سامبا ـ بانزا.. أمل «أفريقيا الوسطى»

الرئيسة المؤقتة وعمدة بانغي السابقة تواجه معضلة تحقيق الأمن وتنظيم انتخابات رئاسية خلال أقل من سنة

سامبا ـ بانزا.. أمل «أفريقيا الوسطى»
TT

سامبا ـ بانزا.. أمل «أفريقيا الوسطى»

سامبا ـ بانزا.. أمل «أفريقيا الوسطى»

كلمات مختصرة.. تلك التي اختارتها كاثرين سامبا - بانزا، بعيد انتخابها من طرف المجلس الوطني الانتقالي (البرلمان المؤقت) في أفريقيا الوسطى لتكون رئيسة للجمهورية بالوكالة.. «اتركوا السلاح جانبا، وغلّبوا لغة الحوار». هكذا وضعت تلك السيدة المتخصصة في قوانين التأمين، أصابعها على موضع الداء. وتدرك من خلال تجربتها حجم المخاطر المحدقة ببلادها، ومدى جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقها لتحقيق الأمن والاستقرار، وتنظيم انتخابات رئاسية في أقل من عام، في بلد يشهد نزوح قرابة مليون شخص ويحتاج نصف سكانه لمساعدات إنسانية عاجلة؛ كما يواجه حربا بدأت تأخذ الطابع الديني بين أغلبية مسيحية وأقلية مسلمة.
أفريقيا الوسطى تلك الجمهورية الصغيرة التي تنام في حضن القارة السمراء، وتعد من بين أفقر عشرة بلدان أفريقية، ويمتلئ تاريخها السياسي بالانقلابات العسكرية والصراعات الدموية منذ عهد الاستعمار الفرنسي، مرورا بعصر الإمبراطور فيدل بوكاسا، وحتى الإطاحة بحكم الرئيس فرنسوا بوزيزي في مارس (آذار) 2013 على يد متمردي «سيليكا» القادمين من الشمال.
أمام هذه اللوحة القاتمة لم يجد البرلمان في أفريقيا الوسطى أفضل من كاثرين سامبا - بانزا ليمنحها الثقة من أجل قيادة البلاد إلى بر الأمان. بانزا البالغة من العمر 59 عاما والمولودة في العاصمة التشادية أنجمينا، لأب كاميروني وأم من أفريقيا الوسطى؛ عاشت طفولتها بهوية تجمع فيها الانتماء لثلاثة بلدان أفريقية، ولكن مع بلوغها الـ18 استقرت في بانغي عاصمة أفريقيا الوسطى، التي اختارتها فيما بعد وطنا وحملت جواز سفرها، دون أن تعلم ما تخبئه لها الأقدار.
في السنوات الأولى من حياتها ارتبطت كثيرا بأحد أخوالها يعمل في السلك الدبلوماسي وصاحب سمعة طيبة في أفريقيا الوسطى، كان «الوصي عليها منذ الطفولة»، كما قالت في إحدى المقابلات، قبل أن تضيف: «هو من غرس فيّ صفاءه وحبه للنباتات والطبيعة، والديكور والانسجام، ثقافته الواسعة كانت مصدرا دائما للإلهام، كما غرست فيّ زوجته الإسرائيلية تذوق الجمال».
على غرار أغلب شباب القارة السمراء إبان العقود التي تلت استقلال المستعمرات الفرنسية، غادرت بانزا أفريقيا الوسطى متوجهة إلى باريس لإكمال دراستها الجامعية، فحصلت على عدة شهادات جامعية، من أبرزها البكالوريوس في الإعلام والاتصال، وشهادة الدراسات العليا المتخصصة في قانون التأمين، قبل أن تعود في تسعينات القرن الماضي إلى بلادها، لتلتحق هنالك بفرع الشركة الفرنسية «آليانز»، الثانية على مستوى العالم في خدمات التأمين، وبعد سنوات من العمل أسست «بانزا» شركة تأمين خاصة بها أصبحت ذات شهرة واسعة في أفريقيا الوسطى.
تتحدث «بانزا» اللغة العربية بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، وتوصف بأنها سيدة أعمال ناجحة، ويرى من عملوا معها في مجال الأعمال الخاصة أنها تمتلك «كفاءة عالية»، وتنأى بنفسها عن «ممارسة الفساد».
