يوم 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد يوم من قرار هيئة المحلفين القضائية في فيرغسون (ولاية ميسوري) بعدم اتهام الشرطي الأبيض داري ويلسون الذي قتل الشاب الأسود مايكل براون، قال بيرني غولدبيغيرغ، صحافي يميني، في تلفزيون «فوكس» اليميني: «يجب ألا نخلط الأمور. يجب أن نتذكر دائما أن ويلسون هو البطل، وبراون هو الخائن».
كان الصحافي يتحدث بلغة أفلام الكاوبويات. واستمر يقول: «من فضلكم أيها الأميركيون، يجب ألا نحول هذا الصبي إلى شهيد من شهداء الحقوق المدنية. لسبب واحد بسيط، وهو أنه ليس كذلك».
لكن، الذي حدث، على الأقل بالنسبة لكثير من السود، هو العكس. مباشرة بعد إعلان قرار هيئة المحلفين، تظاهر آلاف منهم احتجاجا وغضبا، في فيرغسون، وغير فيرغسون.
وسارعت كاميرات التلفزيونات تغطي المظاهرات. خاصة كاميرات «فوكس» و«سي بي إس» و«إي بي سي» و«إن بي سي»، و«سي إن إن». غطت كل ثانية من الأحداث، وخاصة النهب، والغضب، وتحطيم النوافذ، ورمي الشرطة بالحجارة.
عادة، في مثل هذه الأحوال، يتأثر الإعلام العالمي بالإعلام الأميركي. لهذا، سارعت إلى فيرغسون كاميرات تلفزيونات عالمية. منها: «بي بي سي» البريطانية، و«روسيا اليوم» الروسية، و«فرانس 24» الفرنسية، و«دويتش فيلت» الألمانية.
وحدث نفس الشيء تقريبا بعد قرار هيئة المحلفين في نيويورك بعد اتهام الشرطي الأبيض الذي قتل الرجل الأسود اريك غارنر (43 عاما). وهذه المرة، كان (ولا يزال) الاهتمام الإعلامي، الداخلي والخارجي، أكثر، وذلك بسبب أهمية نيويورك، ليس فقط كمركز إعلامي، ولكن، أيضا، كمدينة فيها عشرات الأعراق، والإثنيات، والأديان، والثقافات. وطبعا، كلما زادت التغطية الإعلامية، زادت التغطية الإعلامية. وذلك لأن كثيرا من الصحافيين ينقلون الأخبار عن بعضهم البعض.
الآن، مع نهاية العام، راجعت بعض هذه الأجهزة الإعلامية ما فعلت. وسألت خبراء ومعلقين عن سر هذا الاهتمام. عن سر هذه الإثارة. خاصة لأن بعض الناس اتهموا الصحافيين بأنهم هم المسؤولون عن انتشار المظاهرات، وذلك لأنهم يجرون وراء الإثارة، ويبالغون في تغطيتها.
سأل تلفزيون «دويتش فيلت» الألماني روبرت انتمان، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن (في واشنطن العاصمة). المتخصص في العلاقة بين الإعلام والعنصرية. قال: «دائما، تكون صور الاحتجاج جذابة لوسائل الإعلام. دائما، تكون صور العنف
في الشوارع وصور النوافذ المحطمة جذابة. وللتلفزيون بصورة خاصة». وأضاف 3 نقاط أخرى:
أولا: مثل هذه الصور تساهم في نقص المعلومات الأساسية عن الموضوع، لأنها صور مثيرة، أكثر منها تحليلات عميقة.
ثانيا: لأن الموضوع هام (المشاكل بين البيض والسود منذ قبل تأسيس الولايات المتحدة بأكثر من مائة عام)، صار يغطى على ما عداه.
ثالثا: لأن الموضوع حساس، وعاطفي (خاصة عدم رغبة البيض في الحديث عنه)، اختلط الخبر بالرأي (خاصة آراء السود، وهم يتظلمون من ظلم الشرطة).
وأضاف انتمان: «يوجد انقسام آيديولوجي في الولايات المتحدة (بين الليبراليين واليمينيين). ويقف الإعلام اليميني مع رجال الشرطة، حتى إذا ارتكبوا خطأ فادحا. لهذا، مثل هذه المواقف الآيديولوجية لا تساعد في حل موضوع حساس كالاختلافات العنصرية بين البيض والسود. بل تزيد الفجوة بين الجانبين. وهذه هي المأساة الحقيقية».
لهذا، أحيانا، تختلط الحقائق بالعواطف، وتختفي:
مثلا: حاول تلفزيون «سي إن إن» الليبرالي التوفيق بين الجانبين. وجمع صحافيين، أبيض وأسود. قال الأبيض بأن السود يبالغون في الشكوى من ظلم الشرطة البيض. لكن، قال الأسود بأنه «في كل يوم يقتل شرطي أبيض أسود». اعتمد الأسود على معلومات من موقع «مالكوم اكس» (زعيم أسود، وصار مسلما، خلال حركة الحقوق المدنية في ستينات وسبعينات القرن الماضي). لكن، قال موقع «بوليتي فاكت» (حقائق السياسة)، ويديره صحافيون بيض، ليس صحيحا أنه «في كل يوم يقتل شرطي أبيض أسود». وقدم معلومات أثبتت خطأ ذلك. وهكذا، تختلط الحقائق بالعواطف. وليس فقط من جانب الصحافيين السود.
في بداية هذا الشهر، قال بيل اورالي، الأبيض اليميني، ومقدم برنامج يومي في تلفزيون «فوكس» اليميني، بأنه: «حسب أرقام الحكومة الأميركية، انخفض عدد السود الذين تقتلهم الشرطة البيض بنسبة 70 في المائة خلال الـ50 عاما الماضية». لكن، سارع موقع «بوليتي فاكت»، وأعلن أن هذا ليس صحيحا.
في كل الحالات، بينما يعرض تلفزيون «فوكس» رأي البيض اليمينيين، يعرض تلفزيون «سي إن إن» رأي البيض الليبراليين. وتظل القناتان تقودان هذا النقاش عن العنصرية، وعن المواضيع الأخرى.
ربما لهذا السبب تظلان في مقدمة القنوات الأميركية. وحسب استطلاع أجراه مركز «بيو» في واشنطن في العام الماضي، تشاهد «سي إن إن» نسبة 44 في المائة من الأميركيين، وتشاهد «فوكس» نسبة 39 في المائة. بينما انخفضت نسبة مشاهدة القنوات التلفزيونية التقليدية (والمحايدة تقريبا): تشاهد نسبة 37 في المائة كلا من «إي بي سي» و«إن بي سي»، ونسبة 33 «سي بي إس».
في نفس الوقت، حسب مركز «بيو»، تنخفض نسبة كل الذين يشاهدون أخبار التلفزيون في أميركا، وذلك بسبب تحول نسبة كبيرة منهم إلى الإنترنت.
في وسط هذا الانقسام الآيديولوجي (الإعلامي، وغير الإعلامي)، يقف الرئيس باراك أوباما (ابن الأب الأسود، والأم البيضاء). وطبعا، رحب به الإعلام الأميركي منذ البداية. وحتى في الوقت الحاضر، يظل رئيس أميركا، ويظل الإعلام يعامله المعاملة المحترمة التي يستحقها. وطبعا، في أميركا، انتهت «ريشيال دسكريمنيشان» (التفرقة العنصرية). لكن، تبقى «ريشيال بريجيوديس» (التحيز العنصري). انتهت الرسمية، وتبقى الخاصة.
لهذا، فتح تردد أوباما في موضوع العنصرية الباب أمام الأميركيين البيض، بصورة عامة، للتنفيس، قليلا جدا، عما في دواخلهم، هذا تنفيس الأغلبية القوية التي لا تخلو من التعالي التقليدي (الطبيعي؟) بسبب تعدد أنواع قوتها: العددية، والاقتصادية، والثقافية، والعلمية، والحضارية كلها. لهذا، يوجد رأيان وسطهم:
أولا: يقول العقلانيون: يقدر السود، في عهد الحرية، على النجاح في الحياة. لكن، لا شفقة على الفاشلين.
ثانيا: يقول العاطفيون: لا بد من مساعدة الفاشلين لتعود الفائدة على الجميع.
هذا ما يعكسه الإعلام الأميركي في موضوع العنصرية. وهذا ما يعكسه تلفزيون «فوكس» في جانب، وتلفزيون «سي إن إن» في الجانب الآخر. الحقيقة هي أن أوباما تردد: في جانب، دعا إلى الالتزام بالقانون والنظام. وفي جانب، تحدث (في عبارات دبلوماسية) عن ظلم الشرطة للسود. لهذا، عامله الإعلام الأميركي، بنوعيه، المعاملة المتوقعة:
قال الإعلام اليميني: يلعب أوباما دور «فيكتيم» (ضحية). ويشتكي مثلما يشتكي السود من البيض، منذ مئات الأعوام.
قال الإعلام الليبرالي: يلعب أوباما دور «برثار» (أخ). لأنه لا بد أن يعطف على «إخوانه» المظلومين.
قبيل عيد الكريسماس، وكعادتها كل عام، نشرت مجلة «بيبول» (الناس) الأسبوعية الناجحة جدا، مقابلة مع أوباما وميشيل. وكعادتها، تسألهما أسئلة رسمية وأسئلة خاصة. هذه المرة، طغت العنصرية على العام، وعلى الخاص.
عنوان المقابلة: «لم ينتهِ التحيز العنصري كما يتوقع». لم يتحدث أوباما وميشيل عن «دسكريمنيشان» (التفرقة)، ولكن تحدثا عن «بريجوديس» (التحيز). وعبارة «كما يتوقع» تعود إلى المجلة. أي ما يتوقع كثير من الناس. أي كما يتوقع كثير من البيض. أي أن أوباما وميشيل في وادٍ، والأميركيين في واد آخر.
في المقابلة اشتكت ميشيل من معاملة البيض لها، حتى وهي سيدة أميركا الأولى. قالت: إنها كانت في زيارة «رسمية» إلى متجر «تارغيت» في ضواحي واشنطن، وطلب منها رجل أبيض أن تساعد امرأة بيضاء في شيء ما. (ربما كان قصد الرجل بريئا، لكن، فسرت ميشيل هذا تفسيرا عنصريا). وقال أوباما بأنه، قبل أن يصير رئيسا، كان في حفل عشاء وهو يرتدي بدلة رسمية، عندما طلب منه رجل أبيض أن يملأ فنجان القهوة أمامه. (ربما كان قصد الرجل بريئا. لكن فسر أوباما هذا تفسيرا عنصريا).
وقال أوباما: «تظل هذه الإهانات الصغيرة لا شيء بالمقارنة مع ما شهدت الأجيال السابقة من السود». هذا كلام دبلوماسي يمكن أن يعني شيئين: أولا: انتهت «التفرقة»، لكن لم ينته «التحيز».
ثانيا: لم تنته «التفرقة» أصلا.
وسارعت المعلقة اليمينية إليزابيث هاسلبيك، في تلفزيون «فوكس» اليميني وانتقدت ليس فقط أجوبة أوباما وميشيل، ولكن، أيضا، أسئلة مجلة «بيبول» (الليبرالية). وقالت: «هكذا، يجد الصحافيون الليبراليون عذرا بعد عذر للدفاع عن السود». وسألت: «ألا تؤذي هذه المقابلة الصحافية المشكلة العنصرية أكثر مما تحلها؟». وأضافت: «نعم، من حق الرئيس والسيدة الأولى أن يتحدثا عما يحسان به. وأن يقولا أن هناك نوعا من أنواع الظلم وقع عليهما. لكن، هو الرئيس وهي السيدة الأولى، أليس من واجبهما أن يمثلا جميع الأميركيين؟».
وصرخ، وكرر الصراخ، رش ليمبو، ربما أهم معلق يميني في أميركا. ومما قال: «ها نحن نقرأ أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، والسيدة الأميركية الأولى، يعلنان أنهما ضحيتان. ها هما، بعد 6 أعوام في البيت الأبيض، يتحدثان عن أحداث وقعت قبل 6، أو 7، أو 8 أعوام. لماذا؟» وأضاف: «ليس الموضوع عنهما فقط. هذا موضوع يهم كل الأميركيين، إنهما يسيئان إلى الولايات المتحدة الأميركية».
لم يقل ليمبو بأنهما «خائنان»، لكنه ربما كان يريد أن يقول ذلك.
وسألت المعلقة اليمينية لورا انغراهام: «كيف يقولان هذا عن أعظم بلد في تاريخ البشرية؟».
وقال المعلق اليميني جون رانسوم: «تريد ميشيل أوباما منا أن نحس بالعطف نحوها، ونحو زوجها، لأنهما أسودان».
وكتبت المعلقة اليمينية دانا لوش: «ليس الذنب ذنب أوباما وميشيل. الذنب ذنب الصحافيين الليبراليين البيض». وكان أوباما تحدث، قبل مجلة «بيبول»، مع تلفزيون «بي إي تي» (تلفزيون الترفيه عن السود). وكان أكثر صراحة. وقال: «العنصرية عميقة الجذور في أميركا». ومرة أخرى، انتقده صحافيون يمينيون. مثل مجلة «ناشيونال ريفيو» التي قالت: «ليست التفرقة العنصرية عميقة الجذور، التفرقة العنصرية من دون جذور. إنها ميتة».
لهذا، تمكن ملاحظة أن كثيرا من البيض (والإعلام الذي هو إعلام أبيض) يعيش في واد، وأوباما (والسود) يعيشون في واد آخر. هؤلاء يقولون: إن العنصرية ماتت، وهؤلاء يقولون: إنها حية ترزق.
الصحافيون الأميركيون والعنصرية: عقلانيون.. وعاطفيون
اهتمام إعلامي داخلي وخارجي بعد اتهام الشرطي الأبيض بقتل الرجل الأسود
الصحافيون الأميركيون والعنصرية: عقلانيون.. وعاطفيون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة