«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني
TT

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة «لن تحل بين ليلة وضحاها. إنها تراث أجيال وأجيال. لكن، يقدر الجيل الجديد، جيل الشباب، على النضال ضدها. وفي كل الحالات، يتحقق التقدم على مراحل. يتحقق التقدم تدريجيا». هذا ليس رأي خبير أبيض، أو خبير أسود.. هذا ما قاله الرئيس باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
لم يقل أوباما حديثه هذا خلال الأسبوع الماضي، بعد أن قتل أسود اثنين من رجال الشرطة في نيويورك.. ولم يقله الشهر الماضي، بعد أن برأت هيئة محلفين شرطيا أبيض قتل أسود في نيويورك.. قاله الصيف الماضي، عندما اندلعت أول مواجهات جديدة بين السود والشرطة في فيرغسون، ضواحي مدينة سانت لويس (ولاية ميسوري)، بعد أن قتل شرطي أبيض أسود. وطبعا، يمكن أن يقول أوباما ما قال اليوم أيضا، وغدا أيضا، وبعد غد أيضا.. فالمواجهة العنصرية بين البيض والسود في الولايات المتحدة «تراث أجيال وأجيال»، كما قال هو، رغم أنها تقل عددا ونوعا، مرة بعد مرة، حسب رأي ريتشارد كوهين، (اليهودي) في صحيفة «واشنطن بوست» مبررا ذلك بقوله إن الكلمة المتداولة في الوقت الحاضر هي «كونفرنتيشن» أي «مواجهة»، وكان يقال قبل 50 عاما، «كلاشيز» أي «اشتباكات»، ودموية أحيانا، وقبل مائة عام، كانت «ديسكريمنيشن» أي «تفرقة وتمييز»، وقبل مائتي عام، كانت «سلافيري» أي «عبد رقيق».

* نوعان من التفرقة

* طبعا، انتهت إلى غير رجعة سنوات الرقيق، وسنوات التفرقة العنصرية العلنية والرسمية. لكن، لم ينته (ولن ينتهي) نوعان من التفرقة، حسب خبراء وسياسيين أميركيين: أولا: التفرقة بسبب الاختلاف.. تفرق الاختلافات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بين الأغلبية البيضاء والأقلية السوداء، بصرف النظر عن الجانب العنصري، تفرق هذه الاختلافات بين البيض أنفسهم، وبين السود أنفسهم.
ثانيا: التفرقة الخفية: بسبب الجانب العنصري، أو من دونه، يظل البيض، ليس فقط الأكثر عددا، ولكن، أيضا، الأكثر مالا، وقوة، ونفوذا، وتعليما.. ومثلما يحدث في الدول الأخرى، تظل «الطيور على أشكالها تقع» (مثل أميركي، وعربي أيضا).
وكما صار واضحا، ورغم أن أوباما يريد أن يكون رئيسا لكل الأميركيين، كما انتخب، فإنه كلما تهب عاصفة عرقية، يجد نفسه يميل نحو «أشكاله». وفي الأسبوع الماضي، خصّ تلفزيون «بلاك إنترتينمنت» («الترفية للسود»، اسم قناة كبيرة متخصصة في شؤون السود، ويملكها ملياردير أسود) بمقابلة عن هذا الموضوع، وقال فيها العبارات السابقة. وقال أيضا، وهو يخاطب السود، وليس البيض: «حين تتعلق المسألة بأمر مترسخ مثل العنصرية أو التفرقة في أي مجتمع، يجب التيقظ. لكن، يجب الإقرار أيضا بأن هذا الأمر مستمر منذ فترة طويلة.. إذا تحدثتم عن هذا الموضوع مع الأهل، والأجداد، والأعمام، سيقولون إن الأمور تحسنت. سيقولون إنها ليست مثالية في بعض الحالات، لكنها أفضل».

