بعثات الأمم المتحدة.. السلام الضائع

المنظمة الدولية أرسلت أكثر من 50 مبعوثا وممثلا ومستشارا ومنسقا إلى مناطق ساخنة.. لكن دون جدوى

بعثات الأمم المتحدة.. السلام الضائع
TT

بعثات الأمم المتحدة.. السلام الضائع

بعثات الأمم المتحدة.. السلام الضائع

في الأسبوع الماضي، قال مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، لتلفزيون «بي بي سي» البريطاني إنه يعتقد أن «ثمة فرصة متاحة لحل الأزمة السورية». وأن وقف إطلاق النار «قد يتحقق بسبب التهديد المشترك الذي يمثله مسلحو تنظيم داعش»، لعدة جهات إقليمية ودولية. وأشار دي مستورا إلى حالة الإرهاق التي بدأت تظهر بين الأطراف من طول النزاع. لكن المبعوث استدرك قائلا: «سيكون الحديث عن خطة سلام حديثا طموحا، ومضللا». هكذا تبدو الأمور على هذه الشاكلة دائما.. حروب ساخنة، قضايا معقدة، واجتهادات أممية طموحة، لكنها مضللة؛ إن لم تكن فاشلة.. عشرات المهام للمبعوثين الدوليين من كل الجنسيات.. يجوبون أركان العالم لنزع فتيل الحروب، في الشرق الأوسط، وأفريقيا وأوروبا.. من رواندا إلى الكونغو والسودان ودارفور والجنوب.. إلى فلسطين والعراق وسوريا.. واليمن وليبيا وأوكرانيا.. وغيرها.. وغيرها.. والمحصلة دائما مخيبة.
في العام الماضي، عقد مركز «بروكينغز» في واشنطن ندوة عن «دبلوماسية الأمم المتحدة»، والمبعوثين الذين يرسلهم الأمين العام للأمم المتحدة، خصوصا إلى سوريا (في ذلك الوقت، كان المبعوث الرابع هو الإبراهيمي). وقد خلصت الندوة إلى مجموعة أفكار تبين أسباب فشل البعثات الدبلوماسية.
قال جيفري فيلتمان، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، وسابقا كان سفيرا في الخارجية الأميركية، إنه أحس بأنه «عاري» عندما انتقل من دبلوماسي أميركي إلى دبلوماسي دولي. وذلك لأنه كان يتحدث «باسم القوة الأميركية»، ثم، فجأة، وجد نفسه عاريا «دون قوة». ولهذا، لم ينجح مبعوثو الأمم المتحدة لأنه لا تقف إلى جانبهم «هذه القوة الأميركية».
ستروب تالبوت، رئيس مركز «بروكينغز»، وسابقا كان رئيس تحرير مجلة «تايم»، ونائب وزير الخارجية، قال إنه دون دبلوماسية الأمم المتحدة (المبعوثون) كانت الأمم المتحدة ستعجز عن تحقيق ما حققت. وذلك لأنها لا تقدر على التركيز على العمليات العسكرية (القوات الدولية) لأنها لا تملك قوات مسلحة. وقال ويغار سترومان، سفير النرويج في واشنطن، وسابقا كان مبعوثا للأمم المتحدة إلى البوسنة والصرب، إن نجاح أو فشل المبعوث يعتمد على اتفاق أو عدم اتفاق الدول الكبرى (دول الفيتو في مجلس الأمن). وفي فترة النقاش، جاءت هذه الآراء:
قال أحدهم: «كل شيء يعتمد على مصلحة الغرب. متى نجح مبعوث دولي عندما حاول حل مشكلة بطريقة لا تخدم مصلحة الغرب؟». وقال ثان: «كان ريتشارد هولبروك أنجح مبعوث دولي». وقال ثالث: «كان هولبروك أنجح مبعوث دولي لأنه كان مناكفا. هل يجب أن يكون المبعوث الدولي مناكفا لينجح؟».

* في انتظار الفشل.. أو النجاح
* هنا قائمة غير حصرية لمبعوثين شخصيين باسم الأمين العام للأمم المتحدة، في وظائفهم الحالية، وفي انتظار نجاحهم أو فشلهم؛ وهم: كريستوفر روس (الولايات المتحدة): الصحراء الغربية. هيلي منكريوس (جنوب أفريقيا): السودان، وجنوب السودان. هيروت سيلاسي (إثيوبيا): الساحل الأفريقي. روبرت فاولر (كندا): النيجر، أغاديز. نيكولاس ميشال (سويسرا): الغابون وغينيا الاستوائية. سعيد جينيت (الجزائر): البحيرات، أفريقيا. مودبو توري (مالي): البحيرات، أفريقيا (موفد ومستشار). روبرت سيري (هولندا): السلطة الفلسطينية. جيمس رولي (الولايات المتحدة): المساعدات الإنسانية، الأراضي الفلسطينية المحتلة. تيرجي لارسين (النرويج): لبنان. جين لوتي (الولايات المتحدة): معسكر «الحرية» الإيراني في العراق. ستيفان دي مستورا (إيطاليا): سوريا. رمزي عز الدين رمزي (مصر): مناوب، سوريا. جمال بنعمر (المغرب): اليمن. نيكولاس كاي (الولايات المتحدة): الصومال. عبد الله المعتوق (الكويت): المشكلات الإنسانية. سجريد كاق (هولندا): أسلحة سوريا الكيماوية. جورج كاربنتر (فنلندا): ليبيا، مساعدات إنسانية. ليلى زروقي (الجزائر): الأطفال في مناطق الحرب. أنتوني بانبيري (بريطانيا): «إيبولا». براسادا جونالاقادا (الهند): الإيدز. جينس كاركلينغ (لاتفيا): الإنترنت. أحمد الهنداوي (الأردن): الشباب. ولأن ميثاق الأمم المتحدة يكلف مجلس الأمن بالمحافظة على الأمن، سواء بمنع الحروب حتى لا تبدأ، أو بوقف الحروب بعد أن تبدأ، فإنه يوجد اختلاف بين 3 مهام: أولا: قوات حفظ السلام، وهي تقوم بإرسال قوات عسكرية بعد نهاية حرب؛ مثلا: في الجولان، وفي سيناء، وفي البوسنة، وفي جنوب السودان. ثانيا: عملية بناء السلام، وهي القيام بجهود دبلوماسية لمنع بداية حرب، أو منع استئنافها؛ مثلا: قرارات وقف إطلاق النار، وتشجيع المفاوضات، وإرسال مبعوثين. ثالثا: عمليات صناعة السلام، هذه جهود بعيدة المدى.. وتتمثل في البرامج الإنسانية، والتعليمية، والصحية، والثقافية. في كل الحالات، يصدر مجلس الأمن القرارات، ويقوم الأمين العام بتنفيذها. وبالنسبة للجهود الدبلوماسية لمنع بداية حرب، أو منع استئنافها، فإنه يوجد هيكل معقد في مكتب الأمين العام.
وهنا أسماء بعض وظائف الذين يقومون بهذه الجهود الدبلوماسية (يبلغ عددهم 50 تقريبا): وهي: مبعوث شخصي، مثل ستيفان دي مستورا، سوريا. ومبعوث خاص، تيري رود لارسين، لبنان. ومستشار خاص، مثل جين لوتي، معسكر «الحرية» في العراق. ومنسق خاص مثل روبرت سيري، عملية السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وممثل خاص مثل نيكولاس هيسوم، أفغانستان. ومبعوث إنساني، مثل عبد الله المعتوق، الكويت. ومدير بعثة. مثل الجنرال إقبال سنخا، مرتفعات الجولان.
بالإضافة إلى الدبلوماسيين، يقدر الأمين العام للأمم المتحدة على اختيار شخصيات عالمية مشهورة لمساعدته في مهمة وقف الحروب، أو منع الحروب.. مثلا: في عام 1993، اختار سايروس فانس، وزير الخارجية الأميركي في إدارة الرئيس جيمي كارتر، مبعوثا خاصا إلى البوسنة، خلال الحرب بين البوسنة المسلمة وصربيا المسيحية الأرثوذكسية. في عام 2000، اختار جيمس بيكر، وزير الخارجية في إدارة الرئيس بوش الأب، مبعوثا خاصا إلى الصحراء الغربية. في عام 2009، اختار الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون مبعوثا خاصا إلى هايتي، وذلك بعد الزلزال الذي دمر أجزاء كبيرة من العاصمة، وبعد فوضي سياسية وعسكرية استدعت إرسال قوات من الأمم المتحدة. في عام 2012، اختار كوفي أنان، الذي كان أمينا للأمم المتحدة، مبعوثا خاصا إلى سوريا. وكان ذلك بتنسيق مع جامعة الدول العربية.
في عام 2012، اختار غوردن براون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، مبعوثا خاصا لشؤون التعليم. ومن وقت لآخر، يستحدث الأمين العام للأمم المتحدة مواضيع جديدة، ويعين لها مبعوثين. مثلا: مبعوث خاص للشباب، ومبعوث خاص لمرض الايدز، وأخيرا، مبعوث خاصة لمرض «إيبولا».

* محاولات الإصلاح
* فشل معظم بعثات السلام دعا مجلس الأمن الدولي في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي لتبني أول قرار يتعلق بعمليات حفظ السلام. وللمرة الأولى خلال 15 عاما، كلف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الحائز على جائزة نوبل للسلام، خوسيه راموس هورتا بإعادة النظر في مفهوم عمليات قوات حفظ السلام التي قتل عشرات من جنودها في مالي وخطف آخرون في هضبة الجولان السورية في الأشهر الماضية، فيما يشهد العالم رقما قياسيا من الأزمات. وأسرع الرئيس السابق لتيمور الشرقية في مباشرة العمل. وسيسعى مع فريق الخبراء الذي يترأسه إلى تحديد سبل تحسين هذه العمليات في سائر أرجاء العالم والحصول على مانحين (بالجنود أو المال) وعلى مزيد من الدعم. وقال خوسيه راموس هورتا من مقر الأمم المتحدة في نيويورك: «وضع عمليات حفظ السلام تغير بمجمله نحو الأسوأ في بعض الجوانب». وأضاف أن فريق الخبراء سيسعى إلى إقناع القوى الناشئة، مثل الصين والبرازيل والهند وتركيا ومصر، بتقديم مساهمة أكبر سواء في ما يتعلق بالوسائل المالية واللوجيستية أو الجنود.
وسينظر أعضاء الفريق الـ15 أيضا في عدم التوازن بين الدول الثرية التي تمول عمليات حفظ السلام (الولايات المتحدة واليابان وفرنسا) والدول الفقيرة التي تساهم بقوات مثل بنغلاديش وباكستان والهند. وهذه السنة سحبت الفلبين قوتها المتمركزة في هضبة الجولان في إطار قوة مراقبة فض الاشتباك بعد تعرض جنودها لهجوم مسلحين معارضين سوريين، واحتجاز جنود فيجيين من «القبعات الزرق» رهائن. وفي شمال مالي، خلفت سلسلة هجمات عنيفة 31 قتيلا في صفوف جنود الأمم المتحدة منذ انتشار البعثة في يوليو (تموز) 2013.
وقد تطور دور «القبعات الزرق» من مراقبة خطوط وقف إطلاق النار إلى دور «المحاربين الحراس للسلام» مما يثير قلق الدول المساهمة بقوات. ويعتزم فريق الخبراء هذا التوجه إلى هذه البلدان للاستماع إلى مطالبها وكذلك إلى المقر العام لحلف شمال الأطلسي في بروكسل للسعي إلى إقناع الحلف بالمساعدة على تعزيز عمليات الأمم المتحدة. وسيبحث أعضاء الفريق أيضا مع الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في كيفية مشاركة الدول الأفريقية في هذه المراجعة لا سيما أن كثيرين من جنودها يفتقرون للتدريب أو يتهمون بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
ورأى هيستر بانيراس، قائد القوة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور بغرب السودان، أن قرار مجلس الأمن الأخير «يمنحنا مزيدا من هامش المناورة لتلبية بعض حاجاتنا وإحداث فرق على الأرض».
وتساهم نحو 90 دولة في قوات السلام في إطار 13 عملية أممية لحفظ السلام في العالم بمشاركة نحو 12 ألفا و500 شرطي حاليا مقابل 1600 فقط قبل 20 عاما.

* الوضع في سوريا
* سؤال لا يزال يحير كثيرا من المراقبين، هل ينجح المبعوث الدولي الخامس إلى سوريا فيما لم ينجح فيه المبعوثون الأربعة قبله؟
كان الأول سودانيا: الفريق محمد أحمد الدابي. قبل أن يصل إلى سوريا، واجه تغطية إعلامية غير مشجعة، ورد فعل من المعارضة السورية غير مشجع أيضا، ولذعات مثل أن اسمه «الدابي» وهو «الثعبان» بالعامية السودانية، وكانت منظمة «هيومان رايتس ووتش» جادة عندما قالت إنه اشترك في «الإبادة» التي نفذتها حكومة الرئيس الفريق عمر البشير في دارفور.
وكان الثاني نرويجيا: الجنرال روبرت مود، الذي عين قائدا لقوات المراقبة الدولية، ثم أخذ نصيبه من الغموض: هل هي قوات مراقبة؟ أم حفظ سلام؟ هل هو قائد عسكري؟ أم مبعوث دبلوماسي أيضا؟ في البداية، طلب زيادة عدد القوات، ثم طلب تجميد طلبه، ثم أعلن تجميد عمل القوات، ثم انسحب. وقال: «ليس سقوط نظام الأسد إلا مسألة وقت»، ثم قال؛ في المؤتمر الصحافي نفسه: «لن يكون سقوط الأسد كافيا لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا».
وكان الثالث المناوب سنغاليا: الجنرال أبو بكر غاي، الذي خلف الجنرال النرويجي، لكنه، لم يكن مبعوثا شخصيا، واكتفى بمنصب ممثل الأمين العام وقائد قوات المراقبة، بعد أن انخفضت من 500 إلى 150 فقط، ثم إلى صفر.
وكان الثالث الرئيسي غانيا؛ كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة. تفاءل، وقدم خطة من 6 نقاط. وبعد 6 أشهر، بدأ يشتكى الدول الكبرى للصحافيين، في مؤتمراته الصحافية. ومما قال: «آن الأوان لتزيد الدول الكبرى الضغط على الأطراف السورية المختلفة.. آن الأوان للتحرك. أكرر: آن الأوان لنتحرك.. الآن»، وحذر من استفحال الأزمة في سوريا، و«احتمال انتشارها إلى الدول المجاورة» (قبل قرابة 3 سنوات من «داعش العراق»). وحذر من أن هناك مائة ألف لاجئ سوري (وصل العدد الآن إلى قرابة 5 ملايين، في الداخل والخارج).
وكان المبعوث الرابع جزائريا: الأخضر الإبراهيمي. ومثل الغاني، راهن على الدول الكبرى، وخيبت أمله. راهن على مؤتمر «جنيف2» في عام 2014 لتطبيق إعلان «جنيف1» في عام 2012. وانهار «جنيف2» بعد جولتين فقط.
وها هو المبعوث الخامس: الإيطالي دي ميستورا. تولى منصبه في يونيو (حزيران) الماضي.
في الأسبوع الماضي، أيضا، نقلت وكالة الأنباء السورية أن الرئيس السوري بشار الأسد قال إنه ينظر في خطة هدنة دولية في حلب، تفصل بين المناطق التي يسيطر عليها الثوار، والتي تسيطر عليها الحكومة.
في الوقت نفسه، قال المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، دانيال روبنشتاين، لـ«الشرق الأوسط» إن التزام بلاده بحل سياسي في سوريا يشترط رحيل الرئيس السوري بشار الأسد. وعن خطة المبعوث، قال روبنشتاين: «لدينا نسبة عالية من الثقة فيه، ولديه سجل جيد في المجتمع الدولي». ثم استدرك روبنشتاين، وقال: «الوقت مبكر لمعرفة التفاصيل التي يفكر فيها، أو التي يمكن الاتفاق عليها من قبل الأطراف المختلفة».
وفي الوقت نفسه، قال وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم: «سوف نتسلم قريبا جدا صواريخ (إس 300) المضادة للطائرات»، والتي كانت موسكو جمدت تسليمها قبل أكثر من عامين، استجابة لضغوط أميركية وإسرائيلية.
أما في جانب المعارضة السورية، فحدث ولا حرج.. قال قائد قوات «فجر الحرية» وائل الخطيب: «لن نقبل بأي هدنة مع النظام إلا بعد سقوطه». وقال قائد «جيش القصاص»، فراس الخرابة: «ليس للنظام السوري أي ذمة أو عهد». وقال قائد «جيش المجاهدين»، صقر أبو قتيبة: «أصبح مجلس الأمن عاجزا عن إيجاد حل شامل للوضع السوري».

* نجاحات وسط الظلام
* في عام 1995، نجح مبعوثان نجاحا تاريخيا:
* الأول: مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة (سايروس فانس، وزير الخارجية في إدارة الرئيس كارتر). الثاني: مبعوث الرئيس الأميركي بيل كلينتون (ريتشارد هولبروك، مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية). في ذلك العام، وقعت الأطراف المتحاربة في يوغوسلافيا اتفاقية دايتون (ولاية أوهايو) لإنهاء الحرب التي بدأت قبل ذلك بأربع سنوات مع سقوط جمهورية يوغوسلافيا. (ومع سقوط الإمبراطورية السوفياتية، وسقوط الأحزاب الشيوعية في دول شرق أوروبا).
شملت حروب يوغوسلافيا مناطق مثل: البوسنة، والهرسك، وكرواتيا، والجبل الأسود، وسلوفينيا، وكوسوفو. وكانت أكبر الحروب بين المسلمين في البوسنة والمسيحيين الأرثوذكس في صربيا. ورجحت كثيرا كفة المسيحيين، ووقعوا تقتيلا في المسلمين. وبعد تجاهل، وتلكؤ، وتردد استمر 3 سنوات تقريبا، أحست الدول الغربية الكبرى (أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) أن أوروبا تشهد أكبر مذبحة منذ الحرب العالمية الثانية.
في النهاية، ربما عقدة الذنب هي التي جمعت في باريس للتوقيع النهائي على الاتفاقية كلا من: الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، ورئيس وزراء بريطانيا جون ميجور، ورئيس وزراء ألمانيا هيلموت كول، ورئيس وزراء روسيا فيكتور تشيرنو ميردين.
لهذا، ولأن الحرب كانت في قلب الغرب، ولأن الغرب (بعد تجاهل، ثم تردد) أجمع على وقفها، وإحلال السلام، نجح المبعوثان: الأممي، والأميركي.

* نجاح أم فشل؟:
* كان نجاح المبعوثين كبيرا، وتاريخيا، وذلك لأكثر من سبب:
* أولا: منعا لما كان قد أعلن عنه الزعيم الصربي رادوفان كاراديتش (في 1991، مع بداية الحرب): «خلال أسبوع واحد، سوف نزيل سراييفو من الخريطة. وخلال شهر، سوف نزيل المسلمين من البوسنة».
ثانيا: خاصة هولبروك (مبعوث الرئيس كلينتون)، وذلك لتحدي قادة أوروبيين، مثل الرئيس الفرنسي شيراك الذي عارض تأسيس «دولة إسلامية في قلب أوروبا» ومثل رئيس وزراء بريطانيا ميجور الذي كاد يبكي وهو يتحدث عن «مسيحية أوروبا». في عام 2009، تذكر كلينتون: «لم يرفض الأوروبيون إبادة المسلمين مثلما لم يرفضوا إبادة اليهود».
لكن، حتى اليوم، يظل السؤال: هل نجح المبعوثان حقيقة؟
كان النجاح المثالي هو استمرار يوغوسلافيا دولة مسيحية ومسلمة. لكن، طبعا، لم يكن ذلك ممكنا، وربما لن يكون ممكنا.
في الأسبوع الماضي، عاد إلى الصرب من لاهاي الزعيم الصربي فوغسلاف سيسيلج، بعد أن قضى أكثر من 10 سنوات في السجن (بعد أن حاكمته محكمة الجنايات الدولية على جرائم يوغوسلافيا). واستقبله عشرات الآلاف في مطار بلغراد، وقال إنه غير مقتنع بما حدث (تأسيس دولة البوسنة المسلمة، ثم تأسيس دولة كوسوفو المسلمة)، وصفق له عشرات الآلاف.

* لعنة العراق:
* وهناك المبعوث البرازيلي سيرجيو ميلو. نجح مرات كثيرة، ثم وقعت عليه لعنة العراق.
عام 1999، أرسله الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثا خاصا إلى جزيرة تيمور الشرقية للإشراف على انفصالها عن إندونيسيا، وتأسيسها بصفتها دولة مستقلة. وكان سبب نجاحه هو تأييد الدول الغربية له، تحت ضغوط من كنائس عالمية، ومن دولتين مهمتين: أستراليا (المجاورة)، والبرتغال (المستعمرة السابقة). ولم يكن صعبا عليه فصل إقليم مسيحي في جزيرة صغيرة عن دولة مسلمة تتكون من 18.307 جزيرة.
كان مرشحا ليكون أمينا عاما للأمم المتحدة، وذلك لأنه قضى كل حياته العملية في الأمم المتحدة، ونال ماجستير في الفلسفة الأخلاقية من جامعة البرازيل، ودكتوراه في الأنظمة الدولية من جامعة السوربون، وكان يتكلم 5 لغات، وكان نجح في مهام أخرى، غير تيمور الشرقية، منها: اتفاقية السلام في السودان (1972)، اتفاقية نهاية حرب بنغلاديش (1973)، غزو تركيا لجزيرة قبرص (1974).
لكن، فشل البرازيلي في مهمة أخرى: في العراق، حتى قبل أن يبدأ مهمته الرئيسية.. قتلته حرب العراق، عندما انفجر مبنى الأمم المتحدة في بغداد، وقتلت معه 20 من موظفي مكتبه. كان ذلك عام 2003 (بعد أشهر قليلة من غزو العراق). أرسله الأمين العام مبعوثا خاصا ليرسي قواعد السلام في العراق.

* «الأميركي غير الهادئ»:
* في عام 1995 عين الرئيس كلينتون الدبلوماسي المناكف ريتشارد هولبروك مساعدا لوزير الخارجية للشؤون الأوروبية. وصار مهندس اتفاقية دايتون (ولاية أوهايو) التي أنهت حرب البوسنة، وصار لقبه «كيسنجر البلقان».
لم يكن مبعوثا باسم الأمين العام للأمم المتحدة، لكنه كان يتفاوض بتفويض منه، واعتمدت الأمم المتحدة الاتفاقية، ثم أرسلت قواتها إلى هناك لتنفيذها، ولفترة من الزمن، تعاون مع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة: سايروس فانس (وزير خارجية أميركا في إدارة الرئيس جيمي كارتر). عكس فانس العاقل الهادئ، كان هولبروك مناكفا، وعندما استقال فانس «بسبب تعنت الأطراف المتحاربة»، أقسم هولبروك على أن يستمر «بسبب تعنت الأطراف المتحاربة».
وقبل الوصول إلى الاتفاق، الذي يعتبر حتى اليوم، من أكبر نجاحات الدبلوماسية الأميركية، لم يتردد هولبروك في استعمال لهجة قوية مع الذين فاوضهم، خاصة سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس الصرب السابق (مرة قال له في وجهه أمام صحافيين: «أنت كذاب محترف»).
بعد البوسنة، أرسل إلى أفغانستان، ومع الرئيس الأفغاني حميد كرزاي كانت له مواجهات ساخنة، لكن، كانت مهمته الأخيرة هذه هي الأصعب التي كلف بها. وتوفي فجأة، بعد أن عاد من زيارة أخرى إلى هناك.
لكن:
أولا: هذا «الأميركي غير الهادئ» (اسم كتاب عنه، إشارة إلى كتاب صدر قبل 50 سنة هو «الأميركي الهادئ»)، لم ينجح في البلقان إلا لأن القوة الأميركية (والأمم المتحدة) كانت معه. ولم ينجح في أفغانستان لأن القوة الأميركية (والأمم المتحدة) بدأت تضعف هناك.
ثانيا: لم يكن مناكفا فقط مع الأجانب الذين فاوضهم، بل أيضا مع زملائه الأميركيين. ناكف هيلاري كلينتون لأنه كان يرى أنه أحق منها وزيرا للخارجية. ويقال إن أوباما وعده بأن يخلفها.. لكنه توفي قبل عامين من استقالتها. وناكف زوجاته الثلاث؛ واحدة بعد الأخرى، مع أخبار بأنه كان «زير نساء».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.