وعلى الرغم من نجاحها في مجال الأعمال والخدمات، فإنها اشتهرت أيضا كمناضلة حقوقية تنشط في صفوف «جمعية المحاميات في أفريقيا الوسطى»، وهي جمعية مختصة في مكافحة الختان وجميع أعمال العنف التي تتعرض لها المرأة، كما عملت أيضا مدربة في مجال حقوق الإنسان في إطار البرنامج الأفريقي لمنظمة العفو الدولية، مما منحها فرصة نسج علاقات قوية مع الكثير من المنظمات غير الحكومية التي تعمل في أفريقيا عموما، ومنطقة البحيرات الكبرى على وجه الخصوص.
بدأت «بانزا» الاقتراب من الحياة السياسية عام 2003، مباشرة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس الأسبق فرنسوا بوزيزي، وهو الانقلاب الذي أدخل البلاد في أتون حرب أهلية وأزمة سياسية خانقة، حينها كانت «بانزا» من بين لجنة الحكماء ونائب رئيس جلسات الحوار الوطني التي أخرجت البلاد من أزمتها. جلسات يرى مراقبون أن «بانزا» لعبت دورا محوريا في إنجاحها، لتنتخب بعد ذلك رئيسة للجنة المكلفة بالمتابعة والتقييم المستمر للنتائج التي أسفر عنها الحوار.
آلين امباغبا يامارا رئيس تحرير صحيفة «أفريقيا الوسطى الجديدة»، قال في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» من العاصمة بانغي، إن السيدة كاثرين سامبا - بانزا «عرفت كيف تشق طريقها في الحياة السياسية منذ عام 2003، فقد لفتت آنذاك انتباه الجميع بقدراتها على التفاوض خلال الأزمة التي وقعت بين الزعيمين دافيد داكو وآبيل غومبا؛ فصورتها وهي تمسك بالرجلين لتجمعهما حول طاولة الحوار، لا تزال عالقة بأذهان الجميع في أفريقيا الوسطى»، قبل أن يعود يامارا ليؤكد أن «مصدر قوة بانزا هو أنها غير محسوبة على أي حزب أو تيار سياسي في البلاد، وهذه وحدها نقطة تحسب لها»، فنجاح «بانزا» في إدارة جلسات الحوار الوطني سنة 2003، لم يجعلها ترتبط بأي من التشكيلات السياسية في أفريقيا الوسطى، حيث ظلت تدير أعمالها بالتوازي مع أنشطتها الحقوقية، على الرغم من أن زوجها كان ينشط في العمل السياسي، مما مكّنه من حمل عدة حقائب وزارية.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2012، عادت أفريقيا الوسطى من جديد إلى العنف، وذلك بعد توحد عدة حركات مسلحة متمردة في الشمال، تحت اسم «سيليكا»، التي ينتمي أغلب أفرادها إلى الطائفة المسلمة، حيث يشكل المسلمون أقل من 20 في المائة من تعداد السكان، ويملكون أكثر من 70 في المائة من اقتصاد البلاد.
متمردو «سيليكا» كانوا يتهمون الرئيس الأسبق فرنسوا بوزيزي بالتنكر لاتفاقيات وقعها مع المعارضة، فقرروا الشروع في عملية عسكرية تمكنوا خلالها من السيطرة على أغلب المدن، على الرغم من استنجاد الرئيس فرنسوا بوزيزي بتشاد التي أرسلت وحدات عسكرية لصد المتمردين، ولكن بعد قرابة أربعة أشهر من العمل المسلح سيطر المتمردون على القصر الرئاسي في العاصمة بانغي، وفر بوزيزي إلى الكونغو المجاورة، لينصب قائد «سيليكا»، ميشال دجوتوديا نفسه رئيسا للبلاد.
كان اليوم الذي دخل فيه المتمردون إلى بانغي محفورا في ذاكرة «بانزا» التي تقول في تصريحات سابقة: «مباشرة بعد دخول ميليشيات (سيليكا) إلى العاصمة بانغي، زارني في بيتي عشرات المسلحين وأخذوا أموالا وبعض السيارات»، قبل أن تقول: «لقد عشت جميع الصراعات العسكرية التي مرت بأفريقيا الوسطى منذ 1996 وحتى اليوم، وتعرضت حياتي للخطر في أكثر من مرة».
وتحمل «بانزا» مسؤولية ما تمر به أفريقيا الوسطى لرجال السياسة، الذين تتهمهم باستغلال الديانات لإحداث شرخ بين السكان، قبل أن تؤكد أن «جمهورية أفريقيا الوسطى طالما شكلت مثالا لانسجام مختلف الديانات»، ولكنها تعود في الوقت نفسه لتقول إن «الفرصة سانحة لعلاج هذا الشرخ».
بعد مرور شهرين من سيطرة المتمردين على مقاليد الحكم في أفريقيا الوسطى، اختار الحاكم الجديد للبلاد «بانزا» لشغل منصب عمدة العاصمة بانغي، فكان عليها أن تواجه وضعا إنسانيا كارثيا في مدينة أرهقها العنف ونهبت إداراتها وتعيش حالة من الفوضى العارمة والكراهية التي أدت إلى عنف ديني بين المسيحيين والمسلمين.
لاقى تولي «بانزا» لمنصب عمدة العاصمة ترحيبا واسعا في أوساط سكان المدينة، غير أن أبناءها الثلاثة (من بينهم اثنان يعيشان في فرنسا) عارضوا قبولها تولي مهمة يرونها مستحيلة، ولكن «بانزا» قالت: «لقد كنت دائما أناضل من أجل وصول المرأة إلى مناصب مهمة في الدولة، ورفضي لهذا المنصب سيكون مناقضا لما كنت أناضل من أجله». بينما يرى إيمانويل كريبي، صحافي ومحلل سياسي من دولة بنين، أن «قبول بانزا لمنصب عمدة بانغي كان قرارا صعبا، ولكن مسيرتها العملية والنضالية تؤكد أنها ليست ممن يتجنبون مواجهة المصاعب».
خلال توليها لمنصب عمدة العاصمة قامت «بانزا» بجولات في بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا، للبحث عن دعم دولي لعاصمة منهكة، وللالتقاء بالجالية وحثها على المشاركة في إعادة إعمار البلاد، غير أن بعض الأوساط انتقدت على «بانزا» رحلاتها الخارجية في الوقت الذي تعاني العاصمة من ارتفاع مستوى الكراهية بين السكان، واندلاع حرب دينية بعد تشكل ميليشيات «آنتي بالاكا» الموالية للرئيس الأسبق فرنسوا بوزيزي والمحسوبة على المسيحيين، وشروعها في استهداف المسلمين الذين تتهمهم بموالاة ميليشيات «سيليكا»، التي يعتنق أغلب عناصرها الدين الإسلامي، وتوالي الرئيس ميشال دجوتوديا.
أسفر الوضع الجديد عن انفلات أمني خطير أجبر فرنسا على إرسال 1600 جندي، في إطار ما أصبح يُعرف بعملية «سانغاري»، مهمة هذه القوات هي حفظ الأمن ونزع سلاح الميليشيات، وذلك بالتنسيق مع القوات الأفريقية الموحدة «ميسكا» البالغ تعدادها أربعة آلاف جندي أغلبهم من تشاد. وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي شهدته البلاد، فإن الوضع ظل مضطربا، مما أجبر قائد «سيليكا» على الاستقالة من إدارة شؤون البلاد، ليفتح المجلس الانتقالي (البرلمان المؤقت) الباب أمام الترشيحات، ليختار من بينها رئيسا انتقاليا يقود البلاد قبل أن تنظم انتخابات رئاسية من المنتظر أن تجري العام المقبل.
في هذه الأثناء وجدت كاثرين سامبا - بانزا، وهي التي واجهت مشكلات كبيرة في إدارة بلدية العاصمة، نفسها مرشحة لإدارة البلاد، وذلك بعد أن دفعتها منظمات نسائية وتيارات شبابية إلى الترشح دن أن تكون محسوبة على أي من الأحزاب السياسية الناشطة في البلاد. وتحدثت بعض الصحف في بانغي عن دعم فرنسي حصلت عليه «بانزا» لتحقق الفوز في الشوط الثاني من اقتراع سري شارك فيه نواب البرلمان، وبحضور المجموعة الدولية، وذلك بعد أن حصلت على 75 صوتا مقابل 53 لصالح ديزيري كولينغبا، ابن الرئيس الأسبق أندريه كولينغبا، الذي شغل الرئاسة في الفترة من 1981 إلى 1993.
وبخصوص الجدل الذي دار حول دعم ترشحها، يرى آلين امباغبا يامارا، رئيس تحرير صحيفة «أفريقيا الوسطى الجديدة»، أن تلك التهم لا تستند لأدلة منطقية، مشيرا إلى أن «بانزا» نفسها قالت إنها كانت مدعومة من طرف تيارات شبابية ونسائية ووطنية، ولكن بطبيعة الحال فرنسا ودول شبه المنطقة درسوا مسيرتها وقرروا دعم ترشحها، قبل أن تؤكد رغبتها الجامحة في أن تكون «محل إجماع لدى جميع الأطراف، وذلك ما جعلها تبتعد عن ممارسة السياسة عن طريق تيار سياسي معين».
ويشير يامارا إلى أنه «على الرغم من كونها سيدة مسيحية، فإنها حظيت بدعم قادة متمردي (سيليكا) المنحدرين في أغلبهم من الطائفة المسلمة»، وكان بعض هؤلاء القادة يلقبونها بـ«الوالدة»، ورحبوا بانتخابها.
وفي الوقت نفسه، كانت تحظى بدعم ميليشيات «آنتي بالاكا» المنحدرة من الطائفة المسيحية، وبالتالي فإنه من بين جميع المرشحين للرئاسة كانت بانزا وحدها التي تحظى بدعم المجموعتين المسلحتين المتناحرتين، كما حظيت أيضا بدعم المجموعة الدولية المكلفة الوساطة في أفريقيا الوسطى، فقبل ساعات من انتخابها عدّ دبلوماسي أوروبي أنها المرشحة الأكثر قبولا لدى جميع الأطراف.
مباشرة بعد انتخابها وجهت «بانزا» نداء إلى ميليشيات متمردي «سيليكا» وميليشيات «آنتي بالاكا»، تدعوهم إلى التخلي عن السلاح والعودة للحوار، قبل أن تؤدي اليمين الدستورية يوم الخميس 23 يناير (كانون الثاني) 2014، لتصبح بذلك أول سيدة تشغل منصب رئيس الجمهورية في أفريقيا الوسطى، وثالث سيدة تتولى الرئاسة في القارة الأفريقية، بعد إلين جونسون في ليبيريا وجويس باندا في مالاوي.
تيري فيركولون الباحث ومدير برنامج أفريقيا الوسطى في «كرايزس غروب»، عد انتخاب بانزا «دليلا على التجديد، فبعد انتخابها وجهت كلمتها الأولى إلى الطائفتين (المسيحية والمسلمة)، ولكنها أيضا خاطبت من يشككون في قدرتها على إدارة البلاد، وهذا ما تبحث عنه المجموعة الدولية، وما يريده سكان بانغي».
وخلف احتفاء الجميع بانتخاب «بانزا»، تختفي تحديات كبيرة على الرئيسة الجديدة مواجهتها في حيز زمني ضيق، حيث يرى كريستوف باربيير المدير الناشر لصحيفة «ليكسبريس» الفرنسية، أن «على بانزا في البداية أن تحقق السلام في البلاد؛ والسلام الديني أكثر صعوبة من السلام السياسي.. مما يعني أن عليها أن تنجح في تحقيق العملية الديمقراطية، وكل هذا مرتبط بمدى قدرتها على المحافظة على العلاقات مع فرنسا؛ مع الجيش الفرنسي أولا، ومع فرنسا كبلد أرغم على التدخل في القارة الأفريقية وهو لا يريد أن يعود إلى دائرة التهم الاستعمارية».
أما تيري فيركولون الباحث ومدير برنامج أفريقيا الوسطى في «كرايزس غروب»، فيرى أن «على بانزا أن تعتمد كثيرا على القوات الدولية، ولكنها يجب أيضا أن تشرك قادة ميليشيات «آنتي بالاكا» و«سيليكا» السابقين، في عملية حفظ الأمن». ويضيف الباحث الفرنسي المختص في شؤون إفريقيا الوسطى أن على الرئيسة الجديدة أن تبادر إلى فتح حوار ديني بين الطائفتين؛ المسيحية والمسلمة.
وفي هذه الأثناء، يطرح الملف الإنساني نفسه بقوة على مكتب الرئيسة الجديدة، حيث ترتفع الأصوات المحذرة من وقوع مجاعة في البلاد، كان آخرها سفير أفريقيا الوسطى لدى الأمم المتحدة، الذي قال إن «هناك خطر حدوث مجاعة، وهذا الخطر سيزداد إذا لم يجرِ التدخل من أجل إعادة سمات الدولة ومساعدة السكان على الحصول على الحد الأدنى للعيش». قبل أن يضيف: «لا بد من نهج شمولي، بل بالأحرى (خطة مارشال) إذا كنا نريد انتشال البلد والحيلولة دون انتشار ما يجري فيه ليصيب دولا في شبه المنطقة».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».