم وقيم المجتمع الفرنسي. وانتشر في شوارع المدينة ومحلاتها التجارية شعار «أنا شارلي». كذلك عمدت مدارسها، ككل مدارس فرنسا، أكانت ثانوية أم ابتدائية، إلى تنكيس العلم والوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا الأخوين كواشي وأحمدي كوليبالي، فيما طلب من الأساتذة والمعلمين أن يطرحوا الموضوع للنقاش في صفوفهم والتشديد على أهمية قيمة العلمانية السائدة في فرنسا.
في ظل الفورة الوطنية الداخلية والتضامن الدولي مع فرنسا، الأمر الذي ظهر مع المسيرة «المليونية» في باريس والمدن الأخرى، سمعت بعض الأصوات الشاذة التي نقلتها الوسائل الإعلامية الفرنسية عن «استثناءات» حصلت في المدارس تفيد بأن طلابا أو تلامذة رفضوا شعار «أنا شارلي»، وامتنعوا عن التزام دقيقة الصمت، ورفضوا الإعراب عن الأسف أو التضامن مع ضحايا العمليات الإرهابية الـ17 التي حصلت ما بين 7 و9 يناير (كانون الثاني). بعضهم اعتبر أن صحافيي «شارلي إيبدو» ورساميها «لعبوا بالنار» عن طريق نشر رسوم كاريكاتيرية تسيء للنبي محمد أو أنهم «استحقوا» المصير السيئ الذي وقع عليهم.
بينما رأى آخرون أن «شارلي إيبدو» ارتكبت «خطأ جسيما» لأنها استهدفت ملايين المسلمين وأصابت شعورهم الديني بالصميم. ورغم تبنيهم لحرية الرأي، فإنهم «ليسوا شارلي»، وهم يعارضون «الاستفزاز» و«الاستهزاء» بديانة الآخرين وعقيدتهم، والمقصود بهم هنا المسلمون.
ولكن ما علاقة الطفل عبد القادر بكل هذا الجدل؟ تقول الرواية إن عبد القادر - للتذكير عمره 8 سنوات - «رفض» تبني شعار «أنا شارلي» ردا على استجواب المعلمة التي سألته عما إذا كان يشعر بأنه شارلي. وبحسب الرواية المعتمدة من قبل إدارة المدرسة، فإن عبد القادر لم يكتف فقط برفض التماهي مع شارلي، بل إنه رفض المشاركة في دقيقة الصمت والانضمام إلى الأطفال الآخرين في الدائرة التي شكلوها في الصف للتعبير عن التضامن. و«الأخطر» من كل ذلك أن عبد القادر قال إنه «يقف إلى جانب الإرهابيين».
إزاء الخطر الداهم، عمدت المعلمة إلى إخبار الإدارة بما حصل، وقامت الإدارة بإخطار الشرطة التي جاءت يوم الأربعاء الماضي وأخذت عبد القادر مصحوبا بعائلته إلى مقرها، حيث استجوبته لمدة ساعتين بسبب ما اعتبرته «تمجيدا للإرهاب».
وبحسب أقوال ممثلي الشرطة، فإنه تبين لها سريعا أن عبد القادر «لا يعرف ماذا يعني الإرهاب، ولم يستطع تفسير الكلمات التي تفوه بها» في الصف. كما أن عبد القادر «نفى» أن يكون قد تفوه بعبارات مثل «يجب قتل الفرنسيين» أو «المسلمون فعلوا حسنا» أو «الصحافيون استحقوا هذا المصير» التي نقلت عن لسانه.