* السبب هو أوباما
* من المفارقات أن ترتفع درجة حرارة هذه المواجهات في عهد أوباما.
* حدثت مواجهات قليلة في عهد رؤساء قبله، بسبب حوادث قتل فردية مثل التي حدثت خلال الشهور القليلة الماضية. لكن، صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة.. وذلك لأكثر من سبب:
أولا: وضع كثير من السود آمالا كبيرة جدا فيه. ظنوا أنه سيقضي على بقايا التفرقة العنصرية العلنية (مثل هذه المواجهات بين السود والشرطة)، وسيقضي، ربما، على التفرقة الخفية (استعلاء البيض بسبب قوتهم العرقية والاقتصادية، والسياسية، إلخ..).
ثانيا: تململ كثير من البيض بسبب وجود رئيس أسود عليهم (هذه تفرقة خفية أكثر منها تفرقة علنية)، رغم أنه فاز مرتين، ورغم أنه معتدل، ورغم أن والدته بيضاء.. لا يمكن وصفهم بأنهم عنصريون.. لكن، يظل الاستعلاء، خفيا، إن لم يكن علنا.
> هل كان يمكن غير ذلك؟
كتب عن هذا الموضوع جيفري هافينسون، في معهد «هيرتدج» اليميني في واشنطن. وكعادة الخبراء والسياسيين البيض كان حذرا، وتحاشي انتقاد أوباما بوصف أوباما أسود.. انتقده بصفته رئيس. وقال إن أوباما «يجب أن يكون رئيسا لكل الأميركيين». هذه إشارة إلى تصريحات أوباما عن «تصرف الشرطة» و«الشرطة صديقة الشعب».. وهي نفسها تصريحات حذرة، لأن أوباما لا يريد أن يقول: «الشرطة البيضاء تقتل الشباب السود».
لكن، صرح مسؤولون بيض آخرون تصريحات أكثر مباشرة، مثل فيل براينت، حاكم ولاية ميسيسيبي، وهو جمهوري، مثل كل حكام الولايات الجنوبية. ومن المفارقات أن الحزب الجمهوري في القرن التاسع عشر (حزب الرئيس أبراهام لينكولن) قاد الحملة ضد تجارة الرقيق، التي كان يؤيدها الحزب الديمقراطي. الآن، مع بداية القرن الحادي والعشرين، حدث العكس: صار الحزب الجمهوري هو الأبعد من السود، وصار الحزب الديمقراطي هو الأقرب إليهم. لكن، لهذا السبب نفسه، تحولت الولايات الجنوبية من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري.
قال حاكم ولاية ميسيسيبي: «يجب عدم السكوت عن المظاهرات القبيحة (مظاهرات السود) ضد الشرطة». وعلى الوتيرة نفسها، نشرت صحيفة «ويكلي ستاندارد» اليمينية موضوع غلاف عنوانه: «نو لو، نو أوردر» (لا قانون، لا نظام). يشير هذا إلى الشعار التقليدي «لو آند أور» (القانون والنظام). ويشير إلى أن السود الذين يسرقون (مثل براون في فيرغسون)، والذين يرفضون أوامر الشرطة باعتقالهم (مثل غارنر في نيويورك)، هم الذين يتحملون المسؤولية.
وكتبت الصحيفة: «إذا لم يسرق براون، ما كانت الشرطة ستتعقبه، وإذا لم يقاوم غارنر، ما كانت الشرطة ستستعمل القوة معه. أضف إلى هذا أن براون كان سرق من محل لبيع الخمور، وأن غارنر كان يبيع سجائر في الشارع خرقا للقانون. الذي يخرق القانون لا يلوم إلا نفسه».

* لاعبو كرة القدم
* كتب ريتشارد كوهين أن مظاهرات السود (وبعض البيض المؤيدين لهم)، التي ظلت مستمرة من الصيف، منذ أن قتل شرطي أبيض الشاب الأسود براون في فيرغسون، ربما وراء زيادة غضب بعض السود، وزاد غضب السود حتى وصل إلى قتل شرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي. لا يوجد دليل مباشر، لكن، الحقيقة هي أن المظاهرات المستمرة، والاشتباكات مع الشرطة، زادت التوتر.
مثل الذي حدث في مدينتي بيركلي وأوكلاند (ولاية كاليفورنيا)..حطم بعض المتظاهرين واجهات المتاجر، ونهبوا عددا من المحلات التجارية.
واعتقلت الشرطة عددا من المتظاهرين، وقطع المحتجون طريقا سريعا رئيسيا، وألقوا زجاجات، وقلبوا صناديق النفايات وأحرقوها. استمرت هذه المظاهرات لأيام، وتطورت أكثر عندما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع.
وانطلقت مظاهرات واشتباكات مماثلة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ورفع المتظاهرون لافتات تقول: «شرطة قتلة»، و«فيرغسون في كل مكان»، و«أوقفوا عنف الشرطة». غير أن أكثر شعار يقال إنه ساهم في زيادة العنف، خصوصا قتل الشرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي، هو: «ماذا نريد؟»، ويردد المتظاهرون: «مواجهة الشرطة؟» و«متى نريد ذلك؟» ويردد المتظاهرون «الآن».
وانضم نجوم رياضيون سود إلى الحملة، وارتدى بعضهم قمصانا مكتوبا عليها: «لا أستطيع التنفس» (الكلمات الأخيرة التي يقال إن غارنر قالها بينما كان الشرطي يلقيه أرضا، ويمسكه من رقبته).

* عودة إلى فيرغسون
* من المفارقات أن ما حدث في نيويورك، والمظاهرات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، أعادت التوتر في فيرغسون، حيث كان الحادث الأول في الصيف الماضي. ونقل تلفزيون «سي إن إن» (ظل يعسكر هناك منذ الصيف، وكأنه يعرف أن التوتر سيعود) مناظر جديدة لمظاهرات واشتباكات مع الشرطة.
وقال بنجامين كرمب، محامي عائلة براون، إن العائلة لا تريد أعمال عنف جديدة. بينما أكد شهود تعرض محل لبيع المشروبات الكحولية للنهب
) وهو المحل نفسه الذي قالت الشرطة إن براون كان دخله لسرقة سجائر منه، مما دفع الضابط ويسلون إلى إطلاق النار عليه، في الصيف الماضي).
ورمى عدد من المتظاهرين الحجارة على رجال الشرطة، وسمعت طلقات نارية، وأُضرمت النار في سيارة تابعة للشرطة.
في فيرغسون، كان الشرطي ويسلون أطلق النار على براون في أغسطس (آب) الماضي. وبعد 3 شهور، قررت هيئة المحلفين عدم توجيه اتهامات إلى الشرطي. في ذلك الوقت، عادت المظاهرات والاشتباكات إلى فيرغسون.. ثم، في الأسبوع الماضي، عادت مرة ثالثة بعد ما حدث في نيويورك.

* التكنولوجيا
* حسب رأي ريتشارد كوهين، وهو رأي معتدل، «لا أنتقد السود، ولا أنتقد البيض»، لعبت التكنولوجيا دورا في تسخين المواجهات، خصوصا انتشار الصور والفيديوهات في المواقع الاجتماعية:
أولا: صورة براون في فيرغسون، ملقى على الأرض (قيل إنه ظل كذلك 3 ساعات).
ثانيا: فيديو شرطة فيرغسون في ملابس عسكرية ومعدات «حرب الإرهاب» (منذ سنوات، يهدي البنتاغون شرطة الولايات معدات عسكرية).
ثالثا: فيديو قتل غارنر، حيث يمسك الشرطي به من رقبته لطرحه أرضا، وهو يصيح بأنه لا يقدر على التنفس.
رابعا: فيديو أوباما وهو يقول: «غالبا، يعتقد الناس أن البعض يعاملون بإنصاف. في بعض الحالات يكون هناك سوء فهم. لكنه أحيانا الواقع». قال كثير من البيض في المواقع الاجتماعية إن هذا كلام دبلوماسي يؤيد فيه أوباما «إخوانه».

* عمدة نيويورك
* وإذ حمل بعض البيض أوباما مسؤولية ما حدث (لأنه الرئيس، ولأنه أسود، ولأن تصريحاته فيها غمز ولمز)، حملوا عمدة نيويورك المسؤولية أيضا، عندما بدأت المظاهرات بعد تبرئة قاتل غارنر، وقال العمدة، بيل دي بلازيو: «إنه يوم مؤثر ومؤلم جدا للمدينة. لا بد من إيجاد سبيل للمضي قدما». ومثل تصريحات أوباما، فهم بعض الناس أنه يدافع عن غارنر، ويعارض الشرطة، شرطة المدينة التي تعمل تحت أوامره، وتساعده على حفظ النظام.
وأشار بعض الناس إلى أن زوجته سوداء، وأنها من قادة النشطاء السود في المدينة. وأشاروا إلى قول العمدة عن ابنه الأسود بأنه دائما يحذره.. «على مدى سنوات، من المخاطر التي يمكن أن يواجهها». وكان يمكن أن يحذره من ألا يخرق القانون، أي إن العمدة نوه بعداء الشرطة، ولم يركز على أهمية إطاعة القانون.
وهكذا، تحول حادثان مؤسفان، قتل فيهما صبيان، إلى سلسلة مواجهات تاريخية بين البيض والسود.. هي تاريخ الولايات المتحدة من قبل أن تكون هناك الولايات المتحدة. اليوم، توجد مواجهتان: علنية (وهذه يمكن أن تهدأ)، وخفية (وهذه ربما لن تنتهي).



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.