«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

تاريخ من المصالح والتجاذبات والغيوم اقترنت دائمًا بـ«الاشتراكيين»

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية
TT

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

«عقدة» العلاقات المغربية ـ الفرنسية

بعد أقل من شهر سيكون قد مر عام كامل على توتر العلاقة بين المغرب وفرنسا، بسبب حادث مثير وقع شتاء العام الماضي في باريس، وتوقع كثيرون آنذاك أن يكون مجرد سحابة صيف عابرة عكرت صفو العلاقة بين البلدين، بيد أن السحابة تحولت إلى غيوم كثيفة أمطرت سلسلة حوادث أخرى أثارت استياء الرباط ضد حليفها التاريخي والاستراتيجي.
قبل أسابيع قاطع صلاح الدين مزوار، وزير خارجية المغرب، المسيرة الكبرى التي نظمت بباريس تنديدا بالعملية الإرهابية التي تعرضت لها صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة على خلفية نشرها رسوما مسيئة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، واكتفى بتقديم التعازي للرئيس الفرنسي الاشتراكي فرنسوا هولاند، ولم يكن هذا الموقف سوى مؤشر على استمرار تأزم العلاقة بين البلدين.
وعندما كانت فرنسا بصدد استيعاب الضربة القاسية التي تعرضت لها في قلب عاصمتها تعالت أصوات تطالب بأن تسارع باريس إلى إعادة التعاون الأمني بينها وبين الرباط إلى سابق عهده، فظهرت بوادر انفراج في العلاقة بين البلدين لا سيما بعدما أعلن وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس اعتزامه زيارة المغرب، ثم صرح بعده وزير الخارجية المغربي بأنه سيزور باريس «للوقوف على مختلف أوجه تعاوننا الثنائي، وذلك في السياق الخاص والأليم الذي تجتازه فرنسا»، موضحا أن «الزيارة تعكس، مرة أخرى، الإرادة الراسخة والصادقة للمملكة المغربية لتجاوز كل العوائق التي يمكن أن تعرقل التعاون التام بين البلدين وذلك بشكل نهائي ودائم».
مصدر دبلوماسي مطلع قال لـ«الشرق الأوسط» إن تقديم الرباط لمعلومات أمنية قيمة عن المتورطين في مجزرة «شارلي إيبدو» أسهم في هذه الدينامية الجديدة، لكنه وبشكل مفاجئ ألغيت الزيارة التي كانت مقررة يوم الجمعة ما قبل الماضي. وردت باريس بلغة دبلوماسية على لسان رومان نادال، المتحدث باسم خارجيتها، بأنها «تبحث مع المغرب موعدا جديدا للزيارة، وأن مزوار موضع ترحيب».
وتزامن إلغاء الزيارة مع صدور تقارير إعلامية تتحدث عن أن المغرب طلب من فرنسا منح الحصانة لمسؤوليه من المتابعة القضائية على أراضيها، بيد أن شكيب بن موسى، سفير المغرب في باريس، نفى ذلك.
وتعود فصول الحادث الأول الذي فجر الأزمة بين البلدين إلى 20 فبراير (شباط) من العام الماضي، عندما وجه قاضي تحقيق فرنسي استدعاء إلى عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للمخابرات الداخلية المغربية، خلال مشاركته في الفترة نفسها في مؤتمر أمني إقليمي بفرنسا، قصد الاستماع إليه بشأن شكوى رفعها ضده عادل مطالسي، وهو مواطن فرنسي من أصل مغربي، لدى المحكمة الابتدائية الكبرى بباريس، واتهمه فيها بتعذيبه إبان اعتقاله في المغرب لتورطه في الاتجار في المخدرات. ثم بعدها رفع ملاكم مغربي اسمه زكريا مومني شكوى مماثلة.
واحتج المغرب بشدة آنذاك على الطريقة التي جرى بها تبليغ الاستدعاء للمسؤول الأمني المغربي عبر إرسال فريق أمني خاص إلى مقر إقامة السفير المغربي في باريس، وعدته الرباط «حادثا خطيرا وغير مسبوق»، ومنافيا لقواعد الدبلوماسية المعمول بها. وجرى على أثر ذلك استدعاء شارل فري، السفير الفرنسي في الرباط، كما علق المغرب العمل باتفاقية التعاون القضائي بين البلدين.
أما الحادث الثاني فوقع بعد نحو شهر من الحادث الأول، حيث تعرض وزير الخارجية المغربي لتفتيش مهين في مطار رواسي - شارل ديغول بباريس، رغم إدلائه بوثائق سفره الدبلوماسية.
ثم عادت الغيوم لتتلبد من جديد في سماء العلاقات المغربية - الفرنسية، في ثالث أزمة دبلوماسية بين البلدين، وذلك عقب الزيارة التي قام بها الضابط المغربي السابق مصطفى أديب، وهو معارض مقيم بفرنسا، في 20 يونيو (حزيران)، للجنرال عبد العزيز بناني، المفتش العام للقوات المسلحة الملكية السابق، في غرفته بأحد مستشفيات العاصمة الفرنسية حيث كان يتلقى العلاج، والتي كال له خلالها الشتائم والإهانات، وهو ما فتح باب التساؤلات بشأن من سمح للضابط المذكور بالدخول إلى مستشفى «فال دو غراس» العسكري في باريس، المشهور بخضوعه لإجراءات أمنية مشددة نظرا لأهمية الشخصيات التي يستقبلها. وأعلنت السلطات الفرنسية أنها ستفتح تحقيقا على الفور تحت إشراف وزارة الدفاع.
وخلف الحادث استياء كبيرا في المغرب، حيث وصف بـ«السلوك الاستفزازي» و«الاعتداء المعنوي السافر»، فيما استدعى محمد ياسين المنصوري، المدير العام للدراسات والمستندات (المخابرات العسكرية الخارجية) السفير الفرنسي في الرباط. وعد استدعاء المنصوري للسفير الفرنسي سابقة من نوعها، وإشارة إلى درجة غضب أعلى سلطات البلاد مما تعرض له الجنرال بناني.
فمن يقف وراء هذه الحوادث؟
يجيب الدكتور الحسان بوقنطار، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط، قائلا إن «الحوادث التي تعرض لها المسؤولون المغاربة تؤكد وجود لوبي لا يريد أن تبقى العلاقات المغربية - الفرنسية في المستوى الذي كانت عليه، لذلك فهو يسعى لإحباط كل محاولة إلى إعادة العلاقات إلى سكتها القديمة». وأضاف بوقنطار لـ«الشرق الأوسط» أن تلك الحوادث أزعجت المسؤولين المغاربة لأنها تضرب في الصميم علاقة بلدين ذات سيادة، كما تضرب مبدأ الاحترام المتبادل والاتفاقيات المبرمة بين الدولتين وكذا الاتفاقيات الدولية التي تنظم التعامل مع المسؤولين.
وبشأن ما قيل عن طلب المغرب منح الحصانة لمسؤوليه، قال بوقنطار إن المغرب لا يمكن أن يسمح لنفسه بهذا الطلب، وكأنه دولة خارج القانون، فالمغرب له محاكمه المختصة في النظر في جميع الدعاوى، وبالتالي طلب الحصانة يعني أن بإمكان المسؤولين ارتكاب الخروقات والإفلات من العقاب، بينما نص الدستور الجديد على مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
وزاد قائلا «لا أتصور أن مسؤولا مغربيا يطلب الحصانة لنفسه، لأنها ستعد بمثابة ضوء أخضر ليفعل ما يريد»، مشيرا إلى أن إثارة هذا الموضوع تشويش على المغرب من قبل اللوبيات التي تسعى لتخريب العلاقات المتميزة بين البلدين، لافتا في المقابل إلى أنه لا يمكن لدولة أن تسمح لقضاء أجنبي بأن يحل محل قضائها الوطني. وذكر بوقنطار أنه «إذا كانت الاتفاقيات القضائية بين البلدين قاصرة ومحتاجة إلى إعادة النظر فينبغي أن يجري ذلك من خلال الآليات الدبلوماسية». وعد تفتيش وزير الخارجية المغربي في مطار باريس «خرقا واضحا لمعاهدة دولية، كما أن القضاء الفرنسي لا يمكن أن يسمح لنفسه بتجاوز الأعراف الدبلوماسية».
خلال زيارته الأولى إلى الرباط بعد انتخابه رئيسا لفرنسا حرص فرنسوا هولاند على التأكيد على موقف بلاده من نزاع الصحراء، وقال في خطاب ألقاه أمام البرلمان المغربي في 4 أبريل (نيسان) 2013، إن «مشروع الحكم الذاتي الموسع المقترح من طرف المغرب في 2007 هو قاعدة ومنطلق جدي وذو مصداقية في أفق حل متفاوض عليه». وأضاف «أقول هنا أمامكم إن هذا المقترح يعد أساسا جديا وذا مصداقية من أجل التوصل إلى حل متفاوض بشأنه لقضية الصحراء». وظل المغرب يعد فرنسا مساندا رئيسيا له في هذا النزاع، إلا أن الأزمة الحالية جعلت بعض المراقبين يعتقدون أن هناك تقاربا فرنسيا - جزائريا أزعج الرباط. لكن إدريس بلماحي، المحلل السياسي، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الموقف الفرنسي بشأن نزاع الصحراء لم يتغير، ظاهريا على الأقل، مشيرا إلى أن العلاقات المغربية - الفرنسية مرت بعدة هزات منذ مرحلة الاستعمار حتى اليوم، لكن سرعان ما كانت تعود إلى وضعها الطبيعي لأن مصالح البلدين أقوى»، وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه بوقنطار، وقال إن «المغرب لا يمكنه التحكم في العلاقة بين دولتين ذواتي سيادة، بأن يطلب من فرنسا ألا تكون لها علاقة مع الجزائر»، وعد ذلك «طرحا غير معقول لأن لفرنسا مصالحها والمغرب كذلك».
ومرت علاقة المغرب بفرنسا بفترات عصيبة إبان العقود الماضية، كان أبرزها في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، الذي وصل إلى الإليزيه عام 1981، والذي اتخذ من ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والموقف من نزاع الصحراء سلاحا يواجه به الملك الراحل الحسن الثاني إبان فترة الاحتقان السياسي التي كانت تعيشها البلاد آنذاك. وكانت دانيال ميتران، زوجة الرئيس الفرنسي، من مؤيدي جبهة البوليساريو الانفصالية، فهل قدر المغرب أن تتوتر علاقته بفرنسا كلما وصل اليساريون إلى الحكم إلى قصر الإليزيه.. وتعيش أزهى أيامها في ظل رؤساء من اليمين، مثل جاك شيراك الذي يعد من أبرز أصدقاء العائلة الملكية، وبعده نيكولا ساركوزي؟
وقلل محمد كرين، المحلل السياسي والاقتصادي المغربي، من أهمية هذا الأمر، وقال إنه «ربما تصادف تصاعد التوتر في العلاقات المغربية - الفرنسية مع وجود الاشتراكيين في سدة الحكم في فرنسا، إلا أن هذا الأمر لا يشكل، برأيي، العنصر الحاسم في العلاقات بين البلدين لأنها أعمق بكثير من أن يؤثر فيها بشكل حاسم وصول هذا الطرف أو ذاك إلى الحكم في فرنسا».
وأوضح كرين أن «التوتر الحاصل في العلاقات المغربية - الفرنسية بغض النظر عن الأحداث الطارئة التي قد تؤجج هذا التوتر، يعبر في العمق عن أزمة حقيقية مردها إلى كون العلاقات بين البلدين جرى نسجها في القرن الماضي على أساس معطيات تغيرت اليوم ولم تعد تقبل بهذا النوع من العلاقات». فالمحيط الدولي والإقليمي، يضيف كرين، تغير، وكذلك الوزن الجيو - استراتيجي للبلدين والأوضاع المؤسساتية والداخلية في كل منهما، بالإضافة إلى المعطيات الاقتصادية والاجتماعية. وكل هذه العوامل أصبحت، بنظره «تتطلب إعادة بناء العلاقات بين المغرب وفرنسا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات على جميع المستويات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والسياسية والأمنية».
وكان وزير الخارجية المغربي قد قال أخيرا في مقابلة صحافية إن «زمن الوصاية الفرنسية على المغرب قد ولى»، وهي تصريحات تعزز ما ذهب إليه كرين، كما أن مزوار، وفي محاولة لتفسير القصد من وراء الحوادث المسيئة للمسؤولين المغاربة، صرح بأن باريس لا تنظر بعين الرضا إلى تمدد المغرب اقتصاديا في أفريقيا.
وفي هذا السياق، أوضح كرين أن تمدد المغرب في أفريقيا أصبح يتزايد منذ عقد من الزمن، وأصبحت المقاولات المغربية تأخذ مكانة أكبر فأكبر بالقارة السمراء جنوب الصحراء، لا سيما في بعض القطاعات التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية، مشيرا في هذا الصدد إلى أن البنوك المغربية تجاوزت البنوك الفرنسية في منطقة غرب أفريقيا. وأضاف أن هذه المعطيات لا تلغي أن يصبح وجود المغرب وفرنسا في القارة الأفريقية متكاملا وينتفع به البلدان وقطاعاتهما الاقتصادية والمالية والتجارية، وذلك عبر تطوير وتنمية الشراكات بين المقاولات في البلدين باعتماد مبدأ التوطين المشترك الذي قد يتجاوز البلدين ليصبح مثلثا يضم بلدانا أفريقية أخرى لا سيما في القطاعات التي أصبحت تشكل المهن الجديدة بالعالم مثل الصناعة الكيميائية والصناعات الحديدية والميكانيكية والإلكتروميكانيكية وقطاع الأدوية وغيرها.
وأعطى كرين مثالا على ذلك بمعمل «رونو» في طنجة الذي يشكل، برأيه، نموذجا ناجحا للشراكة المربحة لجميع الأطراف.
وفي غضون ذلك، توقع الباحث السياسي إدريس بلماحي أن تنتصر المصلحة العليا للطرفين في النهاية ويتجاوز البلدان هذه الأزمة، لأن التوتر الحاصل لا يصب في مصلحة البلدين لا على المستويات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية. ولفت إلى أنه كلما كانت العلاقة جيدة ما بين دولتين فإنها تنعكس إيجابا على التعاون الاستخباراتي. وأكد أن من مصلحة فرنسا أن يكون لديها تعاون كبير مع المغرب في المجال الاستخباراتي والأمني لمواجهة الإرهاب، من دون إغفال أن المغرب نفسه يعاني من مخاطر الإرهاب.
الموقف نفسه عبرت عنه كريستين توبيرا، وزيرة العدل الفرنسية، في تصريحات أدلت بها للقناة التلفزيونية المغربية الثانية، الأحد الماضي، خلال حضورها لقاء ثقافيا بالمعهد العربي بباريس الذي يحتضن معرض «المغرب المعاصر»، حيث أقرت المسؤولة الحكومية بأنه «على المستوى السياسي الأمور معقدة نتيجة الحادث الذي وقع العام الماضي، لكن أعتقد أنه ما دامت هناك مصالح مشتركة بين البلدين على مستوى محاربة الإرهاب، وأيضا من أجل حماية المواطنين الفرنسيين والمغاربة، وما يتطلبه ذلك من تعاون قضائي، فإن الأمور ستتحسن».
وكانت تصريحات سابقة لتوبيرا قد أسهمت في تأجيج الخلاف بين البلدين عندما انتقدت في حفل تكريم أحد رسامي صحيفة «شارلي إيبدو» تقييد حرية التعبير في المغرب، وقالت إنه لا يسمح برسم كاريكاتير للملك محمد السادس.
أما كرين فأكد على أن الجانب الاقتصادي سيلعب دورا كبيرا في إعادة الأمور إلى نصابها وبناء علاقات من طراز جديد بين البلدين. وأضاف أن مستوى المبادلات التجارية بين البلدين يصل إلى 10 مليارات دولار، وفرنسا تبقى من أكبر المستثمرين الأجانب في المغرب، وهناك نحو 750 شركة فرنسية تشغل نحو 120 ألف عامل، كما أن أكبر جالية فرنسية في أفريقيا توجد في المغرب، وفرنسا هي أكبر مصدر للسياح بالنسبة للمغرب.
قد تكون الأزمة الحالية بمثابة نقمة في طيها نعمة إذا ما استغلها الطرفان لإعادة بناء علاقتهما على أسس جديدة، فعلى فرنسا - يقول كرين - أن «تتكيف مع الواقع الجديد بالمغرب الذي يتطور باستمرار معتمدة على مقارنة مبنية على التجديد والابتكار في إعادة نسج علاقاتها مع المغرب، كما أن من مصلحة فرنسا والمغرب أن تعتمد باريس على مقاربة جديدة على مستوى الشراكة الاقتصادية، وأن تتوجه أكثر إلى القطاعات الاستراتيجية لتطور المغرب، مثل النقل العمومي العصري والمدن الخضراء والصناعات الفلاحية الصناعية والطاقات المتجددة، في إطار تكامل وتعاون مثمر بين البلدين مع شركائهما التقليديين، لا سيما في القارة الأفريقية، وكسب جزء من الأسواق الأخرى كالشرق الأوسط». فمعمل تصنيع السيارات «رونو» بطنجة، يوضح كرين «جعل الشركة الفرنسية تستعيد عافيتها التجارية والمالية، وجعل المغرب ينوع صادراته، حيث أصبح قطاع السيارات أكبر مصدر بالمغرب قبل القطاعات التقليدية المتمثلة في الفوسفات والمواد الفلاحية».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.