ما الذي حصل حتى تقوم الشرطة باستجواب طفل لحجة تمجيد الإرهاب؟ وهل يمكن تجريم طفل في الثامنة من عمره لأقوال تفوه بها ولا يمكن، بسبب عمره العقلي، أن يكنه مضمونها؟
الجواب: يجب البحث عنه في الأجواء التي سادت فرنسا عقب العمليات الإرهابية والتدابير التي اتخذتها الحكومة بالتشدد في الموضوع الأمني والتعليمات التي أعطتها وزارة العدل لملاحقة كل من يتفوه بعبارات يستشف منها التشجيع على الإرهاب، «والمقصود به هنا الإرهاب»، لأن فرنسا «في حالة حرب» ولأنه يتعين على المواطنين كما على الأجهزة الأمنية أن تساهم في الجهد «الوطني» لمحاربته. وللتدليل على ذلك ورغم ما يظهر على أنه «هستيريا قضائية جماعية»، عمدت وزيرة التربية نجاة فالو بلقاسم إلى التعبير عن «دعمها» لما قامت به إدارة المدرسة التي «أحسنت التصرف».
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد؛ إذ إن شكوى مدير المدرسة طالت أيضا والدي عبد القادر اللذين استدعيا للتحقيق معهما وللحصول على «تفسير» لما تفوه به ابنهما، لكن يبدو أن الأمور لم تحصل بشكل «سلس»؛ إذ إن والد عبد القادر متهم بـ«تهديد» أحد المعلمين وبالدخول «غير المسموح به» إلى الصفوف، بل إن تحقيقا آخر بدأ مع الوالدين بحجة «العنف الأسري» و«سوء معاملة القاصرين».
وبالمقابل، فإن العائلة تقدمت بشكوى من جانبها، وهي تتهم المدرسة برفضها إعطاء سائل الأنسولين لابنها الذي يعاني مرض السكري، وكذلك تعريضه «للاضطهاد» من قبل أقرانه ومن قبل المعلمين والإدارة.
ولذا، سعت العائلة لتغيير مدرسة ابنها الذي تقول عائلته إنه كان يرفض الدخول إلى الصف ويمضي وقته في دورة المياه.
يقول محامي العائلة سيفين غيز إن ما يحصل مع عبد القادر وعائلته يعكس «حالة الهستيريا الجماعية» التي تسود فرنسا في الوقت الحاضر.
وترى مسؤولة عن اتحاد أهالي التلامذة في المنطقة أن «النظام أصبح مجنونا» وهي تتساءل عن كيفية نقل وتلقين القيم إذا كان الرد على كلام طفل هو سوقه أمام القضاء؟ أما الشرطة فتبرر استدعاء عبد القادر وعائلته برغبتها في «معرفة المزيد» عن الظروف التي قادت الطفل إلى التفوه بعبارات التهديد. والمقصود ضمنا هنا معرفة أجواء المنزل وما إذا كان ما تفوه به الصبي «تردادا» لما سمعه في منزله.
القصة لم تنته فصولها، وسريعا جدا أصبحت رمزا لما يمكن أن يحصل في فرنسا إذا استمرت الأجواء السائدة حاليا على حالها، حيث تقود أي عبارة يتفوه بها صاحبها عن الإرهاب إلى المحاكم التي طلب منها التعامل بـ«شدة» مع كل ما يستشف منه أنه «تفهم» للإرهاب أو إشادة به.
ما المصير الذي ينتظر عبد القادر؟ من المعروف أن القوانين الفرنسية لا تسمح بالحكم على طفل في الثامنة من عمره؛ إذ إن المسؤولية تقع على ولي الأمر، أي الأب، وسن الحد الأدنى الذي يفتح الباب أمام حكم قضائي هو الثالثة عشرة، لكن عبد القادر لم يعد منذ الأربعاء إلى مدرسته. أما بالنسبة للأب، فإن الأمور «مفتوحة» ويتعين انتظار ما سيصل إليه التحقيق الذي تقوم به الشرطة ليعرف ما إذا كان سيلاحق بتهمة ما أو أنه سيترك حرا طليقا.
الشرطة الفرنسية تستجوب لساعتين صبيا في الثامنة من عمره لتفوهه بعبارات «تمجد الإرهاب»
أجواء ضاغطة بعد مقتلة «شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي
الشرطة الفرنسية تستجوب لساعتين صبيا في الثامنة من عمره لتفوهه بعبارات «تمجد الإرهاب»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة