شهدت دمشق القديمة في بداية تسعينات القرن الماضي، ظاهرة تحولت سريعا إلى موجة عارمة، تجلّت في تحويل المنازل التقليدية القديمة فيها إلى مطاعم وفنادق تراثية. وقد استمرت الموجة زاحفة حتى اليوم. وكان من أوائل من قام بذلك أحفاد شاعر الشام الراحل، شفيق جبري، الذين حولوا منزل جدّهم الواسع إلى مطعم، أطلقوا عليه اسم «بيت جبري» وتركوا صالة صغيرة فيه لإقامة معارض فنية لم تنشط كثيرا. وقد توالى إطلاق الأسماء فيما بعد، فمن «بيت جدّي» إلى «بيت ستّي» إلى «بيت زمان» و«بيت رمان» وغيرها.
لكن ظاهرة أخرى برزت في الأشهر الأخيرة، مع تخلي بعض أحفاد الأدباء والشعراء السوريين وأبنائهم عن فكرة تحويل منازل أسرهم إلى مطاعم وفنادق، وحولوها، بدلا من ذلك، إلى دور ثقافية ومراكز لأنشطة أدبية وفنية مختلفة.
ورغم أن هذه الخطوة لا تحقق الربح لأصحابها، فإنها تحقق لهم طموحات أخرى، هي الحفاظ على هذه البيوت وتنشيطها، من خلال إقامة فعاليات أدبية وثقافية وفنية فيها، بالتعاون مع جهات ثقافية خاصة وأخرى حكومية.
من بين تلك البيوت بيت الشاعر خليل مردم بك وابنه عدنان. وهو بيت دمشقي تقليدي واسع مقام على مساحة 600 متر مربع. يتكون البيت من طابقين، ويضم باحة سماوية واسعة، وبحرة (نافورة) جميلة، ونحو 10 غرف كبيرة، وصالونين كبيرين. يقع بيت مردم بك في منطقة الحريقة التي تُعدّ من أهم المناطق القديمة، كونها كانت ولا تزال تشكّل مركز العاصمة التجاري. ورغم موقع المنزل الاستراتيجي الذي يسيل له لعاب الممولين والتجّار، حيث يلاصق مبنى البيمارستان النوري العريق، وعلى جانبيه محلات الحريقة التجارية النشطة، وسوق الحميدية الشهير، فإن أحفاد الشاعرين وأبناءهما، قرروا تحويل المنزل إلى دار ثقافية، احتضنت منذ انطلاقتها في فبراير (شباط) الماضي، الكثير من الفعاليات الأدبية والتراثية، أقيم آخرها في منتصف ديسمبر (كانون الأول)، وهو مهرجان الشعر والشباب الذي جاء بمناسبة إصدار ديوان الشاعر عدنان مردم بك (صاحب المنزل المتوفى قبل ربع قرن). والديوان صدر في ذكرى ولادته المئوية عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
تقول هند مردم بك، ابنة الشاعر عدنان، وهي صيدلانية تعيش بين المغرب وسوريا لـ«الشرق الأوسط»، إن «البيت يعود لأسرتنا، وتوارثناه أبا عن جد منذ بنائه في أواسط القرن السادس عشر. وقد عاش فيه معظم أبناء العائلة، ومنهم جميل مردم بك الذي كان في الكتلة الوطنية ورئيس وزراء سوريا بعد الاستقلال عن فرنسا في خمسينات القرن الماضي، وكذلك الشاعر خليل الذي وضع النشيد الوطني السوري، ووالدي عدنان الذي يمتلك رصيدا أدبيا كبيرا من دواوين شعرية ومسرحيات، وكان قاضيا معروفا في دمشق.. كيف يمكن لنا أن نحوّل هذا البيت العريق والواسع إلى مطعم مثلا، أو نبيعه، خصوصا أن إغراءات مادية كثيرة عُرضت علينا؟!».
«هل نبيع تاريخنا؟» تتساءل هند. وتجيب: «منزل خليل وعدنان مردم بك، كان مقصد العديد من الأدباء العرب. وما من أديب مرموق أو مستشرق كبير، إلا وزار البيت. ومن هؤلاء أمير الشعراء أحمد شوقي الذي زاره سنة 1924، حيث استقبله جدّي بقصيدة معروفة عنوانها (تحية لشوقي)، وزاره كذلك بشارة الخوري، وإيليا أبو ماضي، وخليل مطران، وإبراهيم المازني، وزكي مبارك، ومحمود تيمور، ومعروف الرصافي، وجميل صدقي الزهاوي، وغيرهم الكثير. كما كان المنزل مسرحا لحوادث تاريخية وسياسية وأدبية مهمة. فمنه انطلقت شرارة الثورة ضد العثمانيين سنة 1913، عندما احتضن البيت أول ندوة سياسية في مدينة دمشق، حضرها عز الدين التنوخي غداة عودته من أوروبا، وشكري العسلي الذي أعدمه الترك فيما بعد، وعبد الرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي، وفارس الخوري، والأمير عارف الشهابي وآخرون. وقد تقرر في تلك الندوة وجوب جمع شمل العرب والمطالبة بحقوقهم كاملة. ومن هذا البيت، تحرك الركب العربي الأول. كذلك احتضن البيت ندوات ضد الفرنسيين. وتم نفي جدي إلى إنجلترا. ومن هناك انطلقت الرابطة الأدبية وغيرها من الأحداث المهمة. وظل والدي محافظا على نشاط أطلقه منذ منتصف القرن الماضي وحتى وفاته سنة 1988، حين جعل البيت صالونا أدبيا في كل أربعاء».
«صعب علينا». تقول هند متنهدة. وتتابع: «نحن أبناء هذا البيت، (صعب علينا) أن نراه مطعما ومقهى أراجيل! مرت بنا حالات يأس، حين كان المنزل يهترئ أمام أعيننا بسبب قدمه. ولم يكن لدينا المال اللازم لترميمه، وكان ترميمه يتطلب مبالغ كبيرة. لذلك فكرنا في واحدة من المراحل في استثمار البيت بتأجيره، ليُفتتح كمركز ثقافي أجنبي، مثلما حصل مع بيت العقاد (المركز الثقافي الدنماركي). لكننا تخلينا عن هذه الفكرة، مع أن هذا الأمر حافظ على البيت مركزا ثقافيا، وليس مطعما أو فندقا. ضغطنا على حالنا أنا وأخوتي الـ4 وجمعنا بعض المال لإصلاح ما يمكن إصلاحه. لقد حافظنا على البيت كما هو، وبقينا نسكنه حتى سنة 2011. حيث تعيش فيه والدتي وشقيقتي الصغرى ولن نتركه. سنعود لنسكن قسما منه بعد إنجاز أعمال الإصلاح والترميم، مع طموحنا بأن يعود ليكون ملتقى لكل الأدباء والشخصيات السورية والعربية، وأن نعيد له الأنشطة الثقافية والأدبية بشكل دائم. وهناك مشروع لإعادة الملتقى الأسبوعي الذي كان يتم يوم الأربعاء إلى البيت، أو حتى بصورة شهرية، تحت عنوان (حديث الأربعاء)، وإقامة أمسيات موسيقية راقية دورية، وأنشطة تراثية لإظهار العادات الدمشقية والتقاليد. ولدينا طموح أيضا في تحويل جزء من البيت إلى متحف خاص يضم مقتنيات جدي ووالدي، وهي كثيرة وقيمة، ومنها مكتبة عريقة ونادرة، عملنا على أرشفتها أخيرا، ونسعى إلى فتحها أمام القراء يومين في الأسبوع. وهناك مقتنيات قديمة كالفرش والموزاييك والزجاجيات، ووثائق قيمة موجودة لدى مركز الوثائق التاريخية في دمشق، سوف نستعيدها عندما نحوّل قسما من البيت إلى متحف خاص.
في منطقة القنوات التاريخية بدمشق، ثمة دار أخرى حولها صاحبها حسين حيدر العرفي، قبل أشهر، إلى دار ثقافية أطلق عليها «رواق العرفي للثقافة والتراث».
يشرح حسين لـ«الشرق الأوسط»، موضحا أن الدار، وهي منزل شامي تقليدي صغير نسبيا، انطلقت باسم «كتّاب بلاد الشام»، وحرصت على تقديم شكل الكتاتيب كتفاصيل ومفردات الحياة لدى الكتّاب، حيث يقدمون بساطة التعليم التي أنتجت كل علماء العالم العربي والإسلامي والمسيحي، الذين درسوا لدى الكتاتيب. فالكتاتيب أساس التعليم بعد ذلك.
يتابع حسين: «حولتها إلى دار للقراءة وغرفة مكتبة خاصة بالأطفال، بحيث يمكن للأهل أن يتركوا أطفالهم لدينا، لنقدم لهم مطالعة الكتب والتسالي التراثية، وهي نشاط أسبوعي بحيث يمكن أن يذهب الأهالي للتسوق في الأسواق القريبة من الدار. وهناك أيضا خدمة الكتاب الإلكتروني المجاني، حيث اتفقتُ مع الهيئة العامة السورية للكتاب، على تزويد الدار بكل إصداراتها الورقية والإلكترونية. كما تقيم الدار نشاطات ثقافية متنوعة، كالمحاضرات والمعارض والرحلات والحفلات الموسيقية، ونشاطات ثقافية خاصة بالأطفال واليافعين، من خلال صندوق الفرجة وحكواتي الشام، ودورات في الرسم والخط العربي وغير ذلك». وجميع هذه الأنشطة، كما يؤكد حسين، مجانية ودون أجر بالمطلق.
يتابع حسين: «جاء افتتاح الدار، تكريما لجدي الشيخ محمد سعيد العرفي، وهو من مدينة دير الزور شرق سوريا، وكان يتنقل بين مدينته ودمشق حيث كان رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى في بلاد الشام، ومقره في دار الحديث النبوي خلف الجامع الأموي. كما كان عضوا في مجمع اللغة العربية، وعضوا في البرلمان. وشارك في الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، وكذلك في الثورة ضد الفرنسيين. وقد نفاه العثمانيون مرتين، وفعل الفرنسيون الشيء نفسه، ونفوه إلى مصر وأنطاكية».
يؤكد كثير من الأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي السوري أن هذه البيوت الثقافية الخاصة شيء رائع وجميل، وستسهم في دعم الواقع الثقافي السوري الراهن وتنشيطه. لكنها لن تكون بديلا عن المراكز الثقافية العامة، بل مكملة لها، خاصة أن هذه الدور تستقبل أنشطة ثقافية عامة لوزارات الثقافة والسياحة وغيرها.
أبناء أدباء ومثقفين سوريين وأحفادهم يحولون منازلهم إلى دور ثقافية
بعد موجة البيوت الدمشقية القديمة التي صارت مطاعم وفنادق
أبناء أدباء ومثقفين سوريين وأحفادهم يحولون منازلهم إلى دور ثقافية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة